عاجل/ قضيّة "التآمر": إحالة 40 متّهما على الدائرة المختصّة في الإرهاب    رياض البوعزيزي: 'السلطة تدخّلت لإبطال ترشّح قائمتي التلمساني وبن تقية لانتخابات الجامعة'    الروائح الكريهة تنتشر في مستشفي قابس بسبب جثث المهاجرين    إغتصاب ومخدّرات.. الإطاحة بعصابة تستدرج الأطفال على "تيك توك"!!    عاجل : معهد الصحافة يقاطع هذه المؤسسة    رئيس الجمهورية يتسلّم دعوة للمشاركة في القمة العربية    الترجي يقرّر منع مسؤوليه ولاعبيه من التصريحات الإعلامية    هذه الأغنية التونسية تحتل المركز الثامن ضمن أفضل أغاني القرن 21    التمديد في سنّ التقاعد بالقطاع الخاص يهدف الى توحيد الأنظمة بين العام والخاص    عاجل/ إستقالة هيثم زنّاد من ادارة ديوان التجارة.. ومرصد رقابة يكشف الأسباب    شوقي الطبيب يرفع إضرابه عن الطعام    تواصل غلق معبر راس جدير واكتظاظ كبير على مستوى معبر ذهيبة وازن    البنك المركزي يعلن ادراج مؤسستين في قائمة المنخرطين في نظام المقاصة الالكترونية    تونس: مرضى السرطان يعانون من نقص الأدوية    من بينهم مساجين: تمتيع 500 تلميذ باجراءات استثنائية خلال الباكالوريا    أتلتيكو مدريد يقترب من التعاقد مع لاعب ريال مدريد سيبايوس    الرابطة الأولى: نجم المتلوي يرفع قضية عدلية ضد حكم مواجهة النادي البنزرتي    رئيس لجنة الشباب والرياضة : تعديل قانون مكافحة المنشطات ورفع العقوبة وارد جدا    عاجل/ الشرطة الأمريكية تقتحم جامعة كاليفورنيا وتعتقل أغلب الطلبة المعتصمين    مجددا بعد اسبوعين.. الأمطار تشل الحركة في الإمارات    مدنين: بحّارة جرجيس يقرّرون استئناف نشاط صيد القمبري بعد مراجعة تسعيرة البيع بالجملة    هام/ الترفيع في أسعار 320 صنفا من الأدوية.. وهذه قيمة الزيادة    عبد المجيد القوبنطيني: " ماهوش وقت نتائج في النجم الساحلي .. لأن هذا الخطر يهدد الفريق " (فيديو)    وزارة التجارة تنشر حصيلة نشاط المراقبة الاقتصادية خلال الأربعة أشهر الأولى من سنة 2024    جبنيانة: الكشف عن ورشة لصنع القوارب البحرية ماالقصة ؟    صفاقس_ساقية الدائر: إخماد حريق بمصنع نجارة.    عين زغوان: حادث مرور يسفر عن وفاة مترجل وبتر ساق آخر    المغازة العامة تتألق وتزيد رقم معاملاتها ب 7.2%    وزيرة التربية: ''المقاطعة تساوي الإقتطاع...تسالني فلوس نخلّصك تتغيّب نقصّلك''    اليوم: جلسة تفاوض بين جامعة الثانوي ووزارة التربية    وزير الشؤون الاجتماعية يزف بشرى لمن يريد الحصول على قرض سكني    الحماية المدنية: 9حالة وفاة و341 إصابة خلال 24ساعة.    حادث مرور قاتل بسيدي بوزيد..    24 ألف وحدة اقتصاديّة تحدث سنويّا.. النسيج المؤسّساتي يتعزّز    الأساتذة النواب: ندعو رئيس الدولة إلى التدخل    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    الحبيب جغام ... وفاء للثقافة والمصدح    وفاة الممثل عبد الله الشاهد    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 2 ماي 2024    غرفة تجّار لحوم الدواجن: هذه الجهة مسؤولة عن الترفيع في الأسعار    تونس تشهد تنظيم معرضين متخصّصين في "صناعة النفط" و"النقل واللوجستك"    يهم التونسيين : حيل منزلية فعالة للتخلص من الناموس    نَذَرْتُ قَلْبِي (ذات يوم أصابته جفوةُ الزّمان فكتب)    مصطفى الفارسي أعطى القصة هوية تونسية    المهرجان الدولي للثقافة والفنون دورة شاعر الشعب محمود بيرم التونسي .. من الحلم إلى الإنجاز    بطولة مدريد المفتوحة للتنس: روبليف يقصي ألكاراز    حالة الطقس ليوم الخميس 02 ماي 2024    محمد بوحوش يكتب .. صرخة لأجل الكتاب وصرختان لأجل الكاتب    عاجل : سحب عصير تفاح شهير من الأسواق العالمية    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    مايكروسوفت تكشف عن أكبر استثمار في تاريخها في ماليزيا    مندوب روسيا لدى الامم المتحدة يدعو إلى التحقيق في مسألة المقابر الجماعية بغزة    طيران الكيان الصهيوني يشن غارات على جنوب لبنان    المرسى.. الاطاحة بمنحرفين يروّجان الأقراص المخدّرة    الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات تقول ان الوكالة الوطنية لمكافحة المنشطات لم تمتثل لتوصياتها    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    القيروان: إطلاق مشروع "رايت آب" لرفع الوعي لدى الشباب بشأن صحتهم الجنسية والانجابية    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منطق الأخلاد إلى الأرض - البروفيسور أبو يعرب المرزوقي
نشر في الفجر نيوز يوم 03 - 05 - 2013

كيف أمكن لغالبية ما يسمى بالنخب التي تدعي الحداثة والدفاع عن الحريات أن تصطف اصطفافا عجيبا فتصبح جميعها إلا من رحم ربك في خدمة ممثلي النكوص إلى منطق الحكم المتقدم على الثورة أعني حكم الفساد والاستبداد فضلا عن احتقار الشعب والعباد بتعالم و تحادث زائفين يموت منهما ضحكا كل من له دراية ولو متوسطة بقيم العلم و الحداثة لأن جلهم ممن تسكرهم زبيبة فيصبحون بقراءة الصحف وكتب التقريب الجمهوري علماء في كل شيء وهم أجهل الناس بأي شيء:
1-كيف لجل ما يسمى بنخب الساحة الثقافية ومنها خاصة ما يوصف بالمبدعين و الإعلاميين أن يصطفوا مع هذه العودة البينة للنظام المتقدم على الثورة ؟
2-وكيف لجل ما يسمى بنخب الساحة التربوية ومنها خاصة نقابيوها ومنظروها المزعومون أن يصطفوا معها؟
3-وكيف لجل ما يسمى بنخب الساحة الاقتصادية ومنها خاصة مؤطرو أرباب العمل و اتحادات العمال أن يصطفوا معها ؟
4-وكيف لجل ما يسمى بالنخب الساحة السياسية ومنها خاصة زعماء العهد البائد و من كان من قيادات المعارضة البارزين أن يصطفوا معها ؟
هل تكفي دعوى انتساب هذه النخب إلى المستفيدين من عهد الاستبداد و الفساد لتفسير اصطفافهم الموجب خاصة وهم قد يئسوا من إمكانية إطالة عمر النظام عندما كانت الثورة لا تزال ذات زخم قوي فانكمشوا ولم يتحركوا ضدها وحاولوا ركوب ثورة الحقوق تركيزا على جيلها الأول وإهمالا لجيليها الثانيين إلى أن التحقوا في الأخير بصف الثورة المضادة بعد أن كونت حزبها المعلن؟
لو كنت ممن يكتفي باتهام الخصوم لقنعت بهذه الحجة أو لذهبت إلى حد اتهام من أسهم منهم في الثورة بأنهم لم يفعلوا إلا بعد أن شعروا بأن النظام السابق بدأ ييأس من فاعلية دورهم فتوجه نحو مقاسمة الإسلاميين الحكم لاعتقاده أن ذلك يمكن أن يمد في أنفاسه (مثال ذلك ما فعل صهر الدكتاتور من مغازلة للإسلاميين) فسارعوا إلى التخلص منه قبل أن يتخلص منهم: اليسار الذي كان يلمع صورة ابن علي بدأ يشعر أن ابن علي بدأ يستبدلهم بخدم آخرين. لكني فضلت في البحث السابق (25 أفريل 2013: ما الذي أمد الثورة المضادة بالقوة) ألا أتمادى في تأويل سلوك النخب المتحالفة مع الثورة المضادة فركزت على الحاجة إلى النقد الذاتي الذي على الأحزاب الحاكمة وخاصة الإسلامية منها الإقدام عليه لعلها تتدارك ما يقبل التدارك قبل فوات الأوان.
ذلك أنه ما كان لهؤلاء النخب الذين كانوا يستمدون سلطانهم من حلفهم مع الاستبداد والفساد أن يصطفوا بهذا اليسر لو علموا أن الهزيمة ستحيق بهم لأنهم جبناء كما يعلم الجميع أي لو كانوا أمام خصوم لهم الخطة الفاعلة التي تبقي هذه النخب التافهة تابعين لممثلي ما لا يتجاوز الصفر من أصوات الشعب. و ما كانوا يشكون في حصول الهزيمة لو لم يمدهم سوء الإدارة السياسية والتخطيط الاقتصادي والثقافي والتربوي و غياب الاستراتيجية ما به يقنعون الشعب بأن من اختارهم لحكمه قد فشلوا حقا فشلا اضطروا في الغاية للاعتراف به رسميا قبل سقوط الحكومة السابقة. ولألخص ما حصل قبل الشروع في تفسير سلوك النخب تفسيرا نسقيا يمكن من تحقيق الإصلاح و قلب الموازين لصالح مطالب الثورة وأهدافها:
1-فالثالوث الحاكم قد أساء التصرف الإداري في المعاملات إلى حد العجز عن إنجاز المهام التي أوكلت إليه بمقتضى برنامج الانتخابات التي أوصلت مكوناته إلى الحكم و التي كان من المفروض الاقتصار عليها إعدادا لشروط النجاح في الانتخابات النهائيةبعد المرحلة الانتقالية:
أ-مهمتان سياسيتان بامتياز: الدستور المدني وأدوات جعله واقعا أعني قانون الانتخابات وهيئتها المستقلة.
ب-مهمتان اجتماعيتان بامتياز: العدل الاجتماعي وأدوات جعله واقعا أعني التنمية الجهوية والبطالة.
ومعلوم أن المهمتين الأوليين لو حصل التركيز عليهما كما حاولت الإقناع بهما فتم النجاح فيهما لكانتا مساعدتين على المهمتين الثانيتين لأنهما تمكنان من تحقيق ثقة المستثمرين و التنمية خارجيا و داخليا فتوفران حظوظ النجاح في الانتخابات وخاصة الدليل القاطع على أن الحركات الإسلامية قادرة على مشاركة غيرها في حكم البلاد لتحقيق شروط الحكم الناجح بشروط الحكم الحديث وخاصياته المدنية أعني حسن الإدارة و فاعليتها في تحقيق متطلبات الحياة الأساسية مع ما أمكن من شروطها الرافهة. ويعلم الله أني قد نصحت بهذه الخطة في المستويين الحكومي والحزبي (رغم أني ليست صاحب صفة حزبية إذ كنت ضيفا لدى حركة النهضة ولست منتسبا إليها عضويا) لكن كلامي كان صيحة في واد.
2-فهم قد أساؤوا التقدير السياسي في تحديد الأوليات فدخلوا في معارك زائفة ألبت الجميع ضدهم لأنهم بسلوكهم المتعثر والمتردد في غالب الأحيان بل الأرعن عند البعض منهم في الكثير منها مثل:
أ-عدم الإبقاء على هيئة الانتخابات المستقلة التي أثبتت جدارتها بما كانت قد مكنتهم من الوصول إلى الحكم في حين أنهم لم يكن لهم حول و لا قوة ما يعني أن أي ظلم منها لم يكن قابلا للتصور بعد أن أصبح الحكم بيدهم.
ب-وخرافة قانون الاستثناء و بعض بنود الدستور الإيديولوجية والخصومات الزائفة مع الإعلام إلخ ... وكلها معارك تدل على فقدان البوصلة والعجلة في علاج المسائل دون ترتيب في حين أن الثورة كان من المفروض أن تكون فرصة لتوحيد الصف بمنطق جب ما تقدم عليها حتى نبني المستقبل.
وبذلك فهم قد جعلوا أعداء الثورة قادرين على إخافة الأغلبية من الأخطار التي تهدد مصالحهم المادية والمعنوية فوظفوا الغضب الشعبي الذي كان مكبوتا و الحاجات الملحة التي تحول دون الصبر والتضحية ليجعلوا من الارتباك قوة ضاربة تفقد الشرعية الانتخابية و حتى النضالية كل فاعلية فعلية و رمزية في الحفاظ على الشعبية الممكنة من تحقيق برامج هي بالضرورة غير شعبية كما هي طبيعة كل إجراءات إصلاحية و ثورية بحق.
علاج الخلل في سياسة الثورة
لكن المشكل ليس مقصورا على الحكام بعد الثورة بل هو مشكل عام و يشمل كل النخب التونسية حاكمها و معارضها. ومن ثم فالمشكل أعمق مما نتصور. إنه متعلق بثقافة العرب الحالية ثقافتهم المعتمدة على منطق الإخلاد إلى الأرض الثقافة التي تحول دون التصدي الحقيقي و الناجح لمنظومة الفساد و الاستبداد التي تمركزت في نفوس الجميع بحيث إن الشعوب العربية ليست بعد مؤهلة للقيام بالجهد الذي يجعلها قادرة على تحمل عبء ثورتها. لذلك فلا بد من الذهاب إلى بيت القصيد. ذلك أنه لا يمكن للثورة أن تنجح إذا لم نجد علاجا لسلوك النخب سلوكها الذي بلغ ذروة السفاهة وخاصة عند النخب التي تتعالم في كل شيء مع جهل مدقع بكل شيء بدءا بما تدعي الاختصاص فيه.
و لا يمكن أن نفهم هذا السلوك إذا لم نربطه بالأزمة العميقة التي تعاني منها حضارتنا أزمتها الجارية منذ عصر الانحطاط في وعي الجماعة الروحي. وهذه الأزمة بينة بوضوح في ما يبدر إلى العيان من وجهها السلبي عند عامة الشعب وخاصة في المغرب العربي وبصورة أخص في تونس حتى و إن كنا نلاحظ أنها متناقصة بفضل مد الصحوة الذي وصل إلى المغرب العربي ومنها تونس:فنحن نشهد نوعا من ثورة الوعي على القيم الدينية التي تحنطت فقهيا و كلاميا و صوفيا و حتى فلسفيا بسبب موت الحياة الروحية لأمة اندثرت فيها فاعلية المؤسسات التربوية و الثقافية و الاقتصادية و السياسية المستقلة و ذاتية التطور فتحولت إلى شبه جماعة بدائية ليس فيها مقومات الحياة المدنية مع ما صاحب ذلك من تأثير الصدمة الاستعمارية التي ولدت احتقار الذات و خاصة عند النخب المتغربة التي نابت الاستعمار بعد خروجه الشكلي في مهمة التحضير المستبد. صارالمناخ الروحي للأمة مناخا مولدا بالطبع لما يشبه جراثيم الاستبداد و الفساد في كل ربوع البلاد حتى بات من شبه المستحيل القيام بأي إصلاح إذ لن تجد من يمكن أن تعتمد عليه في إنجازه حتى لو تصورنا أنك وجدت من يتصوره.
و قد تمثل هذا الوجه السلبي البين في التخلي شبه التام عند الأغلبية الساحقة عن القيم الروحية بل إن هذا التخلي تحول إلى خيار تنموي من ذلك مثلا المقابلة بين شروط النهوض المادي والاعتقاد في بعض القيم الدينية كالحال في الكلام على قضية الصيام. فصارت الواجبات الروحية التي هي في الأصل من أهم مقومات تربية النفوس و تليين الطباع صارت تعتبر من العوائق الحضارية عند من يتصور من شروط النجاح الدنيوي التخلي عن الإيمان الأخروي. ولماكان المضمون الباطن للعبادة الظاهرة أعني الأخلاق قد ماتت في الأمة فأصبحت الواجبات الروحية عادات وليست عبادات فإن ما تلاها حتما كان تردي القيم المشروطة في الحياة الجماعية المتحضرة فاجتمع الداءان:
غياب المضمون الروحي للواجبات الروحية والتسليم المطلق بأنه لا معنى لما يتجاوز الدنيوي وهو معنى الأخلاد إلى الأرض حيث يصبح الإنسان كالكلب إن حملت عليه يهلث وإن تركته يلهث لأن لم يعد يؤمن إلا بالمتناهي.
والتهديم النسقي للشكل التقليدي للحياة بتأسيس استبدادي لقيم أول المعتدين عليها هم الدعاة إليها لأن الاستبداد والفساد كانا و لا يزالان أهم مميزات هؤلاء العباد الداعين للحداثة و الحرية في البلاد و لو بإعادة التعبية والاستعباد.
علامات الأزمة الروحية و مستوياها
ولعل أفضل علامات هذه الأزمة الروحية و أبرزها دلالة علامتان متلازمتان لا تكذبان رغم أن السطحيين من النخب المتعالمة لا ترى علاقة بينهما ولا تعتبر ذلك من أعراض مرض عميق هي أولى ضحاياه:
الأولى في الوعي الشعبي و هي ما نراه من تجرؤ عجيب على سب الجلالة والدين في كل مناسبة و دون داع بحيث إنك لا تستطيع أن تتجول في أي شارع من شوارع تونس أو في أي سوق أو مقهى دون أن يثقب طبل أذنك إصداع بما تقشر عن الأبدان من مقذع السب و الشتم للذات الألهية والدين.
والثانية في الوعي النخبوي وهي محاولات حصر الوجود الإنساني في التاريخانية الفجة التي يمثلها أكثر الناس جهلا بقيم الحداثة و بالعلوم التي يتكلمون فيها فيصبح كل من هب و دب فيلسوفا و عالم دين و مفتيا إلخ... من المهازل التي نراها في الفضائيات التي يسيطر عليها الحداثيون.
ولا تظنن أن تجلي الأزمة عند النخبة ذو مستوى أرفع من تجليها عند عامة الناس. فلا فرق بين شاب أمي يعجز عن التعبير فيسب الجلالة تعبيرا عن الغضب و كهل أو شيخ متعالم يعجز عن الفهم فيتجرأ على المقدسات تعبيرا عن دعوى القدرة المتعالمة فيما لا علم فيه لكونه من تجليات الروح أو من الأخلاق الموضوعية التي ينبغي البحث في طبيعة تأثيرها ولا معنى للكلام عليها بمنطق الحقيقة العلمية أو حتى المعرفية. كلا التجليين يعبر عن أزمة عميقة لم تحلل طبيعتها التي تقبل الرد إلى العجز من حيث السلطان على رمزي الفاعلية في الحياة البشرية: فاعلية الرمز أو القدرة التعبيرية و رمز الفاعلية أو القدرة التحقيقية.
فالعامي الذي يغضب فيعبر عن ذلك بسب الجلالة ليس هو في الحقيقة إلا شخص يعاني من فقدان السلطان على فاعلية الرمز أعني اللغة للتعبير السليم عن غضبه فيذهب إلى غاية الغضب جمعا مطلقا بين ثورة الذات العاجزة (السب) والعلة الأصلية لعجزها في لا وعيها (الرب): سب الرب ليس هو إلا الجمع بين هذين الوجهين من العجز.
والمتعالم الذي يثور فيعبر عن ذلك بتحدي الجلالة ليس هو في الحقيقة إلا شخص يعاني من فقدان السلطان على رمز الفاعلية أعني المال للتحقيق السليم لما يفقده من سلطان على غيره يتصور نفسه أهلا له بفضل علمه المزعوم الذي يراه محروما من السلطان الفعلي: غاية ثورته هي محاربة من ينافسه على الحظوة عند أصحاب رمز الفاعلية وتلك هي حربه على علوم الدين و رجاله.
وبذلك يتبين أن موقف العامي أبعد غورا و أكثر صدقا. فهو يثور على ما يعتقده ظلما حصل له بالتعبير عن غضبه مع عجزه الناتج عن فقدانه لفاعلية الرمز (القدرة التعبيرية). فهو يشعر أن ربه لم يفعل شيئا لينصفه فينتقم منه بسبه لأنه يحمله مسؤولية ما وقع عليه من ظلم رغم أنه يعتبره مصدر العدل لكأنه يعيب عليه جعل الظلم يحصل دون أن يفعل شيئا يحول دونه و وضع المظلوم. أما المتعالم فموقفه أدنى من ذلك بكثير بل هو سحطي إلى اقصى الحدود لأنه يبقى حبيس همومه الدنيوية و مشكله هو فشله في معركة دنيوية: إنه ينافس من نال الحظوة عند أرباب رمز الفاعلية (المال).
فشعور المتعالم بالظلم لا يتجاوز الوجه الدنيوي من الحياة: منافسة فقهاء الشرع الذين لم يتركوا مكانا لفقهاء الوضع في وظيفة التوسط بين الحكام والمحكومين فيستبد بما يدعيه من علم هو أقرب إلى الجهل المركب منه إلى المعرفة الغفلة التي للعامي. فالعامي يرتفع إلى المراتب القيمية العليا رغم ما يبدو منه من سب للجلالة فيذهب إلى تحميل المسؤولية لصاحبها في عملية احتجاج على الرب نفسه و المتعالم يتوقف عند المنافسة الرخيصة على الحظوة عند أرباب السلطان المادي: وتلك هي علة حربهم الشعواء على ما يسمى بالدعاة المستجلبين من الشرق.
وبذلك يتبين أن المجتمعات العربية اجتمع على جماعتها مرضان عضالان:
مرض فقهاء الشرع تمثيلا للاستبداد الأصالي وهم قاتلو الوعي الديني الحي عند عامة الشعب بما بلدوه عنده من إحساس و ذوق جعل التذكير بقيم الإسلام الذي يدعون تمثيله ترديدا لعاديات بعد أن أفرغوا الاجتهاد الديني من مضمونه الروحي و الخلقي كما يتبين من سلوكهم الفعلي في الحياة الجماعية وخاصة في صلتهم بأرباب المال والسلطان: السيد هو الإخلاد إلى الأرض وكل ما يتجاوز ذلك هو الخداع المحض.
مرض فقهاء الوضع تمثيلا للاستبداد الحداثي وهم قاتلو الوعي العقلي الحي عند نخب الشعب بما بلدوه عندها من تصور وتعقل جعل التفكير بقيم الحداثة الذي يدعون تمثيله تقليدا لكليشهات جوفاء بعد أن أفرغوا الاجتهاد الفلسفي من مضمونه العقلي والخلقي كما يتبين من سلوكهم الفعلي في الحياة الجماعية وخاصة في صلتهم بأرباب المال والسلطان: السيد هو الإخلاد إلى الأرض و كل ما يتجاوز ذلك هو من الخداع المحض.
وهكذا نصل إلى موطن الداء و من ثم قابلية العلاج. فالنخب وقعت في شراك هذه الثقافة التي تخلت عن كل تعال فأصبح همها لا يتجاوز طلب السهم من الموجود بدل السعي إلى تحقيق المنشود بل إن منشودها لا يتجاوز الدنيوي ومن ثم فهو ما تتصوره موجود الغير الذي تنافسه سواء كان عربيا أو غربيا. و لعل محاولة تصنيف النخب وبيان طبيعة التأثير المتبادل بين الأصناف هما ما يمكن أن يمدنا بالطريق الموصلة إلى تحديد العلل التي تفسر هذا الانحياز و التي لم يدركها المباشرون للحكم في تونس أو مصر ممثلي الربيع العربي الذي وصلت فيه الحركات الإسلامية للحكم بالانتخاب الشعبي وهي قاب قوسين أو أدنى من فقدان هذا الرضا الشعبي عليها. و لو أدركوا أن الثورة لم تحقق إلا حلقة أولى من تحرير المناخ العربي من الفساد و الاستبداد حكمين في كل مجريات الأمور سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية أو تربوية لكان بالوسع تطبيق الخطة التي نعرضها بإيجاز لعلها تكون مدخلا للتدارك.
تراتب النخب الناتج عن منطق الإخلاد إلى الأرض
للنخب في كل المجتمعات أصناف محددة قابلة للحصر بصورة نسقية و مثلها العلل التي تقبل نفس التصنيف لأنها من ثمراته. و طريق الخلاص من العلل التي تعاني منها مجتمعات نخر نخبها الاستبداد والفساد تصبح بينة لكل ذي بصيرة. ولنبدأ بتصنيف النخب. فهو يسير إذا علمنا ما تستند إليه أصناف النخب من فاعلية في المجتمع الإنساني أيا كان هذا المجتمع عندما يستقر فيه الأمر فتتراتب السلط على النحو الذي يتصف به الاستبداد و الفساد. فالنخب على أصناف خمسة نوردها على النحو التالي:
فالصنفان الأولان هما صنفا قوة التأثير الفعلي المباشر أو غير المباشر أعني:
1-قوة التأثير السياسية
2-و قوة التأثير الاقتصادية.
و القوة السياسية قوة تأثير فعلي مباشر و سريع لأنها ممسكة بقوة القانون و من ثم بالقوة العامة المادية. لكن ذلك ليس إلا ظاهرا من الأمر في المجتمعات التي يسيطر عليها الاستبداد والفساد. ذلك أن القوة الاقتصادية هي صاحبة التأثير الحقيقي بعد أن تحلب الدولة بتوسط فساد القوة السياسية و استبدادها حتى و إن كانت القوة الاقتصادية قوة تأثير فعلي غير مباشر و بطيء لأنها تؤثر من خلال التأثير في القوة السياسية التي تصبح في خدمتها بعد أن تكون قد نبعت عنها و يبقى الأمر على هذه الحالات في كل الديموقراطيات التي هي أليغارشيات متنكرة في شكل ديموقراطي إيهامي. و بذلك فهي توجه سلطة القانون و القوة العامة لصالح أصحابها. و بصفتها الأليغارشية فإنها تشتري الرأي العام و تعده إعدادا يجعل الشعب يختار من الوسط السياسي من يدافع عن القيم المادية التي تحقق مصالحها الاقتصادية فتنصبه على رأس قوة التأثير السياسي. وهي تشتري الرأي العام بطريقتين:
إما بشراء الأصوات مباشرة من الناخبين فرادى وجماعات.
أو بالتأثير الثقافي الذي تموله وخاصة منه التأثير الإعلامي.
وهي غالبا ما تستعمل التأثيرين معا لمزيد الفاعلية كالحال في كل الأليغارشيات.
ويحتاج هذا التنكر إلى صنفين آخرين يضفيان المعنى الإيهامي على هذين الصنفين. إنهما صنفا قوة التأثير الرمزي المباشر أو غير المباشرة أعني:
3-قوة التأثير التربوية
4-وقوة التأثير الثقافية.
و في هذه الحالة الثانية كذلك ليس هذا التراتب بين القوتين الرمزيتين إلا ظاهرا من الأمر. فقوة التأثير التربوية مؤثرة تأثيرا رمزيا مباشرا لأنها ممسكة بقيم التكوين ومن ثم بالقوة العامة الرمزية. لكنها في الحقيقة ذات تأثير تابع لأن المؤثر الحقيقي هو قوة التأثير الرمزي الثقافية ذات التأثير غير المباشر والبطيء. إنها قوة تؤثر من خلال التأثير بتزييف القيم التربوية فتوجه التكوين و القوة العامة الرمزية لصالحها وتهيئ الرأي العام لكي ينتخب من الوسط التربوي من تنصبه لإدارة قوة التأثير التربوي من يدافع عن القيم الرمزية التي تحقق خياراتها الثقافية التابعة لقوة التأثير المادية أعني الاقتصادية والسياسية التابعة لها.
و إذن فهي لا تفعل ذلك لخدمة القيم المعنوية بإطلاق و لوجه الله كما هو منتظر من قيم الثورة التي تريد إصلاح الذي يحرر الأمة من الاستبداد والفساد بل هي تدافع عن القيم المعنوية التي تناسب القيم المادية التي تفرضها قوة التأثير الفعلي غير المباشر أعني النخب الاقتصادية التي تستخدم أصناف النخب الثلاثة الباقية في النظام المستند إلى الاستبداد و الفساد و الذي تريد الثورة المضادة منعنا من الخروج منه.
فيتبين بذلك أن النخب السياسية تابعة للنخب الاقتصادية في أنظمة الاستبداد و الفساد و هي في الديموقراطية التي هي أليغارشية متنكرة تعد لها ظروف الانتخاب إما بشراء الرأي العام بالمال مباشرة أو بصورة غير مباشرة رشوة للمؤثرين فيه بالرمز من المثقفين و الإعلاميين و التربويين وذلك للدفاع عن القيم المادية (المصالح الاقتصادية) أو عن القيم المعنوية (المصالح الثقافية أو نمط المجتمع المناسب لهذه المصالح). وعندئذ فالصراع الدائر هو دائما بين تصورين للعلاقة بين القيم المادية و القيم المعنوية:
العلاقة الاستعبادية التي وصفنا والتي هي أساس الاستبداد والفساد الذي تسعى الثورة المضادة للحفاظ عليه بالإبقاء على منطق الإخلاد إلى الأرض والرضا بالتعبية و الاستعباد.
والعلاقة التحريرية التي نعتقد أن الثورة تسعى إليها تغييرا للموجود بالمنشود الذي عجز الثالوث الحاكم عن تحقيق شروطه لأنه سرعان ما أصبح مؤمنا بمنطق الإخلاد إلى الأرض.
والحصيلة هي أن الحركات الإسلامية لا يمكنها أن تربح المعركة من دون أن تنشئ نخبا اقتصادية تعمل لتحقيق قيم الثورة بالإبداع المادي ونخبا ثقافية تعمل لتحقيق قيم الثورة بالإبداع الرمزي ونخبا سياسية تحقق شروط الإبداعين في الوقائع و نخبا تربوية تحقق شروط الإبداعين في الضمائر.
5-قوة التأثير الروحي أو الديني والفلسفي في آن:
وهنا يأتي دور الصنف الخامس الذي لم نذكره إلى حد الآن: إنه صنف النخبة الفكرية و الروحية ذات الرؤية القيمية التي تمثل سبيل التحرر من منطق الإخلاد إلى الأرض الذي وصفنا في بيان سلسلة التبيعة بين أصناف النخب الأربعة التي تسيطر على لحظتنا في البلاد العربية و في العالم. و هذه النخبة الخامسة يمكن أن تحقق الشروط الكفيلة بجعل قيم الثورة مناخا بديلا من المناخ الذي فرضه الاستبداد و الفساد والذي يريد أصحاب الثورة المضادة الحفاظ عليه فتحررنا من هذا المنطق لتقلب سلم التبعية:
1-فيصبح الاقتصادي تابعا للسياسي المتحرر من سلطان أرباب رمز الفاعلية أو المال.
2-ويصبح الثقافي تابعا للتربوي المتحرر من سلطان أرباب فاعلية الرمز أو الخيال.
3-و السياسي و التربوي تابعين لمنطق التحرر من الإخلاد إلى الأرض المتحرر من عبادة العجل والبقرة.
فمن دون قلب سلم التبعية هذا لا يمكن للحركات الإسلامية أن تكون قادرة على تكوين نخب تؤمن بقيم الثورة و تسعى لتحققها فتغالب النخب التي تعارض رؤيتها للعالم برؤية ممثلة لأصل الشروط التي حكمت العهد البائد و هي الآن قيم الثورة المضادة التي يمكن جمعها في شعار واحد هو منطق الإخلاد إلى الأرض. و يمكن أن نحصي هذه القيم المضادة للثورة بالصورة التالية:
1-فجل نخب الاقتصاد التي ورثناها عن العهد البائد هي نخب الاستغلال المعتمد على حلب المجتمع بتوسط قوة الدولة التي توزع ثروة الوطن على زبائنها ومن ثم فهذه النخب ليست نخبا اقتصادية بحق أعني نخبا ذات عقلية تؤمن بالمبادرة والجهد المحقق للثروة المتنامية و المستقلة عن التبعية لمستعمر الأمس. ذلك أنها لو كانت كذلك لكانت تؤمن بأن التنمية المستدامة في كل ربوع الوطن فرصة للربح المشروع و لكانت من القائلين بضرورة التوسع المعتمد على مجالها الحضاري حاضنا لشروط القوة و المنافسة و المناعة لشروط النمو المستقل بدل التبعية الذليلة التي تجعلهم رهائن إرادة الوسطاء من سادتهم في كل أعمالهم.
2-وجل نخب الثقافة التي ورثناها عن العهد البائد نخب الاستهلاك القيمي المبتذل الذي لا يحرر الإنسان بل يجعله تابعا لأسياد صاروا بأعيانهم يمثلون المثل العليا ففقدوا القدرة على السعي لتجاوز الموجود نحو المنشود نحو المزيد من التحقيق الموسع لأفق المعنى و الذوق و الحرية. و من ثم فهذه النخب هي من أسفل ما أنتج العصرالحديث. و يكفي أن ترى جل همومها المقصورة على ثقافة الاستهلاك و الإخلاد إلى الأرض لا يتجاوزون الأكل كالأنعام أو أن ترى درجة احتقارها للشعب و سطحية معرفتها بما تدعي الاختصاص فيه فضلا عن التي تملأ الساحة بأقل من أعشار المثقفين الأدعياء الذين يعيشون على فضلات الموائد و يبيعون ذممهم دون إنتاج فكري أو إبداع عدا التقليد و الاتباع. وقد فضحتهم ثقافة الفيس بوك ثقافته التي بينت نقمتهم على الشعب الذي حرمهم من خدمة مافية ابن علي فأصبح دورهم مقصورا على بير ثقيل الظل لا يتجاوز التحقير من الشعب الذي حررنا من عهد الاستبداد و الفساد لمجرد كونه عرفهم على حقيقتهم فأزاحهم عما كانوا يشغلونه من مواقع.
3-و جل نخب التربية التي ورثناها عن العهد البائد جمعت بين رذائل النخبتين السابقتين بما عرف عنها من استغلال لأسر التلاميذ و حلبها في الدروس الخصوصية مع الكسل و العجز عن تمكين تلامذتهم من الخلق الأمين و العلم المكين لأن أساس الدروس الخصوصية هو جعل الغش أداة النجاح الوحيدة: أصبح المعلم نفسه في أي مستوى كان من مستويات التعليم هو الغاش لرسالته لأنه يزيف النتائج من أجل الزيادة في عدد الزبائن. فيكون المربي في هذه الحالة معوضا للخلق الحميد والعلم الأكيد بخلق الأنذال الذين لا يرون من التعلم إلا الشهادة و من التربية إلا البلادة. و بذلك تصبح المدرسة محضنة البطالين و الدجالين و المتحيلين و مافية النقابيين.
4-و في هذه الحالة لا يمكن لجل النخب السياسية إلا أن يكون من جنس مافية ابن علي لأن هذه المافية لم يكن بوسع استبدادها و فسادها أن يصمدا طيلة عقدين كاملين من دون أن تكون مؤلفة من أفسد ما في النخب الثلاث السابقة أو ممن اعتبرته هذه النخب الفاسدة و المستبدة بالاقتصاد و الثقافة و التربية أهلا لأن يتزعموهم في تحويل البلاد إلى ساحة الفساد المطلق الذي من ثمراته تحويل المدارس و النوادي و المعامل إلى محاضن للفساد ليس فيه من تجارة إلا قمة الدعارة.
5-أما النخبة الخامسة فلست بمتكلم فيها لأن المطلوب إيجادها من رأس: فهي منعدمة. كل ما نراه هو معركة بين فقهاء الشرع و فقهاء الوضع حول نموذجين من التبعية إما لماضينا أو لماضي الغرب. لم توجد بعد النخبة الخامسة التي تؤمن بأن البشرية تحتاج اليوم إلى مثل الإسلام تحديدا للحقائق و أمثاله تخطيطا للتحقيق. لذلك فينبغي أن نسعى ما استطعنا إلى ذلك سبيلا في تحليل الموجود لعل غياب المنشود يحرك الوجدان و القلوب فتصحو الشعوب.
منزل بورقيبة في 2013.05.03


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.