منهكا من حنين وتعب، أحاول رسم حلم عشتُه من 4 إلى 9 جويلية الجاري، أعلم أنّني سأفسد اللوحة التي كنت داخلها ولكن لا مناص من ذلك، إذ بي صوت جبّار يأمرني بالكتابة عن قوم تفيّأت ظلالهم وشربت من منابع أخلاقهم الصافية، سأفسد اللوحة وليكن شفيعي في فعلتي أنّ دافعي الأوّل والأخير هو أن أشير إلى الجبال التي تقيم في مغرب القلب ، لست أدري بما أبدأ وكيف ألج البوح، " فالتفاصيل كروم والعناقيد كثيرة " ومع ذلك سأطلق العنان للطفل الكامن فيّ ليرسم دهشته ويقبّل من بعيد كائنات مورقة.لتكن البداية من محبّة الشاعرة المغربية فاتحة مرشيد، هذه النخلة التي أشارت إلى تدفّقي الشعريّ في اليباب، فلم يتردّد الشاعر عبد الحكيم آيت تاكنيوين في دعوتي للمشاركة في الملتقى الشعري والموسيقي لمدينة ورزازات، في دورته السادسة... فكان هبوبي إلى المغرب رفقة الصديق الشاعر سمير السحيمي والصديق الفنان مروان سامر.أن تجد في انتظارك شخصا تابعا للجنة تنظيم المهرجان فلا عجب في ذلك، أمّا أن يحضنك في مطار الدارالبيضاء ثلاثة شعراء ورابعهم فنان تشكيلي في لون التراب وتواضعه، فهذا ما يُربك النفس ويلقي بها مباشرة في عبادة الشعر الذي حباها بكلّ هذه المحبّة من قبل إخوة لم تلدهم " عويشة " أمّي التي سلّمتها إلى القبر مكرها. ها إنّي بصدد تشويه اللوحة، فاللغة هذه المغرورة المتبجّحة، لا تريد التسليم بعجزها عن رسم الرحلة من الدارالبيضاء إلى ورزازات عبر مرّاكش وما تلاها من جبال تلهج بعظمة المبدع الأكبر، تقاسمتنا الأحضان والسيّارات وأوغلنا في الحبّ والشعر والجنون حتّى بزغنا مع الفجر في هدأة المدينة المؤمنة بالشعر والموسيقى ، وتساءل عبد الحفيظ اللمتوني " سلطان الماء " في مدخل النزل الغافي: "... ولكن أين الجبال التي وعدتمونا بها ؟.." ، كان مثلي متوهّجا من فرط ما أحبّ الشعر والحياة طوال تسلّقنا لقامات المغرب المتسربلة بالليل.للملتقى صحافيون هبّوا من كلّ صوب، سينقلون تفاصيل سهراته الشعرية والموسيقية وما اتّسمت به من روعة وبهاء وحسن تنظيم، أمّا أنا فمع الهامش أبدا، أولست القائل: " يسقط المتن.. يحيا الهامش" خصوصا في جحيم أمّة لم تزل قادرة على الوقوف بفضل من ألقت بهم في الدرك الأسفل من الهامش..صور كثيرة تتعانق في الذاكرة، من ضمنها مثلا: الفتيات المنسكبات في شوارع المدينة، الجامحات على دراجاتهنّ، الغافلات عمّا يُدبّر للمرأة العربية في مخابر الجهل والتطرّف والحقد الأعمى على كلّ جمال وإبداع وحرية. القصور أو " القصبات " الشامخة تحت لهيب الشمس، يا إلاهي يكفي القليل من الطين والإيمان ليعلي الإنسان معجزته بعيدا عن تنظير اليسار وهرطقة اليمين، ثمّة يسار ما، لا يعرفه سواي أنا ومحمد الزرهوني وسلطان الماء طبعا، فيا ربّ احفظ ذاك اليسار. نادلة المطعم والمسبح، تلك النشيطة كشلال ماء، تلك الجندية المدنيّة المبتسمة البكماء، لم ينتبه إلى نضالها المقدّس آخر الليل غير قلبي الذي التفت ورآها ريحا متربّصة بطلبات المجانين الأبرياء من كلّ دم، إن كانت تلك المناضلة عورة فعلى الأمّة العجيبة الغريبة.. السلام ثمّة سنبلتان منحنيتان حظيت بالجلوس إليهما في أكثر من حقل، وأشفقت على بعض من تركتهم في بلادي يتبجّحون بكتابة نصّ هزيل ويتفاخرون بمعرفة عناوين بضع روايات، حين يجلس المرء إلى بنعيسى بوحمالة ويحاوره يدرك فداحة المقولة الإفريقية الخاصة بتأبين الحكماء: " لقد احترقت مكتبة "، بلى هذا الرجل مكتبة حيّة ومفتوحة لمن به ظمأ دائم للمعرفة، اللهمّ أجّل ما استطعت أفول هذا الضوء، السنبلة الثانية ليست سوى عبد السلام فزازي: دكتور، أستاذ جامعي، ناقد، باحث، ضاحك،هامس، منصت للجميع، لا قفازات ولا أقنعة، لا حذلقة لفظية ولا زهو وهو يقترف أفعال الحياة.. " العصابة " التي احتضنتني ينتمي إليها " القديس" وفي رواية أخرى يقال أنّ اسمه إبراهيم القهوايجي وكنيته الشاعر الخدوم، وعلى ذكر العصابة لا أسهو عن عناق ذاك العقل المتخفي في شكل كهل بشوش، إنّه رشيد فضيل الكائن الذي يبدو أنّه لا ينام وهذا يحدث في ورزازات من الحب ما قتل، صدق الشاعر، ففي اليوم الأخير صعد بنا عشاق الشعر والموسيقى وأحباب الإنسان إلى الغيم، وعبروا بنا أحلاما شتّى في شكل قرى ومدن وواحات، وكنت وفيّا ومخلصا " للعصابة " ومصرّا على إنكار رؤيتنا للجبال في طريق الحج إلى ورزازات، لكنّي اليوم أشهد أنّي رأيت الرجال الجبال ، وتفيّأت ظلال قامات متحالفة لنصرة الحياة وبثّ الشعر والموسيقى في عالم تتهدّده أحقاد وظلمات.