بقلم: محمد الطاهر النباوي (مدير دار الثقافة) عديدة هي الثورات التي قامت في العالم ضد الطغاة والمستبدين ومن تبعهم من الوصوليين والمتمعشين الذين تكبلهم أنانيتهم وتغريهم شهواتهم فتعمي بصيرتهم عن التفكير في غير مصالحهم الضيقة، ولكن هذه الثورات لم تكن أبدا كما كانت الثورة الشعبية التي قامت في تونس يوم الرابع عشر من جانفي فلا ثورة الاسبان ضد فرانكو، ولا ثورة الايرانيين ضد الشاه، ولا ثورة الرومانيين ضد تشاوسسكو ولا ثورة البولونيين ضد الشيوعية ولا غيرها من الثورات كانت شبيهة بثورة الشباب في تونس، فكل ثورة لها منظروها الا ثورة تونس فهي ثورة شعبية تلقائية بدأها شاب من سيدي بوزيد اسمه محمد البوعزيزي، احترق قلبه قهرا وظلما ولم يجد من يقتص له فأحرق نفسه أمام مقر الولاية، تعبيرا منه عن رفضه القاطع لكل أشكال الاحتقار والاهانة وتأكيدا منه أن الكرامة لا يمكن ان تباع أو تشترى مهما كان الثمن وأنه بدونها لا معنى لحياة الانسان، فالمرحوم محمد البوعزيزي لم يكن جائعا ولم يستسلم مثله مثل غيره من شباب تونس الى الجوع والفقر رغم البطالة، بل كان شابا مكافحا وصبورا لم يدخر جهدا لاعالة أسرته أقول هذا حتى لا تشوه صورة شباب تونس وحتى لا تكون الشرارة الأولى لانطلاق الثورة هي رغيف الخبز، فلقد شهدنا، في العديد من المناسبات، سنوات قاسية عجاف وضعتنا على شفا المجاعة ولكننا صبرنا عليها، فثورة شباب تونس هي ثورة الكرامة وثورة العزة وثورة الانفة، انها انفجار رهيب لتراكمات عشرات السنين من الصبر على كل أشكال الاستعباد والاذلال والاحتقار وإلجام الأفواه عن التعبير، لهذا، لما قتل البوعزيزي، فقد قتل ولم ينتحر، انتصر له الجميع الشباب والشيوخ والكهول وكذلك الأطفال، المشتغلون والعاطلون، المثقفون والأميون: النساء والرجال من كل الشرائح والفئات، المقهورون والممنوعون من حرية التعبير، ان البوعزيزي هو الفتيل الذي أشعل القنبلة، قنبلة الثورة الشعبية العارمة التي لم تبق ولم تذر من رموز الفساد وأذنابهم ثورة عمت كل الأماكن في الشمال والجنوب والغرب والشرق، لم تتقيد بمكان ولا بزمان، فساعة الصفر كانت البوعزيزي والبوعزيزي كان في كل مكان من جهات تونس، في المدن والقرى والأرياف، في البراري والبحار، في السهول والصحارى والجبال، في الهواء الذي نتنفسه... ولأن البوعزيزي في كل مكان فمن حقه علينا أن يكون في قلب كل تونسي يرنو الى الديمقراطية ويعشق الحرية ويتوق الى العدالة... ولأن البوعزيزي في كل زمان فمن الواجب علينا ان يكون بداية التاريخ لتونس اليوم، الحضن الدافئ لكل أبنائها والقلب المفعم بالحب والحنان، والنبع المتدفق صفاء ونقاوة ورحمة... ولكي تكون تونسالجديدة مثلما أرادها شهداء الثورة وجرحاها والمشاركون فيها، فلا بد أن تقطع مع كل الممارسات السلبية التي تسيئ الى الثورة، لا مجال اليوم لاحتضان الثورة والالتفاف حولها وسرقتها من أصحابها لأنها ملك للشعب وملك الشعب ملك عام لا يمكن أن تستفرد به فئة أو شريحة أو ايديولوجيا دون البقية، فالكل أمامه سواسية لا يمكن الأخذ الا بقدر العطاء ولا يكون الأخذ والعطاء الا في اطار القانون والعدالة ولا سبيل الى قانون لا يحتكم الى مؤسسات دستورية ولا الى مؤسسات دستورية لا تعتمد على الديمقراطية ولا يساهم في تأسيسها الجميع... ولا مجال اليوم الى ثورة الانتقام وتصفية الحسابات لأنه من غير المعقول أن نتخلص من ديكتاتورية لنؤسس لديكتاتورية مضادة ونضيع قدسية الثورة وصفاءها ونقاءها، بل المجال اليوم لتصحيح المسار باعادة الحقوق الى أصحابها الشرعيين ومحاسبة المذنبين محاسبة نزيهة تتوفر فيها كل الضمانات وتراعى فيها حرمة الانسان التي كانت مفقودة في السابق وافشاء مناخ العدل والحرية والكرامة والتأسيس لعهد جديد ليس كالعهود السابقة، عهد تترجم فيه النظريات والشعارات التي كانت في زمن الديكتاتور المخلوع حبرا على ورق الى واقع ملموس يجسم قدرة شعبنا البطل على تحقيق ما عجزت عنه الشعوب الأخرى التي لا تزال ترزح تحت الظلم والقهر والذل والهوان، ويخلد اسهاماته الرائدة في الحضارة الانسانية نحن اليوم نبني ولا نهد، نقطع مع السلبيات ونصلح ما فسد، نداوي وان لا مناص نقطع العضو المريض من الجسد، نتعاهد، بروح الرجل الواحد، من أجل عزة ومناعة ووحدة هذا البلد، وما أحلى ان نغني معا، كما قال الصغير أولاد أحمد: نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد...