(1) - ألو.. - أبي.. اشتقت إليك فمتى تعود؟.. وانهمرت مدامع يسر على الناحية الأخرى من الهاتف فأشعلت شوق الأبوّة في الحشا.. اخترقني صوتها معجونا بشوقها حتى بلّ دمعي راحتي وسرى في الراحلة.. لم يكن مرّ على غيبتي يوم واحد ولكنّ يسر تحدّثني كما لو أحسّت أن في الحشا حضرةً تنافسها سطوتها على قلب أبيها.. يسر والنهضة.. كما لم يكن الالتباس بين الأبوّة والبنوّة وما لا أدري من أمر العناق.. عناق على الفراق.. قصّة تتنافس أركانها فتنشب من التنافس ملحمة... وعثاء السفر ليس أرقا ولكنّني لم أنم.. ليس سهرا ولكنّني لم أغب.. إذا رأيت التاريخ تنسجه الإرادة فلا يكتنفك الغياب واشهد ولا تغمض لك جفنا أن يغادرك الوجود.. فالوجود لا يمرّ بك إلاّ مساورة.. فأصخ سمعك واشهد.. فالشهادة ممّا لا يعود... *** انقضى الليل وانقشعت ظلمته لما كانت الحافلة تطرق باب مدينتنا.. المسافرون يغالبهم نعاس ينازعه شوقان.. شوق إلى ما تركوا خلفهم.. وشوق إلى ما يستقبلون.. تمتدّ الأصابع في حذر تفرك جفونا لا يزال يراودها الكرى بعد سفر ليل طويل.. "ليلان ليلي".. ليل بحجم مسافة ما بين العاصمة والجنوب وبطء الراحلة.. وليل بحجم ما وصف الشعراء من ليالي العاشقين.. وليالي العاشقين تطول.. تصافح الأبصار ما بدا من مدينة تنهض مثقلة.. ذاك فجر الانبثاق.. *** طلع النهار في عجلة من حرّه.. وسطعت شمسه.. رأيت أشعتها تقع حارقة على الرؤوس.. ومن بين الرؤوس ظهرت صلعة "كمال".. قدم لتوّه من بلاد الألمان يشدّ الرحال إلى حركة هرب فيها خلسة وابتلعته غربة طويلة كأنّه كان يعدّ أعوامها من شعر رأسه.. وقد اشتعل الرأس صلعا.. غربة لم تتركه إلاّ بقيامة شعب أراد أن يريد.. هاجِرْ يَثُرْ شَعْبُكَ تر ما تريد.. واحْتَرِقْ تَخْتَرِقِ الوجود إلى الصعود.. *** دخلت الجموع فضاء قصر المعارض في لحظة مسكرة على إيقاعات أهزوجة كتمها الاستبداد طويلا.. وسمعتُ حناجر بحّت وقد هرمت وطال بها صمتها.. شعور بيضاء وعيون بارقة ووجوه ناضرة إلى حلمها ناظرة.. تلك النهضة يا ولدي.. حلم أبيك وقد احتفلت النخبتان الصائتة والساكتة بوأده أمدا بعيدا.. ولكنّه لم يحترق لمّا لم يُخترَق.. بل جلاه الجمر فهو أبرز من ذهب.. غريب أمر الذهب.. والرجالُ معادن والنساءُ... من ذكريات السجون جلست في الحافلة إلى بشير.. رجل تدقّ الشيخوخة بابه فلا يأبه بها ويرسل بسمة يذوب لها المدى.. حدّثني بما لم يكتب الأدباء من أمر السجون.. حدّثني عن الصلاة.. يضيق الفضاء ويتراكب النزلاء في زنزانة بسعة مرحاضٍ بها مرحاضٌ في العراء.. فكيف تكون الصلاة؟.. وهل يدخل الفقه السجون ليقول قولتك الجامعة المانعة؟.. قال بشير: في المرحاض صلَ ولا تسهُ.. فإنَ السهو ممّا لا يسهو عنه الرقيب.. صلّ ولو كنت داخل المرحاض.. ولا تأبه بحصارهم... وحدثني عن الرسائل.. يرسل بها السجين إلى زوجته بلغة تتجاوز فهم العسس.. شفرات لا يدركها غير العاشقين.. والعشق يخترق السجون ويغافل العسس المقيم... وحدثني عن القفة ترسل بها الزوجة إلى زوجها رسالة مشفّرة لا يقرأها سواه.. لإخوانه أن يأخذوا كلّ شيء ما عدا بعض السطور المشفرة لا ينبغي أن يقرأها غيره.. صداقاتنا الهاربة - أتعرف من أكون؟ ذاك السؤال اللغز.. ظللت أواجهه أيّام المؤتمر كلّها.. "سمير" من أصدقاء المعهد الثانوي.. منذ حصوله على البكالوريا لحق بجامعة الألمان وظلّ هناك يُفيض من عقله عليهم.. وما أكثر عقولنا المهاجرة.. "جمال" من الجامعة.. زرعنا معا بذور مدينتنا الفاضلة وطال بنا الانتظار على الجمر والأمنيات العصيّة.. "نبيل" عِشْرَةُ شهرين شمسيين قضيناهما معا يبن جدران سجن 9 أفريل سنة 1986 إثر مظاهرة حاشدة أيّام الأمل البكر والطفولة الضاحكة.. "غسّان" تركنا إلى المغرب سنة 1985 ومنها صار إلى باريس.. لقيته فتعانقنا كما لم نفترق.. كان الفضاء حقل مغناطيس.. ترى الأفراد تتجاذب والوجوه تتنادى والأصوات تتداعى كأنّها اتفقت على ليّ عنق الزمان حتّى يَدِينَ.. ولكنّ للزمن سطوة لا تُغلَبُ وحدّة لا تلين... نجيب منذ سبعة أيام سكت قلبُ ابنه ذي الثماني عشرة سنة.. واراه التراب.. وبعد تقبّل العزاء أقبل إلى الصحب يسعى.. يحضن مدامعه ويرقب حلما حجبته السنين.. يحدّثني ويبكي.. "وْلِيدِي" يقول.. فتذوب الضلوع ويتقلّص الوجود بين دمعتين تغالبه الأولى فيغلب اللاّحقة.. غريب أمر هؤلاء.. حكايات ما لم تلد الخرافة والخيال.. يتبع...