الواقع أن أحداث العنف التي عاشتها جربة على هامش انعقاد اجتماع نداء تونس قد حجبت الدلالات السياسية الحقيقية التي يمكن أن تُستشفّ من إصرار الباجي قائد السبسي على الإشراف بنفسه على ذلك الاجتماع، وهو الذي لوحظ غيابه في اجتماعي الحزب بأريانة وسوسة. فمنذ أيام قليلة نشرت جريدة المغرب خبرا صغيرا دالّا جاء فيه أن السبسي ردّ على بعض قيادات حزبه الذين نصحوه بعدم التوجه إلى جربة لما قد يحفّ بزيارته من خطورة قائلا ومتحديا، على حد تعبير المغرب "لي خاف اشد دارو والأعمار بيد الله". لاشك أنه لم يُنقل عن الوزير الأول السابق مثل تلك الأقوال عند دعوة الحزب لاجتماع صفاقس الذي فشل بدوره. ولم يسجل حضوره إلا في الاجتماع المنعقد بالمنستير. ومن الطبيعي أن يكون حاضرا في المنستير فهي المدينة البورقيبية بالقوة وبامتياز. ولا شك أيضا أنه كان يعي ما يقول رغم تقدمه في السن، فجربة التي كانت منبتا حقيقيا للحركة الوطنية زمن الاستعمار الفرنسي -ودارسوا التاريخ الجربي يعرفون ذلك جيدا- تولى الكثير من رجالها وظائف وزارية وسياسية قيادية في الدولة وفي حزب بورقيبة الذي هو حزب الباجي قائد السبسي بدون شك، وهو يعرفهم جيدا أكثر من أي إنسان آخر. لكن الأهم من كل ذلك هو أن جربة ترمز أيضا إلى الطرف الثاني الأكثر قوة ووطنية ومقاومة في الصراع السياسي الأشدّ دموية الذي عاشته تونس منذ الأزمة الباشية الحسينية، فهي ترمز إلى الزعيم الوطني صالح بن يوسف وإلى صراعه مع بورقيبة وتصفية الحركة اليوسفية الواسعة الانتشار في صفوف التونسيين والتخلص من رجالاتها قتلا في سباط الظلام وفي منزل تميم وغير ذلك من المدن والقرى والأرياف أو إعداما في الساحات العامة أو التنكيل بهم وسجنهم وتعذيبهم وتشريدهم وتيتيم أبنائهم وترميل نسائهم. ولا أظن أن السيد السبسي يخفى عليه أطوار ذلك الصراع الطويل وهو الذي انحاز إلى بورقيبة وعمل "تحت إمرته" جنديا وفيا ولا يزال محافظا على وفائه، فعايش كافة مراحل القضاء على اليوسفية واليوسفيين من موقع رجل الدولة، وقد تأثر بزعيمه أيما تأثر حتى بات يستنسخ منه سلوكه اليومي ويقلده في كافة حركاته وسكناته وفي أقواله وخطاباته ويستثمر علاقاته التي بناها وهو يعمل معه مدبرا عاما أو وزيرا أو سفيرا. وفي سنة 1987 وتحديدا في 25 أفريل قام بورقيبة بزيارته الأخيرة إلى جزيرة جربة ورُوي عنه وهو يخاطب محاوره الصادق المقدم متهكما ومتحديا " قل لصالح بن يوسف أن يذهب إلى المنستير !!". لقد كان بورقيبة في ذلك الوقت في حالة شيخوخة متقدمة في اتجاهها إلى أرذل العمر ولكن ذاكرته لم تبلغ من التردي درجة اختلاط الأمر عليه واعتبار بن يوسف لا يزال حيا يرزق. فقد كانت ذاكرته متحفزة حاضرة منتقمة من غريمه السياسي الذي اغتالته يد الغدر منذ ربع قرن في ذلك الوقت. وأردف تلك الأقوال بخطاب مؤثث بالتشفي من الزعيم الكبير وبالحنين إلى قاتله والإعلاء من شأنه قائلا " ما ثمّ كان راجل واحد هو بشير زرق العيون.." وهو القول الذي استاء منه مستمعيه من الجرابة آنذاك، وهذا موقف قديم كان أفصح عليه بورقيبة وهو يوسّم قتلة بن يوسف بقوله " بشير زرق العيون هو الرجل الوحيد الذي يدين له كل التونسيين". لقد اعترف بورقيبة بأن من يدين له التونسيون هو رجل قاتل، لان ذلك الرجل وبكل بساطة هو من حسم الصراع على السلطة ونهائيا لفائدة بورقيبة الذي صنع من التونسيين شعبا بعد أن كانوا مجرد "غبار أفراد" على حد قول الرئيس الأسبق والأول في تاريخ تونس !!! وأظن أن الباجي قائد السبسي قدم إلى جربة على خطى الحبيب بورقيبة ليقول للجرابة ولأهالي الجنوب عامة أنا على خطى بورقيبة.. أنا على خطى البشير زرق العيون قاتل صالح بن يوسف.. أظنه أرسل رسالة مشفرة إلى أهالي جربة وإلى اليوسفيين بأنه آت إلى جزيرتهم كما قدم إليها بورقيبة قبل ذلك منتصرا ومتحديا خاصة وأن تلك الزيارة قد تزامنت مع إسقاط تهمة تعذيب اليوسفيين على السيد السبسي، التهمة التي كثيرا ما أرقته وهزّت كيانه، وحفظ القضية المرفوعة ضده من قبل مجموعة من اليوسفيين وعائلاتهم. ومن الصعب تفسير إصرار السبسي على القدوم إلى جربة بدون الاستنجاد بالسجل التاريخي الكبير في علاقة البورقيبية التي لا تزال ممثلة في السبسي وبعض الدستوريين في نداء تونس وفي غيره، باليوسفية التي لا تزال تحيى من خلال بعض المقاومين اليوسفيين ومن ورثهم من التيارات والأحزاب القومية العربية التي تعتبر نفسها الامتداد الطبيعي لبن يوسف واليوسفية. ومن الصعب أيضا فهم زيارة السبسي خارج سياق احتفاله بمرور نصف قرن بالتمام والكمال، وبطريقته الخاصة، على اكتشاف أحداث "مؤامرة" 1962 اليوسفية ومعاقبة من قاموا بها تعذيبا وإعداما وسجنا وأشغال شاقة، فالاحتفال بُرمج ليوم 21 ديسمبر 2012 و"المؤامرة" تم اكتشافها يوم 20 ديسمبر 1962 . إن قدوم السبسي إلى جربة هو حلقة من حلقات الصراع الذي لم يتوقف بين البورقبيين واليوسفيين. وقد أخذ ذلك الصراع أشكالا عنيفة وسياسية في الماضي ويأخذ اليوم أشكالا رمزية وفكرية وتأريخية و قانونية وحتى قضائية. وعلى الرغم من احتمال وجود يوسفيين أو أحفاد لهم من بين الجمهور الذي أفسد على نداء تونس اجتماعه هو أمر وارد، فإن الجمهور الغالب من اليوسفيين ومن خلال الجمعيات والمنظمات التي تمثلهم مثل المنظمة الوطنية للدفاع عن اليوسفية وشيوخ اليوسفيين في كثير من الجهات وخاصة في المناطق الأكثر يوسفية في الجنوب مثل بني خداش وبنقردان والحامة لم يهرعوا إلى جربة ولم يشاركوا في الاحتجاج على نداء تونس ولم يصدروا أي بيان أو موقف يتبنون فيه ما حدث من احتجاج أو عنف، وينسحب نفس الأمر على عائلة صالح بن يوسف بالرغم من أن اليوسفية باتت شأنا وطنيا يشترك فيه الجميع ولا يقتصر على عائلة الزعيم الشهيد. ولعل مرجع ذلك هو إيمان اليوسفيين وأحفادهم الأيديولوجيين بالمقاومة المدنية والسياسية والعمل السلمي لا غير، فقد جربوا من قبل العمل العنيف والمسلح في زمن النضال المسلح، أما اليوم فإنهم يدينون العنف مهما كان مأتاه ويرون أن الاختلافات السياسية والصراعات لا يمكن أن تدار بغير الأسلوب السياسي الذي من أشكاله الاحتجاج السلمي وهذا الأمر ينسحب على كافة القضايا السياسية دون استثناء بما في ذلك حزب نداء تونس ومن يتزعمونه، فهذا الأمر يجب أن يوكل للشعب ليقول كلمته فيه. أما موضوع تعذيب اليوسفيين فمرجعه مؤسسات الدولة التشريعية والقضائية والتنفيذية ومدى قدرة من يتولونها على إنصاف الناس والقصاص لهم بعيدا عن الاعتبارات الفئوية والحزبية التي بدا واضحا أنها كانت وراء إفساد اجتماع نداء تونس. وفي انتظار ذلك وبعيدا عن سياسة إفساد الاجتماعات الحزبية لهذا الطرف أو ذاك لا يمكن أن تُفهم زيارة السبسي إلى جربة إلا على أنها حنين إلى زرق العيون وأمثاله من الجرابة البورقيبيين وهم ليسوا بالقلة وبصماتهم في الحكم زمن بورقيبة لا تزال جلية، وعمل نداء تونس على استقطابهم إلى صفه يبدو متأكدا وهذا أحد أهداف تنظيم الاجتماع المسكوت عنها، وتشفيا من بن يوسف وأحفاده وإعلان الانتصار عليهم بعد حفظ قضية التعذيب المرفوعة في أروقة المحاكم.