قامت ثورة تونس، المندرجة ضمن الربيع العربي كما يحلو للبعض تسميتها أو ثورة الياسمين للبعض الآخر، فكانت ثورة عجيبة الصنع في الأسلوب والأداء والقيادة، حيث كانت وسائلها حناجر تعالت بأصوات عالية "نموت نموت ويحيا الوطن"، وصدور يافعة عارية لم تخش غازا ولا رصاصا ولا أعوان حاكم طاغية، وكانت قيادتها روح من الله سرت في عروق الشيب والشباب والنساء والرجال، فسقط الطاغية بسقوط أكثر من 300 شهيد وآلاف الجرحى... واليوم بعد أن منّت علينا الثورة بالحرية الى درجة التخمة التي ما بعدها إلا الفوضى، والتي جعلت فصائل من الشعب ومن الطيف السياسي يعتقدون في إمكانية الإنتقال السحري والفوري من الحُقرة والتهميش الى الإعتبار والكرامة، ومن البطالة وقلة ذات اليد الى الشغل والدخل الوفير، نسمع إقرارا يكاد يكون عليه إجماع بأن الثورة لم تحقّق أهدافها بعد، بل إن مشاهد الشوارع الملتهبة والطرق المقطوعة والمشتعلة، والغضب العارم الصادر عن الغيرة على مقدسات شعب مسلم، أو الصادر عن الدفاع عن حرية الإبداع، أو الصادر عن الخوف من ضياع حرية الصحافة والإعلام، أو الصادر عمن يرومون الاحتفاظ بالشرعية ومن يشكّكون في الشرعية ويهيئون الأجواء لنسف الشرعية... كل ذلك مع بداية عدّ تصاعدي لعدد القتلى والجرحى في فصفوف الشعب ورجال الأمن عند كل تحرك للشارع بعد الثورة، يترك الثورة تراوح خطاها، ويضع تونس في طريق مجهولة الخواتم والعواقب، تتقاذفها المصالح الشخصية والتجاذبات الحزبية وفعل المخابرات الأجنبية وخاصة "الإسرائيلية" منها، التي لها إصرار عجيب وخطة كاملة وجاهزة وهي في طور التنفيذ لاستثمار الثورات العربية لصالح التحالف الغربي الصهيوني الذي تقوده أمريكا... إن في السياسة لهو، ومن اللهو القول بتآمر الآخرين عليك لتبرير فشلك... فمن المعلوم في عرف العمل السياسي الدّيمقراطي والملحوظ في الحراك السياسي الذي تشهده أرقى الأنظمة الدّيمقراطية في العالم، أن المعارضة ليس من مهامها تزكية السلطة أو إعانتها على إنجاح برنامجها في جوانبه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وإنما همّ أي حزب موقعه في المعارضة هو العمل على إفشال برنامج الحزب الحاكم وتضخيم عيوبه وإبراز ضعفه وعجزه عن تسيير دواليب الدولة بما يخدم الصالح العام، حتى يتسنى له بذلك تشكيك الناخب في صلاحية الحزب الحاكم من جهة، وإقناعه بضرورة توجيه صوته الى الحزب المعارض وإعطائه فرصة في الحكم لتجربة برنامجه، من جهة أخرى، وذلك جائز في عالم السياسة، وتلك هي اللعبة الدّيمقراطية وديناميكية التداول السلمي على السلطة، وكذلك ليس من مهام الحزب الحاكم تعقّب المعارضة ومحاولة محاصرة فعلها السياسي والإعلامي للحد من تأثيرها على أصوات الناخبين، وإن كان ذلك همّ السلطة، فتلك مفسدة في الحكم، واستبداد خارج عن العدل وعن الدّيمقراطية، وإنما من همّها الأوكد العمل بجدية وحزم بتوظيف كل الطاقات والإمكانات المتاحة بصدق ونظافة يد لإنجاز الوعود وحل المشاكل المستعصية رغم العراقيل وغياب تعاون المعارضة، ليس بالتسويف وزيادة الوعود، وإنما بإنجازات ماديّة حقيقيّة تلمس من قريب حياة المواطن في معاشه أساسا، وفي أمنه وفي حريته، ولا يضر السلطة من عارضها إذا كانت واثقة في عدلها وإحسانها وسعيها، فالفشل والنجاح لا يبرره تعاون هذا أو تآمر ذاك، وإنما الذي يحقق النجاح هو العمل والكفاءة والمهارة والحزم ونظافة اليد، والذي يجلب الفشل هو سوء تقدير الأمور، وعدم التوفيق في تحديد أولويات الإصلاح، وتقديم الاعتبار الحزبي على الاعتبار الوطني... فمن الأخطاء المنهجية الخارجة عن المنطق الدّيمقراطي أن يلجأ حزب أو أحزاب حاكمة إلى إتهام المعارضة بالتآمر وعرقلة أعمال الحكومة، لأنه ليس للمعارضة إلا أن تقول "لا" للحاكم، حتى وإن كان مجتهدا وناجحا في تسيير دواليب الدولة، فالسلطة في عيون المعارضة دائما مقصّرة وفاشلة ويجب الضغط عليها للحصول منها على ما هو أفضل، ويكون الوضع أشد وطأ إذا وُجد عداء تاريخي أيديولوجي بين الحزب المعارض والحزب الحاكم، فالمعارضة التي لا تقول "لا" لا وجود لها إلا في ظل نظام طاغوتي مستبد، كما كان الحال مع أحزاب المعارضة التي أشّر لها الطاغية المخلوع... فالمنطق السياسي الدّيمقراطي يحتم أن لا يجتمع من في السلطة ومن في المعارضة على برنامج واحد، وأن لا تتوحد أحزاب المعارضة وأحزاب الموالاة إلا لمواجهة خطر خارجي يهدد مصالح الوطن العليا، أما في ما يخص سياسة العامة من الناس وإدارة شؤونهم فالكل راد ومردود عليه، ولا عصمة في السياسة لأنها اجتهاد وإعمال عقل ورأي، وقد خلق الله الناس مختلفين في العقول والأمزجة والتكوين... ولكننا لا نلمس مثل هذا الوعي في تونس بعد الثورة، ولا رأينا ثقافة ديمقراطية يمارسها من في السلطة كما من في المعارضة، فقبول تناقضات السياسيين بعضهم لبعض، أمر صعب المنال لأحزاب وُلدت ونشأت في ظل نظام مستبد، فلم تمارس ديمقراطية قط من قبل، ولم تكسب هذه الثقافة إلا بما وفرته كتب التنظير السياسي أو بما يسمعونه عن دول العالم المتقدم... فحين يجنّد كل طرف سياسي جيشا من الإعلاميين ومن مستعملي الفايسبوك للسب والشتم والقذف وهتك الأعراض والتكفير والتخوين ونشر الأكاذيب والإشاعات لحمل الناس على معاداة هذا أو ذاك، أو لتمجيد شخص وجعله ملهما معصوما ذا حكمة ونزاهة، وما عداه جهلة وسفلة وفسقة وخونة لا يستحقون الاحترام، يكون المشهد السياسي في تونس غير ديمقراطي، وقد صبغته الأهواء الشخصية، وتجاذبته الانتماءات الإيديولوجية، وتصارعت فيه المصالح الفئوية الضيقة، وتلاشت في ثناياه مصلحة البلاد العليا، وصار لكلمة وطن معاني عدّة غير المعنى المصطلح عليه بمكونات الشعب والأرض والسيادة، وغير المعنى الحضاري الذي يعطي إنتماء موحدا للتونسيين بوحدة الدين واللغة والتاريخ... هكذا هو المشهد السياسي في تونس، الكل يخوّن الكل، والكل يحسب كل صيحة عليه ويتهم الأخر بالتآمر ليبرر فشله، وفي الحقيقة كلّ يتآمر ضد نفسه بارتكابه الأخطاء تلو الأخطاء، وفي كل مرّة يبرّر خطأه فينحرف سعيه وهو يحسب أنّه يحسن صنعا، فلا أفلحت أحزاب الترويكا الماسكة بالسلطة في إضفاء صفة المسؤولية والشفافية والوفاء بالوعود على أسلوب ممارستها للحكم، ولا أفلح أعضاء المجلس التأسيسي في إعطاء صورة جادة عن ممارسة حقيقية للدّيمقراطية بقدر ما كان الهرج والمرج سمة جلساتهم، ولا كانت المعارضة في مستوى المعارضة الحقيقيّة بالقدر الذي يمكنها من أن تكون لها قيمة مضافة في المشهد السياسي التونسي، ويهيّئها للاستحقاقات القادمة في إطار التداول على السلطة... إن التفسير التآمري للحراك السياسي الذي تلجأ إليه أطراف في السلطة لتبرير فشلها وعجزها عن تحقيق بنود برنامجها السياسي الإنتخابي، أو الذي تلجأ إليه أطراف أخرى مصطفة في المعارضة لتخويف الناس من أحزاب الحكم وأجندتها السياسية، يهز الثقة بين الجميع أفرادا وجماعات ويدفع نحو الإحباط، ولا يخدم مصلحة البلاد والعباد، ويعطي الذرائع للاقتناع بالفشل قبل الاقتناع بالعمل والنجاح. ناشط سياسي مستقل