بادئ ذي بدء ، إن الدوافع المنطقية التي ساهمت في نشأة الفكر الشيوعي و خاصة منها مسألة استبعاد الفكر الديني و الأخلاق من فلسفتها المادية الى درجة الاستخفاف بفكرة الإلاه و احتقار كل متدين ، قد تكون مبررة بعدما أن استغل القساوسة الكنيسة الأوروبية أسوأ استغلال لحماية بلاط الملك و تقديم امتيازات للبرجوازيين و قتل كل مبدع و مفكر و صاحب رأي تعتقد الكنيسة أنها بدعة و تتعارض مع نصوص الإنجيل ، في حين أن الاسلام رفع من شأن العلماء و حث على طلب العلم و تكريم الانسان و قيمة الحرية و اعمار الأرض و الشعب التونسي يؤمن بهذه القيم و يعبد الله و يتحرى الحلال و الحرام في معاملاته اليومية و هو بالطبع شعب يدين بالاسلام على المذهب المالكي و يلتزم بالشعائر و الاحكام برغم الهجمة الثقافية الممنهجة من قبل النظام البائد و عليه فإن أول خطيئة تسجل لفكر اليسار بأنه غير مرحب به على أرض الاسلام لتعارض أفكاره و مبادئه مع معتقدات الشعب التونسي و عظمة اسلامه و قدسية قرآنه الذي لا يأتيه الباطل أبدا فضلا عن ذلك فأن مؤسسي الحزب الشيوعي بالوطن العربي كانوا يهودا ، فالحزب الشيوعي في فلسطين أسسه (جاك شابيليف) و(راوول كارنبورغ) أما الحزب الشيوعي بمصر تأسس على يد اليهوديين (جوزيف روزنثال) و (هنري كورييل) أما الحزب الشيوعي التونسي تأسس على يد اليهودي (أندري باروش) ... و قبل ذلك يشهد التاريخ بمباركة الحكومة الشيوعية الأولى بعد الثورة البلشفية فكرة و تجربة دولة اليهود السوفيت في منطقة بيروبيجان و ذلك كمحطة قبل الانتقال الى دولة اليهود الأبدية بفلسطين . هذه نافذة تاريخية صغيرة تكشف للقارئ الظروف الموضوعية التي نشأت فيها الشيوعية و الأسباب المحيطة بولادتها . بعدما شاهدنا مع بعض في المقال السابق الهزائم المتتالية التي لحقت بالشيوعية في عقر دارها و حرب 1967 ثم لاحقا إبان ثورة الربيع العربي لم يستفد الفكر اليساري من التاريخ و يقوم بمراجعة شاملة لفلسفته و أدبياته التي أوصلته الى ما هو عليه من تراجع في شعبيته و انكماش في فكره و خسارة مدوية في أول انتخابات شفافة في العالم العربي حيث مني بهزيمة ثقيلة يصعب على اليساريين تحملها و لكن كان بالإمكان تجاوزها لو اتسمت قيادتهم بالشجاعة و قدمت استقالتها من زعامة الحزب المهزوم و فسحت المجال لقيادات شابة لعلها استوعبت الدرس من الاشتراكية الأوروبية و من دول جنوب أمريكا حينما تحالفت مع المسيحية و تصالحت مع الكنيسة فشهدت تطورا في أدائها و توسعا في قواعدها في حين تشهد الأحزاب اليسارية بتونس انقسامات متعددة لا تتوقف أبدا و لا يمكن توحيدها مطلقا نظرا للصراعات الأيديولوجية المعقدة و الخلافات ذات الطابع الذاتي ، في حين أوصى المفكر اليساري العربي كريم مروة و حذر رفاقه من أهل اليسار من البقاء في أسر تلك الافكار القديمة و إعطائها طابع القداسة ، الأمر الذي يقودهم الى البقاء في الماضي و يمنعهم من رؤية المتغيرات التي تأتي بها أحداث التاريخ . أما الخطيئة الكبرى التي ارتكبها اليسار التونسي أنه لم يكن يساريا قط في عهد المخلوع بل كان طوق نجاة له و عمل على تلميع و صورته أمام المجتمع الدولي و تم تعيينه نائبا بالبرلمان في حين البقية الباقية عملت كعنصر مخابرات لدى البوليس السياسي و سقط البعض الآخر في لعبة الاموال المشبوهة و الرشاوى المحرمة في شكل قطع اراضي و تسهيلات إدارية و تعيينات غير مستحقة و وساطات مدفوعة الثمن ، يعني في النهاية وقعوا في فخ مافيا العائلة الحاكمة و انسلخوا من جلدهم و تنكروا لماركس و لينين و الشيوعية برمتها . أما القشة التي قصمت ظهر البعير حينما قدم اليساري نفسه للشعب التونسي أنه لا يؤمن بالله و لا برسوله و استهزأ بالإسلام بطريقة تشمئز منها الأنفس و تقشعر لها الأبدان كمطالبتهم بإلغاء عقوبة اللواط و طرح القانون المثلي و تشبيه الرسول محمد عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم بشكسبير و الدعوة للمعاشرة الجنسية دون عقد زواج ثم حملتهم المنظمة بدفع الفتيات للتعري و الاعتداء على المنقبات و حرمانهن من دخول قاعة المحاضرات ...الخ . و آخر عثرات اليسار و إلى كتابة هذا المقال دعوة بعضهم الدول الأجنبية للتدخل عسكريا في تونس لإنقاذ البلاد من خطر الاسلمة و كأن تونس يدين أهلها بغير الاسلام دينا و لم يكتفوا بهذا الحد من الأخطاء بل تحالفوا مع من ثار الشعب التونسي ضدهم و خلع رئيسهم و مدوا أيديهم لعدو الامس و قوى الثورة المضادة رغم التضارب الفكري بين الجانبين و اختلاف المصادر الفكرية و تباين حلفاء القوى الخارجية . أعتقد أن كل هذه الأخطاء الجسيمة و المصيرية ستكون حاسمة في الحملة الانتخابات القادمة و سيعرف الاسلاميون كيف يوظفونها و كالعادة سيلقى اليسار نفس المصير أو أسوأ من المرة الفائتة . و لكن بعد عرض كل هذه الأسباب المنطقية في فشل اليسار التونسي و خيبة أمله في تحقيق طموحاته إلا أنه تمكن من خرق المنظومة الأخلاقية و السلم الاجتماعي و ذلك عبر أخطبوط من النخبة و رجال يدركون المهمة التي على عاتقهم في نشر الفكر اليساري من خلال مواقعهم الحساسة و الخطيرة ، و هذا ما سنراه في الحلقة القادمة بإذن الله . حمادي الغربي