في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر "العالم في ظل الانقلاب على ارادة الشعوب" والتي عقدت اواخر سبتمبر الماضي في فندق بمدينة اسطمبول التركية تطلع الكثيرون داخل القاعة وحتى خارجها للكلمة التي سيلقيها الاستاذ عبد الحميد الجلاصي لمعرفة الصورة الحقيقية للوضع في تونس و الطريقة التي سيواجه بها الاسلاميون هناك تاثيرات انقلاب العسكر في مصر وارتدادتها المرتقبة على المشهد السياسي في بلدهم. غير ان نائب رئيس حركة النهضة فاجىء المنتظرين بعدم تقديمه لوصفة سحرية جاهزة في كيفية التعامل مع الاحداث الطارئة التي استجدت و الغموض الذي يكتنف الانتقال المؤلم نحو الديمقراطية مفضلا على ذلك التعليق بان السياق التونسي يظل مفتوحا على كل الاحتمالات. الايام والاسابيع التي عقبت ذلك بقيت مثل سابقاتها مشحونة بكثير من التوجس اما المشهد الذي جرى تسويقه للداخل والخارج فقد اختزل في كون الغاية الوحيدة للنزال الشرس والحاد في "جزيرة السياسيين" على حد وصف الشيخ راشد الغنوشي هو مجرد الهوس بالسلطة بين من يمسك بها خشية ان تفلت منه ومن يتلهف للقبض عليها بشتى الوسائل بعد ضياعها منه في غفلة من الزمن بحسب ما يتصور و بفعل ما افرزته انتخابات اكتوبر 2011 من نتائج. الشك في ما تضمره نفوس وصدور الاسلاميين قبل الوصول الى الاقوال والافعال لم يقترب بعد من نقطة النهاية غير انه امكن في الايام الماضية لنقاط ثمينة ان تحدث بعض الانفراج المؤقت وذلك عندما وقع الشيخ راشد الغنوشي في مناسبة اولى على خارطة طريق الرباعي ثم تبعه بعد ذلك رئيس الحكومة علي العريض في مرحلة موالية على تعهد بالاستقالة وفقا لنفس الخارطة. مصدر الشك ليس حديثا بل يعود الى ماض يرغب البعض الان في استحضاره والاخر في تجاهله وفي كلا الامرين فقد ظل وقودا لازمة اطلت براسها بقوة قبل عامين لما فاز الاسلامييون في اول اقتراع حر ونزيه في تاريخ تونس وبدا في ذلك الوقت ان المازق الاساسي هو وعورة وثقل دخولهم لتلك المناطق المحرمة التي يتركز فيها الحكم قبل ان ينقلب في حيز زمني قصير اشهرا بعد ذلك الى البحث عن البوابة الانسب لخروجهم الامن او العنيف منها تحت مبرر الفشل الذريع والشامل في ادارة الشان العام . ومن الواضح ان صناعة الفشل بصدد تحقيق اكتساح غير مسبوق وانها تلقى رواجا لافتا في تونس وتعتمد تكتيكا فائق الدقة وبالغ التعقيد مستفيدة في نفس الوقت من ضعف فادح على الجانب المقابل في مناهج الدعاية والاتصال . لكن بموازاة الالة الاعلامية القديمة التي حافظت على تكلسها ولا تملك القدرة و الرغبة في تحقيق اي انفتاح فان الترويج المستمر منذ عدة اشهر لانقسام التونسيين الى معسكرين احدهما تقدمي حداثي والاخر رجعي محافظ والحرص على تقديم بعض المواقف اوالتصريحات اوحتى الاحداث العابرة لتكريس تلك الصورة النمطية الغريبة هو جزء اساسي في لعبة تدار خيوطها من خارج البلد وتختار اهدافها بعناية شديدة وحرفية عالية وعلى راس تلك الاهداف قطع الطريق امام الاسلاميين لاخذ الفرصة الكاملة في الظروف العادية المستقرة لتطبيق برامجهم ودفعهم في افضل الحالات الى منطق التقاسم غير المتكافىء للسلطة تحت ذريعة التوافق الوطني المطلوب. للتجربة التونسية هنا خصال تميزها عن غيرها من التجارب وبخاصة تجربة الاخوان في مصر لان حركة النهضة استشعرت تلك الاخطار في الوقت المناسب وعملت وفقا لذلك على ادخال ما تفرضة الضرورة من تعديلات بدت للبعض تراجعات او تنازلات ولكنها في واقع الامر مجرد انسحابات تكتيكية تسمح باعادة الانتشار فيما بعد في وقت تهدا فيه العواصف وتضعف فيه تاثيرات الازمة.ولذلك لم تتمسك بالشرعية الانتخابية تمسكا اعمى وهي تعلم ان ادوات الحكم خارج سيطرتها بل تناصبها العداء وتتحين الفرصة لاسقاطها .و حتى حينما استدرجت الى ما يعرف بالحوار الوطني تحت ضغط دولي رهيب استعملت فيه بعض الاطراف ورقة التمويلات المالية المطلوبة لاقتصاد منهك كوسيلة للابتزاز اظهرت الى الان مهارة بالغة في التفاوض والمناورة بل احدثت ارباكا وانشقاقا في صفوف خصومها . غير ان حجم التحديات يظل بالرغم من ذلك كبيرا ويتركز بالاساس في جانبين اثنين الاول قدرة المنظومة الامنية القديمة التي تحركها بعض رؤوس الاموال المشبوهة على المضي في عمليات العصيان الى حد الانقلاب الكامل على المؤسسات الشرعية والثاني تواصل محاولات التخويف والارهاب من خلال توسع نطاق العمليات الاجرامية والتخريبية الى مناطق لم تطلها في السابق كالذي جرى مؤخرا في الساحل التونسي. حالة الانسداد السياسي مع اشاعة الهلع والخوف وحتى القلق على لقمة العيش والترويج على ان الخلاص الوحيد من كل ذلك هو في رحيل الحكومة يعطى اجنحة جديدة للنظام المتهاوى لبن علي ولمن يحن الى ايامه و لذلك فان ما ينتظر حركة النهضة اليوم لم يعد فقط مجرد كسب اصوات الناخبين في الانتخابات المقبلة او الصمود في مواقع الحكم بل كسب العقول والقلوب معا ولن يكون ذلك متاحا بالسهولة التي يتوقعها البعض و هنا قد تكون كلمات الاستاذ عبد الحميد الجلاصي من ان السياق التونسي يظل مفتوحا على كل الاحتملات اشارة رمزية بالغة الدلالة على صعوبة المهمة وتعقيداتها لكن عدم استحالة فرص نجاحها ولو بعد حين.