النظام الجمهوري من التأسيس إلى الفوضى توفيق بن رمضان لقد سبق و نشرت هذا المقال في جريدة إلكترونية أخرى بتونس بتاريخ 11 أفريل 2011 و لكنّه حذف و حجب مع عدّة مقالات أخري وبعد هذه الفترة آثرت إعادة نشره بجريد الحوار الرائعة مع شجبي لهذه الممارسات المتواصلة بعد الثورة، و للتأكيد إنّ ثورة تونس لا يمكن أن تكون إلا معجزة من عند الله و لا يمكن لأحد أن يتزعّم قيادتها و تنظيمها و قد كان الغرب مركّزا على المشرق العربي و لكنّه أخذ من مغربه «أخذوا من حيث لا يحتسبون» و أشعلت الشّرارة الأولى للثورات العربية من تونس التي تصوّر الغرب أنّ شعبها دجّن و تغرّب بسبب الأدوار التي أوكلت بالنيابة للغير مأسوف عنهما بورقيبة و بن علي فقد فعلوا في الشعب التونسي ما لم يتمكّن من فعله المحتل الفرنسي طيلة 75 سنة. أولا لا يمكن أن نعتبر النّظام الذي كان قائما في تونس نظام جمهوري بل هو نظام دكتاتوري و إجرامي و ما فعله بورقيبة في الشّعب التونسي منذ الاستقلال و تأسيس الجمهورية لا يمكن تجاوزه و نسيانه بل يجب تقييم الفترة الممتدّة من الاستقلال إلى يوم النّاس هذا و استخلاص العبر و الدّروس و إنصاف كلّ من ظلم و اضطهد و إن لم يكن من الأحياء حتى لا نكرّر نفس الأخطاء و ليعتبر المهرولون و المندفعون بعد الثّرة للانخراط في العمل السّياسي و المتكالبون على المناصب و الكراسي. و لنسلّم أنّه كان لدينا نظام جمهوري و يشتمل على سلطات ثلاث و لكن و للأسف طيلة 55 سنة الماضية لم يكن هناك فصل بين تلك السلطات بل في الحقيقة كانت سلطة واحدة تدير و تسيطر على البلاد و العباد وهي السلطة التنفيذية المركّزة في أيدي الطغاة، أما السّلطات الأخرى بما فيها السلطة الرابعة كان مسيطر عليها من طرف سلطة الدكتاتوريين و كان وجودهم شكلي و غير فعال. و الكل يعرف أن النّظام الجمهوري يرتكز على ثلاث قوائم: السلطة التّشريعية، السلطة القضائية و السلطة التّنفيذية، فإذا بترت قائمة من هذه القوائم لن يمكن لهذا النّظام أن يبقى متوازنا، فيمكن أن نمثل النّظام الجمهوري بطاولة ذات ثلاث سيقان فعندما تقطع ساق منها تنهار مباشرة و لا يمكنها أن تبقى متوازنة. و هذا ما أثار استغرابي من رئيس مؤقّت و حكومته التي نصبها هو، و اللذان استمدّا شرعيّتهما من الدّستور، تتنكّر للخيار و المسار الشرعي و الدستوري الذي اخترنا أن نمضي فيه بعد الثورة لنحفظ الدولة من الانهيار و الفوضى و نضمن أمن و سلامة الشعب و الوطن، هذه السلطة المؤقتة التي استمدّت شرعيّتها من الدستور تحلّ البرلمان و تلغي الدّستور الذي هو أساس وجودها، ولقد شاركت في الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2009 و الحق يقال إنّ التزييف حاصل لا محالة و كوادر النظام السابق مسئولون عنه باعتراف السبسي على قناة الجزيرة، و لكنّ الكارثة في تزييف من نوع آخر أكثر خطورة يتسبّب في مصادرة إرادة الشعب في حقه في اختيار ممثليه بكل حرية و شفافية، و الذي أسميته التزييف الإستباقي و الخفي و سببه الحالة من الرعب و الخوف المتغلغلة في العقول و الساكنة في القلوب و التي لا تمكّن الناخبين من القيام بواجبهم الانتخابي بكلّ أريحيّة و حرية، و لقد رأيت بأم عيني في انتخابات 2009 كوادر عليا تفتخر و تتبجّح بوضع الأوراق الحمراء «أوراق الحزب الحاكم» في الصّناديق و لا تقبل بالدّخول للخلوى إذا ما طلب منهم ذلك من طرف المراقبين رغم أنه إجباري في القانون الانتخابي ما قبل الثورة، و بربّكم ماذا يمكننا أن نقول عن المواطن العادي و البسيط. و رغم كل المؤاخذات على أعضاء هذا البرلمان فهم من أبناء هذا الشعب فيهم الطيب و الغث ككل البرلمانات في العالم و من غير المعقول وضعهم جميعا في سلة واحدة، و كل المجالس السابقة منذ تأسيس الجمهورية إلى يومنا هذا لم تكن شرعيّة إذا ما تكلّمنا عن الشرعية و كل من حكم مع بورقيبة يعلم هذا جيدا و يتحمّل مسؤوليّة مباشرة في ما حدث و يحدث هذه الأيام و لكنّهم كما يقال بالعامية التونسية «تعدّوا في وقت الغفلة»، فأحزاب المعارضة لم تتمكّن من دخول البرلمان إلا سنة 1994 بسبب عقلية الإقصاء و الإلغاء التي كانت مستشرية إبان حكم بورقيبة، و مثّلت المعارضة الربع في البرلمان السابق وهذه أكبر نسبة منذ الاستقلال و كل النواب كانوا يتكلّمون و خاصة المعارضين منهم و لكنّ أصواتهم لم تكن تصل إلى الشعب بسبب سيطرة منظومة التسلط و الاستبداد و تقصير الإعلاميين و يمكن العودة إلى الرائد الرسمي فكل ما قيل تحت قبّة مجلس النواب مدوّن و مسجّل، كما أنّه لا يمكن تحميل أعضاء البرلمان الحالي أكثر مما يستحقّون فهم لم يكن لهم دور فعّال في النظام السابق و في تسيير دواليب الحكم و الدولة في عهد الرئيس المخلوع و كذلك مدّة حكم بورقيبة، فدورهم كان محصورا في المصادقة على القوانين و المعاهدات... بعد مناقشتها داخل اللّجان، فالسلطة التشريعية مثّلت الركيزة الأضعف من بين السّلطات الثلاث، كما أنّ نصوص القوانين كانت تعدّ من طرف الإطارات بالوزارات المعنيّة أي من طرف السلطة التنفيذية التي يسيّرها وزراء يعيّنهم الرئيس و يشرف عليهم الوزير الأول. إنّ مجلس النواب يمثّل الحلقة الأضعف في النّظام السابق و من المعلوم و المؤكد أن دواليب الحكم في هذا النّظام كانت بيد الرئيس و مفاصله كانت بيدي وزير الداخلية، فوزارة الداخلية كانت تبسط سيطرتها و هيمنتها على كامل تراب الجمهورية بواسطة الأجهزة الأساسية للسلطة التنفيذية المتمثلة في الولاة و المعتمدين و العمد و البلديات و مختلف التشكيلات و الأجهزة الأمنية كما أنّ لها أيضا نفوذا غير معلن على السلطة القضائية التي تشرف عليها وزارة العدل ظاهريا. و عندما قامت هذه الثورة المعجزة من الله قامت ضد العديد من الأطراف...، و ليس الرئيس المخلوع و أقاربه و أصهاره فحسب و هذا مسلّم به. فلقد اندلعت هذه الثورة ضدّ: 1- النظام الاقتصادي المتوحش و الظالم بسبب الخصخصة و الذي كان يصطاد الحوافز و المساعدات التي تغدقها الدولة على المستثمرين و رجال الأعمال من أموال دافعي الضرائب و لكنّهم في المقابل لم يقدّموا الكثير للوطن و المواطن و استهانوا بالشّعب و أمعنوا في استغلاله بشتّى الوسائل و الطرق و يمكن ذكر المثال الصارخ للاستعباد المقنّع المعروف بشركات المناولة التي يمتلكها مصّاصو الدّماء من المقرّبين من النّظام، و اليوم بعد الثورة يجب محاسبتهم على كل مليم أخذوه من أموال الشّعب دون وجه حق و على الدّولة أن تعمل على استرجاع تلك الأموال و إنفاقها على مشاريع تنمويّة بالمناطق المحرومة و المهمّشة. 2 - ضد الإدارات الجهوية و المحلّية التي لم تنجح في الاستجابة لتطلّعات المواطن و كانت معزولة عنه و في قطيعة معه و هذا الأمر أشرت إليه بالمجلس الجهوي بولاية نابل قبل انتفاضة الشّعب بعدّة أشهر، فبرامج الدّولة لم تكن تنفّذ على أحسن وجه و كل ما يتّخذ من قرارات و حوافز لم يكن يصل لمستحقّيها بسبب المحسوبية و الفساد و الرشوة و التقاعس في الاتصال و الإحاطة بالمواطنين من طرف المباشرين لهم بالجهات. 3 - ضد هيمنة السلطة الأمنية و ممارسات عدد غير قليل من الأعوان الذين كانوا يبتزّون المواطن و يتعاملون معه بقسوة و دون احترام، و هذا يؤكد ضرورة الدعوة للقيام بتأهيل شامل لهذه الأجهزة و تغيير عقيدتها الأمنيّة من أجهزة تخدم الطاغية إلى جهاز يخدم الشعب و الوطن و يحافظ على أمن و سلامة البلاد و العباد. 4 - و بالطبع انتفض الشباب ضد الحزب المتغوّل على الشعب و الذي لم ينجح في قيادة الدّولة منذ الاستقلال بأسلوب حديث و ديمقراطي رغم أنّه قد أتيحت له العديد من الفرص طيلة الخمس و الخمسين سنة الماضية ليتدارك الأمور و يصلح من شأنه و يشرّك الشعب في الإدارة و الحكم و يتحوّل من حزب يسيطر عليه الحاكم المستبدّ و يتجبّر بواسطته على الخلق إلى حزب يصنع القادة لخدمة الشعب و الوطن و ليس لتأليه الطغاة و الانصياع الأعمى لهم. و اليوم العديد من العجائز و الشيوخ الذين يزعمون أنّهم دستوريين يريدون بنا العودة إلى البورقيبية و كأنّ حكم بورقيبة كان حكم ديمقراطي و رشيد و يريدون حصر فشل الحزب في الحكم في ثلاث و عشرين سنة إلا أن هذا الحزب كان امتدادا لحزب بورقيبة الذي نكبر و نجلّ تضحياته الجسيمة و نعترف له بنجاحه في قيادة كافة أطياف الشعب التونسي من أجل التحرّر من المحتل الفرنسي و لكنّ نظامه فشل فشلا واضحا في قيادة الدّولة و إدارة دواليبها منذ قيام الجمهورية، فالأشخاص الذّين حكموا مع بورقيبة واصلوا السّيطرة المطلقة على البلاد بواسطة الحزب الذي تجمّع و تجدّد في الفترة الأولى من حكم بن علي، و إلى حد الآن كوادره يناورون من أجل الخروج من الورطة التي وقعوا فيها بأقل الأضرار و الخسائر و أخشى ما أخشاه أن يزوّق هذا النظام نفسه من جديد و يتمكّن من السيطرة على الدولة و مؤسّساتها مرّة أخرى، و عندما أقول النظام لا أعني بذلك الحزب الذي كان يحكم و تم حلّه بل المنظومة «السيستام» المعقّدة و المتشعّبة المتغلغلة في كل مفاصل الدولة و التي مكّنت الطغاة من التسلّط و الاستبداد و ساهمت في نشر الفساد بكل صوره في كافة طبقات الشعب التونسي