يوما بعد يوم تطالعنا وسائلنا الإعلام عن الأخبار المحزنة وتقدّم لنا تفاصيل المحرقة التي تقيمها إسرائيل ضد الفلسطينين في غزة ، في هجمة قل أن حدث مثلها في التاريخ . ولا أريد في هذا المقال أن أسرد الحجج التي قدّمتها إسرائيل من أجل تبرير هذه الهجمة الشرسة إذ أنها لم تقنع بذلك حتى البعض من أصدقاءها ، فقد انبرى عدد من المفكرين من بينهم يهود ينتقدون التمشي والحرب على غزة ومن هؤلاء الأكاديمي الألماني أودوا شتاين باخ والبروفسور اليهودي رولف فرليجر والمخرج اليهودي والأمريكي الجنسية جاكوب بندر . وتكمن خطورة هذه الهجمة ليس فقط في عدد القتلى أو في طبيعة السلاح المعتمد وإنما أيضا في تجاوزها لكل ما هو متعارف ومتفق عليه دوليا وقانونيا . بحيث أن العالم وليس الإسلامي منه فقط يقف أمام مفترق طرق فهو إما أن يوقف هذه العملية البشعة وإما أن يدخل في نفق لا يعلم نهايته إلا الله إستراتيجيات المذابح السابقة المتابع للسياسة الإسرائيلية يجد انها بعد كلّ فترة زمنية معينة تعمد إلى إقامة مذابح جماعية يذهب ضحيتها عدد ضخم من الأبرياء بما فيهم الأطفال والشيوخ والنساء ، ولئن أصبحت الفترات الزمنية متباعدة نسبيا عما كانت عليه في الأربعينيات من القرن الماضي إلا أن وحشيّتها تلفت الأنظار وتفصح عن روح عدائية كبيرة تجاه كلّ مخالف للرأي فبعد مذبحة دير ياسين سنة 1948 والذي بلغ عدد القتلى فيها أكثر من300 تزايدت الهجرة الفلسطينية نحو بلدان عربية كما تزايدت أيضا الهجرة اليهودية نحو فلسطين وأما مذبحة صبرا وشاتيلا فإنها إلى جانب إحداث الرعب هدفت إلى تدمير البنية التحتية الفلسطينية، وأما مذبحة جنين والتي لا يعلم أحد عدد الشهداء الذين راحوا ضحيتها حتى اليوم والتي كانت من الثابت اعنف من سابقاتها حاولت كسر شوكة الفلسطينيين وإذلالهم وتوجيه رسالة لهم بأن الدولة التي منحت لهم غير قادرة على حمايتهم وبالتالي لا بد من الخضوع لإسرائيل ولكن رغم الخسائر والأرواح التي أزهقت أثبت أبناء جنين ومعهم إخوانهم في كلّ فلسطين صمودا وجلدا ما قدرت إسرائيل بعتادها وقواتها أن تكسره لا أريد أن أسترسل في سرد المجازر التي قامت بها دولة الكيان الإسرائيلي ولكني أريد التأكيد على معنى مهم وهو أن تواصل المجازر بوتيرة تصاعدية من حيث وحشيتها وعنفها مثّل سمة أساسية للسياسة الإسرائيلية ، كما كان تدخل الدولة العبرية فيها يوما بعد يوم يزداد وضوحا ويتكشّف اكثر للعيان فلئن كانت سابقا تقوم بالمجازر مجموعات يقال إنها متطرفة مثل ما وقع في دير ياسين أو مذبحة الحرم الإبراهيمي فإن الدولة اليوم تشرف بشكل واضح ومباشر على عمليات الإبادة الجماعية وهو ما يتمّ تجسيده بكل وضوح في غزة هذه الأيام. الجديد في مذبحة غزة 2008/2009 طبيعة الهجوم على غزة هذه المرة المتسم بالوحشية واعتماد إسرائيل على ترسانة عسكرية ضخمة تؤكّد أن إسرائيل تريد أن تجعل من مذبحة غزة معركة فاصلة في تاريخ وجودها منذ أكثر من ستين عاما ، إلاّ أن هذه المذبحة لاقت من الجانب الفلسطيني المقاوم بفصائله المختلفة وعلى رأسها حماس صدا ناجحا لحد الآن، وأمّا مآلات المستقبل فإنه لا يعلمها إلا الله ولكن المتابعة لما يجري قد تمنحنا بعض الإضاءات حول الخطة الإسرائيلية عبر هذا الهجوم ، الذي أتى لحد الآن على الأخضر واليابس ورمى بعرض الحائط كل ما هو متعارف عليه من قوانين ومعاهدات ، يمكن تأطيره في مستويات متعددة أهمها إعادة الإعتبار للجيش وللإستراتيجية الصهيونية خاصة بعد أن خرجت من لبنان سنة 2006 خاسرة مكسورة الجناح ترهيب الفلسطينيين وبيان أنهم لا يمتلكون حتى حق اختيار من يحكمهم إعادة الإعتبار لإسرائيل كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها فيما يحدث في المنطقة وبالتالي وئد كل محاولة انبعاث في مهدها محاولة القضاء على حماس كرمز لكل رفض ومقاومة وبالتالي تحقيقي هدف استراتيجي من خلال القضاء على “هذا الخصم المشاكسّ الذي يأبى الخضوع”وبالتالي تحذير كل من تسوّل له نفسه التمرّد والقضاء على كل محاولة رفض في مهدها ولعل هذه المجزرة تهدف اجتماعيا من خلال تدمير غزة إلى إبقاء التفوق البشري وتأمينه خاصة أمام ارتفاع نسبة الولادات في القطاع مع ما يقابلها من انخفاض لدي اليهود المآلات والمخاطر أوّلا يمثّل هذا الهجوم على حكومة منتخبة بأغلبية شعبية وديمقراطية سابقة خطيرة في دولة توصف “بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” مما يؤكّد أن هذه النظرية لم تعد تمتلك مصداقية عند أحد فمثلا صورة إسرائيل قد ساءت إلى أبعد حد في الرأي العام الألماني كما يقول الأكاديمي الألماني أودو شتاين باخ في حوار مع الجزيرة يوم 06.01.09 ثانيا في هذا الهجوم بلغ عدد القتلى من المديين من النساء والأطفال عددا لم تشهد له الحروب والمجازر السابقة مثيلا وهو ما يجعل إسرائيل دولة لا تقيم وزنا للمعاهدات الدولية ولا للقوانين المتعارف عليها ثالثا ارتفاع عدد القتلى من الأطفال يعكس الطبيعة البربرية لدولة إسرائيل مما يذكرنا بحروب الإبادة التي قام بها طواغية العالم في التاريخ كفرعون وغيره رابعا فرض الحصار على شعب تجاوز عدده المليون ونصف المليون وتجويعهم لفترة طويلة يقضي على كل الدعاية الضخمة حول احترام إسرائيل للإنسان ككل خامسا تجاوز القوانين والأعراف الدولية يجعل من إسرائيل دولة تهدد السلام العالمي هذه التجاوزات الخطيرة من شأنها أن تهدد المجتمع الدولي في مستويات متعددة إن الحرب ضد حماس المنتخبة ديمقر اطيا تأكد أن الغرب الذي ساند إسرائيل غير صادق وجاد وأنّ دعوته للديمقراطية دعوة مكذوبة تحمل في طياتها شبهات عديدة منها أنه بمجرد فوز تيار إسلامي في دورة ما أو في دولة ما إلا ووئدت تلك التجربة في مهدها وليست تجربة الجزائر عنا ببعيد . محاولة القضاء على حماس التي أثبتت في الفترة القصيرة التي حكمت فيها غزة كفائة عالية وقدرة فائقة على إدارة دفة الأمور هناك هو دفع للمنطقة نحو المجهول وبالتالي نحو بدائل لا يقبلها الشارع الفلسطيني والعربي لمخالفتها لرغبته من مثل “عودة” أنصار أبو مازن أو دحلان المتورطون أساسا في عمليات أقل ما توصف به أنها غير وطنية أو إلى نشأة تيار متشدد متطرّف يقود فلسطين والمنطقة إلى ما لا تحمد عقباه أكدت المساندة اللامشروطة من الساسة والمثقفين الغربيين ما عدا بعض الحالات المحدودة وقليلة التأثير لحد الآن أن مقولة حق الشعوب في تقرير مصيرها ، وحقوق الإنسان مقولات مطاطية زئبقية لا تخضع لتحديد مفاهيمي واضح بل تخضع للعبة المصالح المشتركة خاصّة إذا تعلق الأمر بمشكل في أرض إسلامية أو ضحاياه من المسلمين ولعل الماضي القريب في الشيشان والبوسنة والهرسك خير دليل على وجهة نظرنا العدوان على غزة ومساندة الساسة الغربيون له من شأنه أن يؤدّي إلى مزيد الإحتقان بين الإسلام والغرب ويجعل جهود الحوار والتقارب التي بذلت لحد الآن تذهب أدراج الرياح. الإنحياز التام لإسرائيل سيساهم في تغوّل هذا الكيان المتغطرس والظالم بطبيعته ويؤدي إلى سيطرته التامة على مصائر الساسة الغربيين بعد أن سيطر على أهم مواطن القرار في الولاياتالمتحدة ومجلس الأمن ويحد بالتالي من إمكانية التعايش السلمي في العالم لم أتحدّث في هذا العرض الموجز عن النظام العربي الرسمي لأنّ هذا النظام أثبت عجزه وفشله ليس في هذا الموضوع فحسب بل في غيره من المحاور المهمة وبالتالي فإن للعديد من المثقفين العرب وللجماهير العربية كلّ الحق في أن تنفض يدها من هذا النظام والبحث عن بدائل ، ولعل تركيا قد تجسم جزيرة للوعي داخل العالم الإسلامي ككل بحيث أن الأمل يبقى معقودا في هذه الأمة وفي مستقبلها حتى في أحلك الأزمان وماذا بعد إنه لا إمكانية للخروج من هذه المأساة أو من عنق الزجاجة كما يقول الإمام الغزالي إلا بالشروط الأساسية التالية إيقاف الحرب والإبادة الجماعية للفلسطينيين والتعامل مع حماس كمحاور سياسي أثبت كفاءته وقدرته على العمل السياسي التخلّي عن المساندة اللامشروطة لإسرائيل كشرط أساسي لضمان سلام أطول في المنطقة توفير المواد الغذائية والمعونات الصحية وإعادة بناء ما دمرته الحرب دعم الديمقراطية باعتبارها مقدّمة أساسية للسلام دعوة النخب الفكرية والسياسية الغربية إلى تأسيس ثقافة جديدة دعامتها أن نقد إسرائيل لايعني معاداة السامية كشرط أساسي لحماية العالم من إسرائيل وحماية إسرائيل من نفسها حسن الطرابلسي ألمانيا 2009