لقد جاء الحوار مع السيد حمادي الجبالي عبر وسائل الاعلام السمعية والبصرية معبرا عن تطلعات الغالبية من شعبنا، في العيش بأمان، وفي كنف دولة يحترم فيها القانون، ولامكان فيها للمفسدين وللتكفيريين، وكانت رسائله جدّ مطمئنة، بعد ثلاثة أحداث لها من الأهمية بمكان، عرفتها بلادنا، وقد شدت انتباه الرأي العام المحلي والعالمي، فكانت الحادثة الأولى تلك الزيارة المفاجئة التي أدّاها سيادة رئيس الحكومة الى ميناء رادس حلق الواد، ووقف فيها على الكثير من التجاوزات، والمخالفات "لِمافِيَات" الفساد المحسوبة على العهد البائد والتي تتمعّش بتهريب البضائع الفاسدة، وبطرق غير قانونية على حساب شعبنا، والتى تدعّم السّوق السّوداء الموازية، لتنخر اقتصاد البلد، متهرّبة من دفع الضرائب الديوانية، وتستعين لتحقيق مبتغاها، بزمرة فاسدة من أعوان الدّيوانة التونسية، مِمَّن ارتبطوا بالعهد الفاسد، واستثرَوْا عن طريق الرشاوي والحوافز التى تقدم لهم من طرف "مافيات" الفساد، وقد كان لهذه الزيارة المفاجئة تداعيات على سوق المنصف الباي الذي عرف بعيد الزيارة مباشرة، حريقا هائلا في محلاّت التّجارة الإلكترونية، وجدّ في ظروف غامضة، ومريبة، قد يكشف التحقيق عن ملابساتها، والضالعين فيها، وكانت الحادثة الثانية وهي لا تقلّ خطورة عن الاولى هي تحرّكات همجيّة لسلفيين، خارجين على القانون، والتي تعرضت بسببها الجهة الى حرق لمراكز الأمن، واعتداء على مؤسسات خاصة، ومؤسسات عمومية، والحادثة الثالثة وهي مبادرة السيد نورالدين البحيري وزير العدل بإعفاء اثنين وثمانين قاضيا من مهامهم بما يخوّله له القانون، وقد لقيّت هذه المبادرة تأييدا ومباركة من طرف عامّة شعبنا، في حين لقيّت معارضة من طرف جمعية القضاة من جهة، ومن طرف نقابة القضاة من جهة أخرى، وقد دعت هذه الأخيرة الى الاضراب ونفذته قصد اجبار وزير العدل للعدول عن قراره، وقد جاء هذا الحوار في الوقت المناسب، ليطمئن الرأي العام المحلى والعالمي على مستقبل بلادنا، وفي وقت راجت فيه الشائعات الكاذبة، والتّصريحات المهوِّلة والحكم على الحكومة من بعض الأحزاب بالفشل، ومن بينها "الحزب الجمهوري"، وقد جاء رَدُّ رئيس الحكومة على مجمل هذه الأحداث موضحا لمواقف الحكومة بكل جُرأة، وحزمٍ إزاءَ هذه التّجاوزات الحاصلة والتحركات السلفية المسترابة، وجاء ردُّ ه حازما، ومعلنا الحرب على هؤلاء المفسدين ومعاونيهم الذين يربِكون اقتصاد البلد، وأكّد على أنَّ الحكومة ماضية في محاربة الفساد على جميع الجبهات، وعلى جميع المستويات، بما فيها وزارة العدل ووجّه برسالة واضحة، وحازمة للسلفيين مؤكدا أنّ "حزب النهضة" لن يتحالف مع من يكفّر النّاس مشيرا الى أنّ صبر الحكومة والشعب التونسي قد نفد حيالهم، وقد بيَّن أنَّ السَّلفيين يسيئون لأنفسهم وللإسلام بفهمهم الخاطئ للشريعة التي تجسد في حقيقة الأمرمبادئ الحريّة، والديمقراطية، وحقوق الانسان وبمنهجهم القائم على الاكراه والعنف تجاه المجتمع والدولة مشجّبا الأعمال التّخريبيّة التى وقعت في جندوبة والتّى أساءت كثيرا لصورة تونس السيّاحية، واستغلّتها أطراف سيّاسية لتضخيم الانفلات الأمني في البلد.وقد جاءت ردود أفعال الأحزاب السياسية على هذا الحوارمتفاوتة بين مؤيد ومتحفّظ ومعارض، فجاء ردّ السيّد محمد القوماني أمين عام حزب الاصلاح والتنمية مؤيدا لهذا الحوار معتبرا ما جاء على لسان رئيس الحكومة واضحا و منسجما، ومعتبرا أيضا أنّ هذا الحوار جاء في وقت دقيق، ويساهم في ارسال مؤشرات طمأنة للتّونسيّين، خاصة في قضية رؤيته للتشدّد الدّيني واعتماده للإسلام المعتدل، الذي يعرفه كلّ التّونسيّين، وقد أزال الغموض الذي تحاول بعض الأطراف تسويقه، حول تناغم الحكومة مع هذه التّيّارات، مع تأكيده على دعوة رئيس الحكومة الى تشريك الأحزاب التي ليس لها تواجد في المجلس التّأسيسي في الحوار، حتّى تبدي رأيها في مختلف القضايا والمشاغل الوطنيَّة، وهو نفس الموقف تقريبا الذي عبّر عنه السيّد فوزي اللّومي رئيس الحزب الوطني التونسي بقوله : " في المجمل التصريح يحمل بوادر ايجابية لا بدّ من تأكيدها على أرض الواقع" كما اعتبر السيد عثمان بلحاج عمر رئيس حزب البعث أنّ اعلان عدم التحالف مع عصابات العنف نقطة إيجابية، أمَّا السيِّد أحمد نجيب الشابي القيَّادي في الحزب الجمهوري فهو غير مرتاح لكلّ ما ورد في تدخّل رئيس الحكومة، واكتفى بالتّعليق بما يلى : " شخصيًّا أسجّل استعداد الحكومة لفتح حوار مع المعارضة قصد تشخيص الوضع الدقيق الذي تمرّ به البلاد، وبحث ما يقتضيه من معالجة، وفي نفس هذا السياق جاء موقف السيد صالح شعيب أحد قياديي الخيار الثالث الجديد مع مطلبه النّظر في تركيبة الحكومة بإدخال عناصر جديدة ودم جديد قادر على الإضافة وقد جاء ردّ السيد شكري بلعيد رئيس حزب الوطنيين الديمقراطيين متشنجا وساخرا الى حدٍّ ما، بمعية السيد عصام الشابي ممثل الحزب الجمهوري من خلال البرنامج الحواري على القناة الوطنية "بين عمل الحكومة وتصورات المعارضة " وقد تابعته من الأول الى الأخير وخرجت بانطباع واحد وهو نفس الانطباع الذي عبّر عنه أحد المتدخلين بأن هذه الاطراف لا تريد حوارا، فهي تصرّ على افشال عمل الحكومة وتصوير الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بأنّه كارثي، وما على الحكومة إلاّ التعبير عن فشلها، و التّخلّي عن مهامِّها، وترك مكانها للغَيْر، ولم يقدّم لا السيّد عصام الشابّي، ولا السيّد شكري بالعيد أيّ مؤشر اقتصادي واحد يدللّ به على تدهور الوضع الاقتصادي للبلاد، بل سقط السيّد شكري بلعيد في تفسير متناقض ينمّ عن جهل بأبسط مبادئ الاقتصاد، فحين يتحدَّث عن نسبة النمو الاقتصادي التي قدَّمها السيّد رئيس الحكومة والتي قدّرها المعهد الأعلى للإحصاء 4,7 بالمائة بتلك الطريقة الكاريكاتورية الخاطئة أحيله عندئذ الى قول الشاعر العربي : قل لمن يدعي في العلم فلسفة لقد علمت شيئا و غابت عنك أشياء فلم يفهم السيد شكري بلعيد أنّ مؤشر النمو الاقتصادي الذي قدّمه رئيس الحكومة هو مؤشر الخمسة الأشهر الأخيرة لحكم "الترويكا" فقط، وإذا أضفنا اليه مؤشر فترة حكومة السبسي التي كانت بمعدل 1,5 بالمائة يكون المؤشر السنوي في حدود 3,1 بالمائة وهو نفس المؤشر تقريبا الذي اعتمدته حاليا البنوك الدولية المهتمة بشؤون التنمية في العالم العربي، وقد تفاقم مؤشر عجز الميزان التجاري الى حدود أواخر فيفري ليسجل عجزا بمعدل 80 في المائة وهو مؤشر هام في التحليل الاقتصادي، وهو راجع أسَاسًا الى تعطُّل في انتاج الفسفاط، وتراجع صادراته ومشتقَّاته ب 41,9 بالمائة مقارنة بنفس الفترة لسنة 2011 رغم التَحسُّن الذي شهده القطاع مقارنة بشهر جانفى، وتطوَّرحجم واردات المواد الفلاحيَّة والغذائيَّة ب4ر23 بالمائة، والطَّاقة ب 3ر32 بالمائة، والمعادن والفسفاط ب 87ر17 بالمائة، مع فترة ركود في المجال السيّاحي الذي يساهم في أيام الذروة بتغطيّة 50 بالمائة من حجم العجز التِّجاريِّ، وهو ما يفسِّر تراجع العجز التِّجاري في هذه الفترة الى حدود 38 بالمائة مع بداية تسجيل تدفُّق السيَّاح على بلادنا، والزيَّادة في نسبة الحجوزات لهذه السنة بالمقارنة بالسنة الفارطة، وهي مؤشِّرات ايجابيّة للمستقبل القريب، وإنّ تخفيض مؤسسة "ستاندرد آند بورز" التصنيف الائتماني السيّادي لتونس بمقدار درجتين، ليصبح عند درجة (بي.بي) عالية المخاطر، والذي استقبلته الساحة السياسيّة والاقتصاديَّة بتخوف وحذر شديدين عائد أساسا كما يشير تقرير هذه المؤسسة إلى أنّ الجَدَارة الائتمانية لتونس ستظل مَحلَّ شك لحين اعتماد دستور جديد للبلاد، وانتخاب حكومة تكون قادرة على وضع رؤية اقتصادية عامة للدولة. فتقييم هذه المؤسسة اذا مبني أساسا على مؤشرات سياسية بدرجة أولى، لذلك يفيد الخبير الاقتصادي عزالدين سعيدان في هذا المضمار أنّ الوضع الاقتصادي هذه السنة أشد حرجًا من السنة الفارطة إذ أنّ نسبة التضخم المالي ارتفعت نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 8 في المائة، هذا إلى جانب ارتفاع نسبة عجز ميزان المدفوعات بسبب تراجع الصادرات مقابل ارتفاع الواردات خاصة على مستوى المواد الاستهلاكية وهو ما أدَّى إلى ارتفاع حجم الدّين الخارجي وتراجع في مستوى مخزون البلاد من العملة الصعبة، ويقول إنّه لا يمكن الحديث في الوقت الرّاهن عن اقتصاد مُنْهار بقدر ما يمكن الحديث عن ضرورة وضع خطة واضحة في المجال الاقتصادي خاصة مع وجود بعض المؤشرات الايجابية في قطاعي الفلاحة (بسبب وفرة الأمطار) والسياحة (تطور عدد الحجوزات) وهو ما يبشر بتحسن المردود في انتظار ما سيكون عليه الوضع في القطاعات الأخرى، مع العلم أن نسبة ارتفاع اسعار المواد الغذائية بدأت تسجل تراجعا ملحوظا على اثر الكثير من التدابير الوقائية والرقابية التي اتخذتها الحكومة.