(3) وجد اليسار التونسي في ثورة الربيع العربي مخرجا له و بريق أمل بعد سلسلة الهزائم و السقطات التي واكبته خلال مسيرته التاريخية عبر الزمان و المكان و كأن سوء الطالع يلازمه حيثما حل ، و في صحوة ضمير عربية فريدة من نوعها أبهرت العالم بأسره اندلعت ثورة الحرية و الكرامة و الإنسان و تغيرت موازين القوى بشكل أدهشت العدو قبل الصديق غير أن اليسار المخادع و تحت أنوار البهجة و الإعجاب توهم أنه يقود شباب الثورة و أن الفكر الاشتراكي قد أينعت ثماره على أرض تونس الطاهرة و أنه قد حان قطافها و أن الماركسية ما تزال تنبض بالحياة و هي التي أشعلت صدور طبقة الشباب الكادح غضبا و حماسا و دفعتهم لإسقاط النظام الرأسمالي . إنها محاولة أخرى مفضوحة كسابقاتها لسرقة الثورة و الالتفاف حول إنجازاتها في حين أن اليسار قبل الثورة كان مرتبطا بشكل وثيق و إلى حد النخاع بنظام المخلوع و لم يفكر يوما أن يكون حزبا جماهيريا أو قريبا من هموم المواطنين الكادحين أو طبقة البروليتاريا كما يلقبها و يصفها هو بنفسه ، لقد تنكر لأدبياته و مفصل فلسفته القائمة على صراع الطبقات و نصرته للفئة الضعيفة من المجتمع و ذاب في منظومة بن علي و تقرب اليه زلفى لينال رضاه و ينال رشوة على قدر الجهد الذي يبذله لعلها تحسن من مستواه المعيشي و ترفع من درجته الاجتماعية لكنه نسي أنها سوف تدينه و لو بعد حين ... فمنهم ، من باع ضميره و أصبح بوليسا سياسيا و امتهن الجوسسة و كتابة التقارير الملفقة ضد الأسلاميين ذلك العدو المشترك و الذي من أجله تمت الصفقة و المبايعة ، و منهم من سولت له نفسه أن يكون بوقا دعائيا لحكومة المافيا و منهم من تولى للتنظير و التخطيط للقضاء على الإسلاميين و إبعادهم ليس من الساحة السياسية فحسب بل من الحياة عامة حتى تخلوا لهم الساحة لوحدهم و يتفردوا بالشعب التونسي الطيب و يعجنوه على الطريقة التي يريدون و يسلخوه من عقيدته و إسلامه كما سنبينه في الحلقات القادمة . و بما أنهم لا يؤمنون بالقوى الغيبية و ان هذا الكون يسير وفق نواميس و قوانين لا تنحرف عن مجراها أبدا و أن جولة الباطل ساعة و أن جولة الحق إلى قيام الساعة ، و وفقا لقوانين الطبيعة سقط نظام الظلم و الجور و سقط معه اليسار الذي كان يأكل من كتفه و من فتات مائدته و لكنه... و في لحظة غدر و خيانة... و كعادته ناكرا للعشرة و العشير ، تبرأ اليسار الانتهازي من سيده الذي لم يطعمه من جوع و لم يؤمنه من خوف و قفز كقط الشوارع من مائدة السلطان المهزوم إلى مائدة الثورة المنتصرة و التحق بالمسيرات و تصدر الصفوف الأولى بالشوارع و نشرات الأخبار و قدم نفسه كثائر و صانع للثورة و حاميها وهو يتلون كالحرباء من غصن إلى غصن . و لكن .... لم تنطوي هذه الحيلة على الشعب التونسي الذي كثيرا ما وصفوه بالأبله و الغبي بل تجرؤوا على معاقبته و تأديبه لأنه حرمهم من ولي نعمتهم و رغد العيش الذي كانوا ينعمون فيه دون سواهم ، فعملوا على تركيعه عبر الإضرابات و غلاء الأسعار الممنهج و التلويح بإحراق البلاد و تخويفه من شبح الاسلام المظلم كما صوروه و لكن الشعب التونسي كما كان حضاريا و صالحا أكثر من العائلة الحاكمة كما جاء ذلك في وثيقة ويكيليس فهو و للمرة الثانية يثبت أنه أكثر تحضرا و صلاحا من بقايا النظام الفاسد و بطانته اليسارية الانتهازية . و انحاز الشعب التونسي لحركة النهضة و حلفائها و أهدى لليسار مجموعة أصفار لم يكن يتوقعها أبدا و لكنها في حقيقة الأمر نتيجة طبيعية لمتابع الشأن التونسي و سيرة اليسار المتقلبة و المبنية على الغش و التآمر و الانتهازية و فيما يلي الأسباب الموضوعية التي كانت وراء سقوط اليسار المدوي في أول انتخابات نزيهة بالعالم العربي : اليساري التونسي ليس يساريا مطلقا فهو يعيش في الأحياء الراقية و يعقد اجتماعاته بالفنادق الفاخرة و يحتسي الخمور المستوردة و يستقطب الطبقات البرجوازية التي يسهل عليه تجنيدها و توظيفها و أصبح كتلا نخبوية من المحامين و الفنانين و الصحافيين و الاعلاميين في حين قواعد الحركة الاسلامية تلتقي بمساجد الأحياء إثر كل صلاة و يفترشون الحصير و يتقاسمون الهموم و الألام و الرغيف و تجد داخل حلقة التلاوة الاستاذ و الطالب و العاطل و الشيخ و العامل تجمعهم المحبة و دفء الإيمان . خطاب اليسار يتميز بالغموض و الألغاز و الصراعات الفكرية التي مكانها فصول الجامعة و طلاب العلم و ليس للعاطل عن العمل الذي يريد ترميم حائطا يوشك على السقوط أو الأم التي تبحث عن رغيف خبز يسد رمق ابنها أو الشيخ الذي يطلب دواء يسكن له ألامه أو أب يريد مالا ليدفع به رسوم دراسة ولده و ليس لغو الحديث و الترف الفكري و الجدل العقيم الذي ليس من ورائه سوى صراعات أيديولوجية غير واقعية لا يفهمها المواطن البسيط الذي هو في نهاية الأمر له كلمة السر و مفتاح المرور في الانتخابات . يعتقد الناخب التونسي أن و جوه اليسار المرشحة هي نفسها التي كانت تعمل لصالح المخلوع فكيف أسقطه بالأمس و ينتخب شركائه اليوم و يعتقد أن ذلك خيانة لدماء الشهداء و نفاق سياسي بامتياز . اليساري التونسي قدم نفسه للشعب المسلم من خلال أدبياته و معتقداته أنه لا يؤمن بالله و أن الاسلام خرافة و لا وجود للبعث و لا الآخرة ... و بالاختصار المفيد اليساري ملحد و هذا خطأ استراتيجي و حماقة فكرية و غباء سياسي و انحراف في المعتقد... و من الآخر مادام اليسار التونسي على هذه النهج المنحرف فلن يرى النور أبدا و سيبقى منبوذا اجتماعيا و شاذا في مجتمع يوحد الله و يدين بالاسلام . الفكر اليساري لم يتطور عبر التاريخ و بقي حبيسا للماضي البعيد و يقوم بعملية إسقاط لشعارات و نظريات جاهزة ثبت فيما بعد أنها باطلة و فاسدة و لكن اليسار التونسي متحجر غير قابل للتطور و التكيف مع الواقع الجديد فهو رجعي في أفكاره و معتقداته و ليس هذا فحسب بل يستنسخ تجارب من القرون الوسطى و يسقطها على عصرنا الحديث في حين أثبت الاسلاميون مرونة و تناغما مع احتياجات العصر دون المساس بالثوابت و تفاعلوا مع واقعهم بانفتاح دون مركبات نقص و أثبتت لنا الأيام ان اليساري هو الرجعي الذي لا يتطور رغم الهزائم المتتالية التي مني بها . سبق أن ذكرنا في المقال السابق أن نظرية الاقتصاد الاشتراكية تخلى عنها أصحابها في الاتحاد السوفياتي و أثبتت فشلها في حين اليساري التونسي ما يزال يشد عليها بالنواجذ رغم فشل التجربة في تونس ذاتها في عهد أحمد بن صالح . اتضح مما تم ذكره سابقا أن اليسار التونسي يعاني أزمة حقيقية و أنه سيلقى نفس المصير في الانتخابات القادمة إن لم يراجع نفسه و يقوم بنقد ذاتي و يعمل ثورة في فكره قبل فوات الأوان و يحافظ على وجوده قبل أن يتجاوزه التاريخ و يصبح من الماضي و أعتقد أنه أول خطوة سليمة و جريئة يقوم بها اليسار التونسي أن يعزل قيادته التي كانت سببا مباشرا في خسارة الانتخابات و ان يتركوا مواقعهم للأجيال الجديدة و يعيدوا النظر في الأفكار القديمة و القوالب الجاهزة أما غير ذلك فالهزيمة ستكون حليفتهم . حمادي الغربي نواصل بإذن الله في الحلقة القادمة : أخطاء اليسار القاتلة