- التفسير التآمري للأحداث وللتاريخ، منهج تفكير يلجأ إليه كل من عجز عن تحديد أسباب فشله، أو فقد القدرة على تحديد إحداثيات موقعه المعرفي أو الاجتماعي أو السياسي، أو وضع نفسه في حجم ثقافي وحضاري غير حجمه الحقيقي، فالطالب الكسول يفسّر فشله بتآمر الأستاذ والإدارة عليه، فيُقنع نفسه بأنه على كفاءة عالية وأنه مجتهد في طلب العلم، غير أن مؤامرة ما حالت دون تفوّقه وامتيازه، والذي لا يعرف من أين تبزغ الشمس، ويتكاسل عن الكسب الحلال بالضرب في الأرض، يبرّر بطالته بمؤامرات يحيكها أولو الأمر لفتح أبواب التشغيل لمحاباة الأهل والأقارب على حساب حقه في الشغل، فيطلق لنفسه عنان التسكع في الشوارع وبين المقاهي، ولو سعى إلى كسب حلال من فلاحة أو تجارة مهما كانت بسيطة وربحها قليل، لكَسَب قوت يومه وحفظ نفسه من التسكع والتظلّم والتباكي، والذي أعيته الحيلة في كسب ود الناس والحصول على رضاهم، يفسّر تحامل العامة عليه ونبذهم إياه بتآمر أعدائه بما ينشرونه من أكاذيب وإشاعات حوله، فتزداد عزلته ويبتعد عن مراده... وهكذا هو الأمر في المشهد السياسي التونسي الذي أفرزته أحداث الثورة، فالكل ومشربه السياسي يتوجّس خيفة من الفشل وتبعاته، ومن الرسوب في امتحان الكفاءة المهنية لقيادة حزب أو وزارة أو حكومة، فترى الكل ينظر بعين الريبة والتآمر ضد الكل، والكل يفسّر أخطاءه وسوء تقديره للواقع وفشل برامجه بما يحيكه الأخر من مؤامرات ضده... فمن يتآمر ضد من؟... هذه فصائل اليسار تتهم الحكومة بالتآمر ضد أهداف الثورة، لتواري فشلها في اكتساح مواقع رياديّة عبر صناديق الإقتراع... وهذه التكتلات الليبراليّة والعلمانيّة تكتشف اتساع الهوة السياسية والاجتماعية بينها وبين طبقات الشعب الكادحة والمعدومة، فتتهم تحركات السلفيين والفصائل الإسلامية بالتآمر على الحريات وعلى الديمقراطية... وهذه حكومة مؤقتة تشكلت من ترويكا أحزاب يلازم أعضاءها شعور دائم بالخوف من الفشل وعدم انجاز ما وعدوا به الشعب في حملتهم الانتخابية، فتراهم يترصّدون تحركات معارضيهم ويتّهمون حراكهم واتصالاتهم السياسية على أنها خطط تآمريّة لإسقاط الحكومة ونسف الشرعيّة... فمن يتآمر ضد من؟... ألا يجوز أن يكون قيادات حزب الأغلبيّة في الترويكا يتآمرون على أنفسهم بأنفسهم حين يرتكبون الأخطاء الجسام في حق أتباعهم تارة وفي حق الشعب تارة أخرى، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وإذا توجّه إليهم إخوانهم من داخل الحزب أو من خارجه بالنقد بغية الإصلاح، اتّهموهم في ولائهم، وفي أحسن الحالات يقولون لهم ليس الوقت وقت نقد ولوم، فدعونا نعمل حتى وإن كان عملهم خطأ نسبة الصواب فيه ضئيلة، ثم تحت شعار وحدة الصف وبالانضباط الحزبي يصطف الجميع وراء الخطأ، ولا يبالون... فمن يتآمر ضد من؟ حين تنتشر صور رئيس الحكومة وهو يعانق حميميا المدعو جون ماكين قاتل أطفال فلسطين وعدو العرب والمسلمين بامتياز... وحين يصرّح أحد قادة الحزب بأنهم سيتعاملون مع إسرائيل بما يتوافق وسياسة السلطة الفلسطينيّة، وأن لا سبيل لإدراج بند في الدستور يجرّم التطبيع مع الصهاينة... من يتآمر ضد من؟ حين تنشر واشنطن بوسط مقالا عن زيارة وفد حزب الحريّة والعدالة الإخواني المصري لواشنطن لتطمين الإدارة الأمريكية على مصالحها، وشكرها على مواصلة معونتها لمصر، وذلك بالتزامن مع زيارة وفد حزب النهضة الذي أعطى التطمينات نفسها، مع زيادة التأكيد على أن الحركة لا تبحث إطلاقا تطبيق الشريعة الإسلاميّة في تونس، حتّى وإن أجمع الشعب التونسي على اختيار الإسلام كمصدر لسن القوانين في البلاد... من يتآمر ضد من؟ حين يصرّح أحدهم في المجلس التأسيسي بأن الذي لا يريد تطبيق الشريعة فليراجع إسلامه، ويردف آخر، فيؤكد أن الحركة لن تتنازل عن مبادئها في تطبيق الشريعة وإن لزم الأمر الخروج من السلطة والدخول في المعارضة، ويطنب آخر في شرح كيفية التدرج في تطبيق الشريعة، فتهيج بذلك الساحة السياسية بالضد والمع، وتحرّك العاطفة الدينية فصائل أنصار الشريعة للخروج إلى الشوارع والمطالبة بتطبيق شرع الله، ويقع ما وقع من لغط وتجاذب، ثم تتراجع قيادة الحزب وتعلن أن الحركة تكتفي بالفصل الأول من الدستور الذي ينص على دين الدولة، ولا حاجة لتقسيم المجتمع بين مؤيد ومناهض للشريعة... من يتآمر ضد من؟ حين يريد أحدهم إقناع قواعد الحركة بصواب التراجع عن المطالبة بالشريعة، فيبرّر ذلك بالضغوطات الأجنبية وبالخوف من عدم وفاء الدول الغربيّة بوعودها وقطع الإعانات التي تعوّل عليها الحركة للخروج من الأزمة الاقتصادية، فيكون ذلك سببا في فشل ذريع يلحق بالمستقبل السياسي للحركة... من يتآمر ضد من؟ حين يصرّح رئيس الحكومة بأن جلب المخلوع ومحاكمته ليس أولى من الصداقة مع السعودية، ويردف آخر بأنّهم ليسوا على استعداد للتضحية بصداقة قطر من أجل جلب صهر المخلوع والأموال التي نهبها... من يتآمر ضد من؟ حين تتباطأ أجهزة حكومة الترويكا في محاسبة المفسدين، والتعويض للمتضررين من المساجين السياسيين... من يتآمر ضد من؟ حين يتكلم أحد وجوه رئاسة الحكومة عن التجمعيين الفاسدين فيصفهم بأنهم إخوانهم وقد طلبوا الصفح منهم، ولا فائدة في المحاسبة وكشف المستور، هكذا... من يتآمر ضد من؟ حين يجنّد كل طرف سياسي جيشا من مستعملي الفايسبوك للسب والشتم والقذف وهتك الأعراض والتكفير والتخوين ونشر الأكاذيب والإشاعات لحمل الناس على معاداة هذا أو ذاك، أو لتمجيد شخص وجعله ملهما معصوما ذا حكمة ونزاهة، وما عداه جهلة وفسقة وخونة لا يستحقون الاحترام... هكذا هو المشهد السياسي في تونس، الكل يخوّن الكل، والكل يحسب كل صيحة عليه ويتهم الأخر بالتآمر، وفي الحقيقة كلّ يتآمر ضد نفسه بارتكابه الأخطاء تلو الأخطاء، وفي كل مرّة يبرّر خطأه فينحرف سعيه وهو يحسب أنّه يحسن صنعا، فلا أفلحت أحزاب الترويكا الماسكة بالسلطة في إضفاء صفة المسؤولية والوفاء بالوعود، ولا أفلح أعضاء المجلس التأسيسي في إعطاء صورة جادة في ممارسة حقيقية للديمقراطية بقدر ما كان الهرج والمرج سمة جلساتهم، ولا كانت المعارضة في مستوى المعارضة الحقيقية بالقدر الذي يمكنها من أن تكون لها قيمة مضافة في المشهد السياسي التونسي، ويهيئها للاستحقاقات القادمة في إطار التداول على السلطة. إن التفسير التآمري للحراك السياسي يهز الثقة ويدفع نحو الإحباط، ولا يخدم مصلحة البلاد والعباد، ويعطي الذرائع للفشل لأن يسبق العمل. ناشط سياسي مستقل