لا تدور مصافحة شيخ الأزهر لشيمون بيريز في فراغ، وهي ليست منبتة الصلة عن جذور عميقة لسياسة تنبت على أكتاف الدين، ودين يتحول ويتحور إلى أيديولوجيا، سواء أنتجت مناهضة أم مهادنة، وعلاقات متشابكة بين الظاهرتين الدينية والسياسية وصلا وفصلا، بشكل خاص، وحالة تجلٍّ للدين في حياة الشرقيين، ومنهم العرب، بشكل عام. بداية، فإن العديد من المفكرين يجمعون على أن الحياة العقلية للشرقيين عامة أوثق اتصالا بحياتهم الدينية منها بالتفكير الفلسفي الخالص، فالأخير امتزج بالتفكير الديني في شتى العصور الإنسانية حتى يمكن القول إن كل محاولة تهدف إلى الفصل بينهما تنتهي لا محالة إلى العجز عن فهم كليهما. واحدية النص تعددية الفهم والدين الإسلامي وإن كان واحدا في "نصه" إلا أن الاجتهادات والتأويلات حوله تعددت وتشعبت، وإذا ما ترجم هذا الفهم المتعدد في سلوك بشري أضحى لدينا نسيج عريض به ألوان متقاربة كبرازخ رمادية بين طرفين متناقضين الأول "ثوري خروجي" والآخر "صوفي انكفائي". والدين حتى في جانبه التعبدي البحت يشكل في الإنسان مجموعة من القيم التي يتشربها عقله ونفسه وتصبح جزءا من ذاته، وتصيغ إدراكه وتصوراته عن الواقع الاجتماعي بشتى مكوناته، وعلى هذا الأساس يصبح الباب مفتوحا على مصراعيه بين ما هو ديني وما هو سياسي. أولا: همزات الوصل بين الظاهرتين الدينية والسياسية: تشترك الظاهرة السياسية والظاهرة الدينية في عدة سمات، منها الغموض والتعدد والارتباط بالظواهر الأخرى والحركية والديناميكية، وهما تتكونان من عناصر ومقومات مادية ومعنوية ونظامية أو هيكلية، وبينهما ارتباط وثيق، فالدين يمد الإنسان بالقيم الخلقية التي هي قبل كل شيء قيم اجتماعية، ويلعب دورا ووظيفة أساسية في عملية الضبط الاجتماعي من خلال الطقوس والعبادات ووضع الخطوط الفاصلة بين الحلال والحرام، كما تلعب المؤسسة الدينية دورا حيويا كقناة للحراك الاجتماعي في المجتمعات التي تعطي مكانة خاصة للثقافة الدينية. وقد يكون التدين لدى بعض الناس رد فعل لواقع اجتماعي مرفوض، وهذا هو التدين العصابي، الذي ينشأ لدى الإنسان كميكانزم دفاعي ضد قهر السلطة والإحباط والشعور بالخوف والقلق والعجز عن مواجهة متطلبات وضغوط الواقع. فالإنسان المقهور العاجز عن المواجهة ينسحب من ميدان الحياة ويخلد للراحة ملتحفا بالدين الذي يمده بالأمن، وينحت له دورا اجتماعيا، بدلا من أن يبقى طيلة حياته مهمشا ضائعا، وسواء كانت هذه العلاقة هي علاقة استيعاب أم علاقة صدام فهي علاقة ثابتة كأحد عناصر الحركة الاجتماعية. وهذه العلاقة في تصور من اثنين: إما تعانق بينهما يرتفع إلى حد احتواء إحداهما للأخرى، وإما صراع يجعل كل منهما تقف من الأخرى موقف التضاد والمعارضة، بل التربص الذي قد يصل إلى حد السعي للإفناء والاستئصال، وكلا النموذجين في حقيقة الأمر تعبير عن علاقة الاهتمام وتأكيد لأزلية الظاهرة الدينية حتى لو فهمت على أنها خلفية لتبرير الفساد السياسي والاستغلال الطبقي مثلما زعم كارل ماركس، والذي لم يستطع أن يغفل دور الدين كأيديولوجيا في عملية الضبط الاجتماعي. الدين والسلطة إن معنى الظاهرة الدينية ينبع من مفهوم الدعوة ويرتبط ويتحدد بفكرة الالتزام المعنوي، وهذا الأمر يرتبط في الحقيقة بجوهر الظاهرة السياسية، فإذا كانت الظاهرة السياسية هي السلطة في أوسع معانيها وهي تعني الشعور بالالتزام إزاء الحاكم ولو من منطلق الإكراه المادي والقسر العضوي أو هي قواعد تنظيم للممارسة من جانب والخضوع وإرادة الاحتواء من جانب آخر، فالدين في جوهره يدور حول استعداد الفرد وتقبله طواعية لأن يقدم لله سبحانه وتعالى مظاهر الخضوع والاحترام. وهكذا نجد أن الدين في جزء منه يبدو تنظيما لعلاقة غيبية على أساس الالتزام المعنوي، والسياسة في شق منها تعد تنظيما لعلاقة مدنية من منطلق التعامل المادي، وبرغم الخلاف فهناك ارتباط بينهما نظرا لوجود التنظيم في كلا الجانبين والالتزام في كلا التطبيقين، وهذا فرض علاقة ثابتة تؤكدها جميع الحضارات بلا استثناء، فالدين منطلق للتأثير في الوجود السياسي، كما أن السلطة تسعى لتجعل من الدين منطلقا لتحقيق التماسك بالولاء. وعلى مستوى التطبيق الحياتي، نجد أن الدين لعب دورا بارزا كمحرك لعملية التغيير الاجتماعي والسياسي في المجتمع العربي عن طريق الحركات الدينية المسيسة في نفس الوقت الذي يرى فيه البعض أن تفسير الدين كان له بصمة واضحة في عملية التمويه الأيديولوجي والوعي الزائف والهروب من الواقع من خلال تسويغه للتمايز الطبقي وإضفاء الشرعية على نظم مستبدة. النص والمؤسسة والمصالح وهذان النقيضان لا يرجعان إلى الدين في أصله المنزل ونصه المقدس، ولكن ينبعان من تفسير الدين من قبل الأفراد والجماعات، حيث يتماهى النص في شبكة اجتماعية معقدة مشبعة بالمصالح والأهواء والظروف. وما يهمنا هنا ليس البحث عن جذور الصواب والخطأ في هذا التقييم، ولكن توضيح العلاقة الوطيدة بين الدين والسياسة، فالموقفان وإن اختلفا حول سلبية أو إيجابية الدين في المجال الاجتماعي إلا أنهما يثبتان بما لا يدع مجالا للشك مدى الارتباط بين ما هو ديني وما هو سياسي. أما عن العلاقة بين المؤسسة الدينية وشرعية النظام السياسي فهي تختلف طبقا لنوعية المؤسسة ومدى تنوع نشاطها، فالمؤسسات الرسمية تحض على ترسيخ القيم والاتجاهات السياسية التي يدعو إليها النظام، بينما تسعى المؤسسات الدينية غير الرسمية إلى خلق قيم جديدة وطرح قيم بديلة تناقض تلك التي يتبناها النظام السياسي مما يؤثر على استقراره واستمراره. ونظرا لإدراك النخبة الحاكمة لأهمية دور المؤسسة الدينية في التنشئة السياسية فقد لجأت إلى توظيف دور العبادة (المساجد والكنائس والمعابد) كأماكن للتربية السياسية للأفراد بهدف تنشئتهم على الطريقة التي تتفق مع مصلحة النظم الحاكمة. وقطع الطريق أمام المعارضة قبل أن تستغل أو تستقطب هذه المؤسسات أو تضيع فرصتها في توظيفها بقدر الإمكان، ومن أجل منع استغلال الدين على هذا النحو، أو جعله مطية لتبرير السلوك السياسي، أو تحويله إلى مجرد أيديولوجيا، بما يجرح جلاله وقدسيته، فإن الأفضل أن نفكر في تديين السياسة لا تسييس الدين، أي منح السياسة إطارا أخلاقيا ممكنا، على غرار ما ذهب إليه فلاسفة سياسيون مسلمون أقدمون، أو ما فعله كانط في الفلسفة السياسية الغربية، دون استغلال الدين في الممارسة السياسية، ما يضر بجلاله وقدسيته، ويشكل تلاعبا بعقول الجماهير المصرية المتدينة بطبعها. تديين السياسة إن تديين السياسة يبدو مقبولا؛ إذ إن وضع إطار قيمي أخلاقي، ينبع من الدين أو حتى من التقاليد والأعراف الحميدة السائدة، من أجل تهذيب حركة السياسة، وإبعادها عن التوسل بالتلاعب والمخاتلة والخديعة، كان، ولا يزال، مطلبا، تجاهد الفلسفة السياسية في سبيل بلوغه. أما تسييس الدين فيجب رفضه على الإطلاق، فإضفاء صفة الدين على ممارسات سياسية، يضر بالدين والسياسة معا؛ لأنه ينتج في نهاية المطاف ألوانا سياسية متعددة من التلاعب الملفوظ بمصالح الناس وعقولهم، وتأويلات دينية ملفقة تضر بفقه الواقع؛ لأنها تقدم مصالح فئة بعينها على أنها رؤية الدين الوحيدة التي تنطوي على صواب مطلق، ولعل تاريخ علاقة الأزهر بالسلطة يقدم لنا حالة واقعية للأضرار التي لحقت بالدين جراء ارتباطه بالسلطة، أو سعي الأخيرة لكسب الشرعية من خلاله، أو استخدامه في تبرير سلوكها. ثانيا: الأزهر والسلطة.. حالة كاشفة ثلاثة عناصر شكلت الدور السياسي للأزهر في مسيرته التاريخية، كانت تجتمع أحيانا فيتعاظم هذا الدور، بغض النظر عما إذا كان خصما من رصيد المجتمع أم لصالحه، وأحيانا أخرى كان يتوافر إحداها أو اثنان منها، فيقل دور الأزهر السياسي، لكنه في جميع الأحوال لم ينقض تماما. أ- العنصر الأول: هو شخصية شيخ الأزهر من حيث فهمه للواقع السياسي وإلى أي اتجاه يميل انحيازه الفكري والنفسي، للجماهير الغفيرة ومصالحها أم لمصلحته الذاتية مع السلطان وحاشيته. ب- العنصر الثاني: يتمثل في طبيعة السياق الاجتماعي - السياسي السائد، ففي الظروف التي كانت السياسة فيها حاضرة وضاغطة إما بفعل الحروب أو القلاقل أو الصراعات الداخلية أو احتداد المشكلات الحياتية للناس، كان لا بد للأزهر أن يدلي بدلوه فيما يدور ويتخذ من المواقف ما يتماشى مع سير الأحداث؛ إذ إن المجتمع المصري، كان ولا يزال، ينتظر رأي الدين فيما يجري اجتماعيا وسياسيا. ج- العنصر الثالث: يتعلق بشخصية الحكام أنفسهم، فهناك من بينهم من لجأ إلى الأزهر لكسب الشرعية، وهناك من استمد شرعيته من روافد أخرى، هناك من أفسح المجال لعلماء الأزهر كي ينخرطوا في الحياة السياسية، وهناك من أوصد الباب أمامهم تماما، هناك من كان يؤمن بأن للدين رؤية سياسية واجتماعية، وهناك من أراد له أن ينكفئ على أمور العقيدة والعبادة مبتعدا عن الهموم والأحوال الحياتية. قصة خطاب بدأ الدور السياسي لشيخ الأزهر يبرز في ظل مشيخة الإمام محمد الحفني (1757 - 1767)، الذي بلغ في هذا المضمار شأنا عاليا، رسم الجبرتي ملامحه قائلا: "كان شيخ الأزهر محمد الحفني قطب رحى الديار المصرية، ولا يتم أمر من أمور الدولة وغيرها إلا باطلاعه وإذنه". وقاد احتجاج الشيخ أحمد العروسي على إساءة الوالي العثماني أحمد أغا لأهالي الحسينية إلى صدور فرمان سلطاني بعزل هذا الوالي، واضطر خلفه إلى أن يحضر إلى الأزهر ليسترضي علماءه. وبعد العروسي كان الأزهر على موعد مع رجل زاوج بين الدين والسياسة، في الفكر والحركة، وهو الشيخ عبد الله الشرقاوي (1793 - 1812)، الذي عاصر هبات المصريين ضد الحملة الفرنسية، وكان واحدا من رموز الشعب آنذاك، وحشد طاقة الأزهر في طليعة مقاومة الاحتلال، وعينه نابليون بونابرت ضمن عشرة في "مجلس الشورى" الذي أنشأه لاسترضاء المصريين. وكان الشرقاوي ممن خلعوا الولاية على محمد علي واشترطوا عليه الحكم بالعدل، لكنه نقض العهد، وتخلص من مشايخ الأزهر ومن بينهم الشرقاوي. أما الشيخ الشنواني (1812 - 1818) فكان دائما يسدي النصائح لمحمد علي، برغم عزوفه عن الاتصال بمن بيدهم السلطة، وقد كان أيضا من قادة الحركة الوطنية إبان الحملة الفرنسية، وكان الشيخ حسن العطار من قادة الحركة الوطنية ضد الحملة الفرنسية، وتولى المشيخة بعد تدخل شخصي من محمد علي، وكان يميل إلى الاحتفاظ بعلاقة "متوازنة" مع السلطة، مبررا ذلك بأن مصلحة الأزهر تقتضي ذلك. ضد الثورة أما الشيخ إبراهيم الباجوري (1847 - 1860) فقد حرص على إعلاء كرامة علماء الأزهر في مواجهة السلطة، وكان عباس باشا الأول يحضر دروسه، ولم يعبأ باعتراض رجال الحكم على قيامه بتعيين هيئة من العلماء تحل محله في القيام بأعمال المشيخة حين أنهكه المرض. واصطدم الشيخ مصطفى محمد العروسي (1860 - 1870) مع السلطة، لاعتراضها على قيامه بفصل عدد من المدرسين بالأزهر رأى أن مستواهم العلمي دون المستوى المطلوب. وكان خلفه محمد المهدي العباسي (1870 - 1882 / 1882 - 1885)، الذي لم يتحمس للثورة العرابية، فتمت إزاحته من منصبه وقت عنفوانها، لكن بعد انكسارها أعاده الخديو توفيق، لكن لم يلبث أن اختلف معه، فطلب إعفاءه من منصبه، فاستجيب له. أما الإمام شمس الدين الإنبابي (1882 - 1882/1885 - 1896)، فقد أفتى بعدم صلاحية توفيق للحكم، بعد أن باع مصر للأجانب، مناصرا بذلك عرابي ورفاقه. لكن معارضته للخديو عباس الثاني قادت إلى تدخل السلطة في شئون الأزهر بإنشاء مجلس إدارة له، نال من صلاحيات شيخه، كما قادت معارضة خلفه الشيخ حسونة النواوي (1896 - 1900) للحكومة في إقدامها على تعديل قانون المحاكم الشرعية، إلى إبعاده من منصبه، لكن العلماء تضامنوا معه، فلجأت الحكومة إلى حل وسط بتعيين شيخ يمت بصلة قرابة له هو الشيخ عبد الرحمن النواوي. الأستاذ الإمام وتسببت مناصرة الشيخ علي محمد الببلاوي لأفكار محمد عبده إلى اصطدامه بالخديو عباس، الذي رفض مقترحاته لإصلاح الأزهر، فما كان منه إلا أن استقال، ولعب خلفه الشيخ عبد الرحمن الشربيني دورا مضادا، بعد أن لجأ إليه الخديو ليحارب حركة الإصلاح في الأزهر بفعل أفكار محمد عبده، لكنه لم يلبث أن استقال عندما تمادى الخديو في معاداة أنصار الإصلاح. وعارض الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي (1917 - 1927) ما انتواه الملك فؤاد من إعلان نفسه خليفة للمسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية، مبررا ذلك بأن مصر لا تصلح دارا للخلافة، لوقوعها تحت الاحتلال الإنجليزي، ورفض الجيزاوي الاستجابة لطلب الإنجليز بإغلاق الجامع الأزهر إبان ثورة 1919، وصدر في عهده قانون قيد سلطة الملك في تعيين شيخ الأزهر، حين أشرك رئيس الوزراء في هذا الأمر. ولم ترق محاولة الحكومة حرمان شيخ الأزهر من بعض الأوقاف الخاصة به للشيخ المراغي فاستقال، لكنه لم يكن مناهضا للسلطة، شأنه في ذلك شأن خلفه الظواهري، الذي تعاون مع الملك فؤاد في توسله بالأزهر لكسب الشرعية، وتدعيم سلطته المضادة لمصالح الشعب. وكانت ذريعة الظواهري في هذا هي أن مصلحة الأزهر في التبعية للملك لا للحكومة أو الأحزاب، ونكل الملك في عهد الظواهري بعلماء الأزهر، ففصل بعضهم وشرد آخرين، بعد أن صدر قانون خول الملك سلطة تعيين شيخ الأزهر ووكيله، وشيوخ المذاهب الأربعة، ومديري المعاهد الدينية. تقتير هنا وإسراف هناك وفي ظل مشيخة الإمام محمد مأمون الشناوي، أصدرت مجموعة من العلماء بيانا شهيرا دعت فيه إلى الجهاد ضد إسرائيل بعد صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وأدت المواقف الوطنية للإمام عبد المجيد سليم إلى عزله، إثر معارضته لفساد الملك فاروق قائلا عبارته الشهيرة، حين قرر الملك تخفيض المخصصات المالية للأزهر: "تقتير هنا وإسراف هناك"، في إشارة إلى بذخ فاروق. واستمر الخلاف بين الملك والأزهر في عهد الإمام إبراهيم حمروش (1951 - 1952)، فأعفي من منصبه بعد أن رفض طلب فاروق عدم اشتغال علماء الأزهر بالسياسة. وبعد ثورة يوليو مال شيوخ الأزهر في الغالب الأعم إلى تأييد توجهات السلطة، فالإمام محمد الخضر حسين (1952 - 1954) وهو تونسي الأصل، وصف الثورة بأنها "أعظم انقلاب اجتماعي مر بمصر منذ قرون"، لكنه لم يلبث أن قدم استقالته لخلاف مع الرئيس جمال عبد الناصر حول إلغاء المحاكم الشرعية. وجارى خلفه الشيخ عبد الرحمن تاج (1954 - 1958) عبد الناصر في خلافه مع محمد نجيب، فأفتى بسريان عقوبة التجريد من شرف المواطنة على من يتآمر ضد بلاده، قاصدا بذلك نجيب، وهاجم الإخوان المسلمين بعد حادث المنشية 1954، من خلال بيان أخذ عنوان "مؤامرة الإخوان"، اتهم الجماعة بأنها تشوه الدين الإسلامي، وأفتى الشيخ شلتوت بعدم تعارض قوانين الاشتراكية مع الإسلام، كما سبقت الإشارة، ولم يجاهر برفض القانون رقم 103 لسنة 1961، الذي أعطى رئيس الجمهورية حق تعيين شيخ الأزهر، ووكيله، وتحجيم صلاحياته عبر تعيين وزير يختص بشئون الأزهر. وسار الشيخ حسن مأمون (1964 - 1969) على الدرب نفسه، فكان موقفه سلبيا من القانون، المذكور سلفا؛ إذ صدر حين كان مأمون عضوا في مجلس الأمة ورئيسا للمحكمة الشرعية، وبات أول من طبق عليه هذا القانون حين تولى مشيخة الأزهر. مأمون والإخوان وكان مأمون من المدافعين عن القوانين الاشتراكية، ووصف الإخوان بأنهم "مجرمون"، ولما جاء الفحام أيد "ثورة التصحيح"، وأيد خلفه الدكتور عبد الحليم محمود موقف السادات من القوى اليسارية بعد أحداث 17 و18 يناير 1977 الشهيرة، ووصف الشيوعيين بأنهم "ملحدون لا ينتمون إلى جماعة المسلمين"، لكنه عارض مسألة تبعية الأزهر لوزير شئون الأزهر، واستجاب السادات له، فصدر القانون رقم 350 لسنة 1975، الذي بمقتضاه صار شيخ الأزهر بدرجة رئيس وزراء، من الناحية المالية، ويتبع رئاسة الوزارة إداريا. ونادى الدكتور محمد عبد الرحمن بيصار، الذي تولى مشيخة الأزهر خلال الفترة من 1979 إلى 1982، بعدم معارضة الحاكم إلا في الأمور الجوهرية، وسعى إلى تجنيب الأزهريين أي صدام مع السلطة، بعد قرارات سبتمبر 1981 التي زج السادات بمقتضاها كل معارضيه في السجن. أما الشيخ جاد الحق علي جاد الحق فهو إن كان قد أيد معاهدة السلام مع إسرائيل حين كان يتولى الإفتاء، فقد رفض التطبيع بعد توليه المشيخة اعتراضا على عدوان إسرائيل المستمر على الفلسطينيين، وأعلن من بعد تأييده للانتفاضة الفلسطينية والعمليات الاستشهادية، وندد بموقف الولاياتالمتحدة المنحاز إلى إسرائيل دوما، كما رفض مشروع الشرق أوسطية. وعارض جاد الحق فتاوى إباحة عائدات البنوك وشهادات الاستثمار ورفض توصيات المؤتمر الدولي للسكان، الذي استضافته القاهرة عام 1996. وأخيرا، فمن المعروف عن الدكتور محمد سيد طنطاوي، الذي تولى المشيخة عام 1996، مجاراته للسلطة السياسية في مواقفها، وتراجعه عن أي رأي أو فتوى كان قد أصدرها طالما لم تلق قبولا لدى السلطة، الأمر الذي جعل التناقض يعتري مواقف الأزهر في السنوات الأخيرة، وجعله يقع في مواقف حرجة، آخرها واقعة مصافحة شيخ الأزهر للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، والتي تم فيها الخلط إلى حد الامتزاج الكامل بين دور الرمز الديني الكبير ودور السياسي الذي تفرض عليه الظروف أن يفعل ما لا يريده أحيانا. كاتب وباحث في علم الاجتماع السياسي الاسلام اليوم