لعل صعود شخصية الباجي قائد السبسي رئيس الحكومة الأسبق على رأس الائتلاف الجديد تحت اسم 'حركة نداء تونس' يفسر الحراك الذي يطبع المشهد السياسي التونسي، فإثر الفشل الذريع الذي أصاب المعارضة قبل الانتخابات وبعدها في اقناع الرأي العام التونسي بمشاريعها المجتمعية الاصلاحية جاءت شخصية الباجي صاحب الكاريزما البورقيبية كبديل لكل التحالفات المبرمة ابان الانتخابات بعدما التف حوله بقايا النظام السابق وبعض الشخصيات السياسية التي كانت تقدم نفسها على أنها مستقلة حين ملأت وسائل الاعلام المرئية والسمعية بآرائها المناهضة لتوجهات الترويكا والنهضة على وجه التحديد ورسمت للشعب الصورة القاتمة لمستقبل تونس في ظل حكم الاسلاميين... اليوم وبعد مرور سنة على أول انتخابات بعد الثورة التونسية والتي جرت في ظل أجواء سياسية بالغة التعقيد ومثقلة بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والتي انبثق عنها مجلس وطني تأسيسي كأول ممثل حقيقي للشعب منذ فجر الاستقلال والمكلف بصياغة دستور الجمهورية الثانية، نلحظ وبكل وضوح انقلابا حقيقيا في شكل الخارطة السياسية التي عرفتها تونس ابان الثورة وبرغم العدد الكبير للأحزاب المعترف بها قانونيا فإن الصراع القادم يسير نحو استقطاب ثنائي أشبه ما يكون بما جرى في سباق الرئاسة في مصر بين تيار ثوري وتيار محسوب على الأنظمة الدكتاتورية السابقة، وهذا راجع في اعتقادي الى صمود تحالف الترويكا أمام كل الضغوط التي مورست على قياداتها في اتجاه اشعال فتيل اللاتجانس الإيديولوجي بين أقطابها خصوصا تجاه القضايا الشائكة والحساسة التي شهدتها البلاد ابتداء من ملف السلفيين مرورا بقضية التنصيص على الشريعة في الدستور ووصولا الى تصوير المشروع النهضوي على أنه اقصائي بالمعنى العقائدي لا السياسي. ان المتتبع للشأن السياسي لا يمكن أن يتغاضى عن الهفوات التي وقعت فيها الترويكا الحاكمة منذ البداية يوم تحدثت عن مشروع اقتصادي واجتماعي وسياسي اصلاحي قدمته على أنه سيخرج البلاد من عنق زجاجة الأزمة المستفحلة وكأن حكمها سيدوم لسنوات، في الوقت الذي ظل موضوع الحيز الزمني المخصص لذلك أمرا مفتوحا على كل الاحتمالات فالمهام الموكولة للمجلس التأسيسي تم تحديدها بسنة أو تزيد ومصير الحكومة مرتبط بهذا الموعد أساسا، وهنا سقطت الترويكا في مأزق متوقع والمتمثل أساسا في عدم وقوف الشعب على المنجز الملموس خلال هذه السنة وهو لا يعني اطلاقا بأن الحكومة لا تبذل جهدا في هذا الاتجاه ولكن اختلاف زاوية الرؤية يؤدي وجوبا لاختلاف المنظور إليه، فأين اصلاح الإعلام؟ وأين اصلاح القضاء؟ وأين العدالة الإنتقالية ؟ وأين التنمية والتشغيل؟. الحقيقة أن بضعة أشهر في تاريخ الحكومات مجرّد لمحة أو بارقة حين يُقاس هذا التّاريخ بالسّنوات وبالفترات الانتخابية والنّيابية، بيد أن الأجندة التي سطرتها الترويكا منذ اعتلائها سدة الحكم كانت أكثر شيئا ضبابية بالنسبة للعامة ممن لم يدرسوا الاقتصاد والاجتماع مما جعل قدرتها على تسيير شؤون البلاد في الميزان وهو ما فتح الطريق أمام تصاعد منسوب الاحتقان والاستقطاب السياسي بين الترويكا وخصومها، فالمشكل الحقيقي لم يكن في مدى جدية هؤلاء في انجاح المرحلة الانتقالية ولكن عامل قلة الخبرة في مسألة إدارة حكم البلاد والتسرع في اطلاق الوعود هو ما زعزع العلاقة بين الحكومة والشعب الذي بدأ يستشعر بوادر أزمة اقتصادية حقيقية انعكست على حياته اليومية إذ شهدت غلاءً فاحشًا في الأسعار جعل الأسواق تعاني الكساد، بعدما وزعت الحكومة جهودها بين تحديات مزمنة منذ أيام النظام السابق وهي بحاجة إلى وقت و تحديات المرحلة الانتقالية اليوم نقف على وضع أشبه ما يكون بأزمة مجتمعية حقيقية 'آيلة للانفجار' في غياب مشروع جامع وحوار حقيقي من أجل تظافر الجهود للخروج من هذه الأزمة التي تعيشها تونس بعيدا عن كل الحسابات السياسية والصفقات الانتخابية، ولكن هل هذا ممكن أمام السيل الجارف من الانقسامات والإنصهارات الحزبية في اتجاه تكوين جبهات مضادة لمشروع الترويكا؟ فالكل اليوم يسعى إلى تقديم نفسه على أنه البديل والمنقذ للبلاد من الكارثة المحتومة من خلال الدفع نحو جعل 23 أكتوبر موعدا لنزع الشرعية عن المجلس التأسيسي والحكومة والذهاب إلى الشرعية التوافقية مع المطالبة ببعض التحويرات في الوزارات السيادية، وهنا يتجلى وبكل وضوح مدى الانتهازية الآنية لكثير من القوى السياسية ولؤمها في التعامل مع الوضع الراهن. ولعل صعود شخصية الباجي قائد السبسي رئيس الحكومة الأسبق على رأس الائتلاف الجديد تحت اسم 'حركة نداء تونس' يفسر الحراك الذي يطبع المشهد السياسي التونسي، فإثر الفشل الذريع الذي أصاب المعارضة قبل الانتخابات وبعدها في اقناع الرأي العام التونسي بمشاريعها المجتمعية الاصلاحية جاءت شخصية الباجي صاحب الكاريزما البورقيبية كبديل لكل التحالفات المبرمة ابان الانتخابات بعدما التف حوله بقايا النظام السابق وبعض الشخصيات السياسية التي كانت تقدم نفسها على أنها مستقلة حين ملأت وسائل الاعلام المرئية والسمعية بآرائها المناهضة لتوجهات الترويكا والنهضة على وجه التحديد ورسمت للشعب الصورة القاتمة لمستقبل تونس في ظل حكم الاسلاميين، فالواضح هنا ومن خلال التعيينات التي نراها على رأس الكثير من المناصب أن النهضة و 'حركة نداء تونس' يتسابقان على استقطاب رموز النظام الساقط وقواعده في خطوة أراها تكتيكية في طريق الاستعداد للانتخابات القادمة، وهو ما جعل من خطاب الحكومة يفتقد للمصداقية بخصوص اقصاء رموز النظام الساقط بعدما طالت الاحتجاجات على هذه التعيينات قواعد النهضة والمؤتمر والتكتل معا وهنا أشير إلى أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال الاستهانة بثقل ائتلاف السّبسي الذي عمل على احياء الشرعية البورقيبية في خطوة أريد منها ضم أكثر عدد ممكن من الشخصيات الوطنية المحسوبة على التيار التقدمي الديمقراطي، ولعل الحجم الحقيقي لهذه الحركة لن يتم استمداده من الفكرالبورقيبي ولكن من الفكر المعادي لمشروع النهضة في تونس ولن تكون البورقيبية سوى مجرد يافطة يختبأ وراءها هؤلاء بعدما راهنوا على افجار الترويكا وخابت مساعيهم فالتجأوا لقارب النجاة من طوفان الفشل المرتقب في الانتخابات القادمة، والموجودون اليوم على رأس هذه الحركة لطالما سمعناهم يتحدثون عن بورقيبة كرجل فوق الدولة وبأن نظامه من أعتى الدكتاتوريات الدموية بل ومن بينهم من اكتوى بشيء من لظى هذه الدكتاتورية. أما اليسار في تونس فقد استفاق متأخرا ولن تشفع له التحالفات طالما أنه يفتقد للجماهيرية منذ عقود ونظرا لما يحمله من فكر ثوري فالتحاقه بائتلاف السبسي أمر غير مطروح في المرحلة الحالية، وهنا يتراءى لنا جليا ظهور هذا الاستقطاب الثنائي الجديد المتمثل في الترويكا الحاكمة حاليا والائتلاف الحاكم السابق بزعامة القائد السبسي، فالساحة السياسية اليوم باتت مفتوحة على حرب غير معلومة المعالم بين كل هؤلاء المتسابقين على معركة الانتخابات القادمة والتي ستحمل في طياتها الكثير من الأحداث في سلسلة تصاعدية خصوصا وأن الطرف الثالث والمتمثل في اتحاد الشغل لا يزال يدير العملية السياسية بطريقة يغلب عليها طابع استعراض العضلات تجاه الترويكا والمعارضة معا باعتباره كيان راسخ ومحرك في المجتمع التونسي مكتسبا شرعيته من تاريخه المقاوم للاستعمار أولا ولأنه شريك أساسي في ثورة الياسمين ثانيا ان المرحلة القادمة وحتى بلوغ موعد الانتخابات لن نرى من كل الأطراف سوى مساعي حزبية ذات طابع انتخابي بحت وهو ما سيفضي وجوبا الى تغيير واضح في أولويات الترويكا في اتجاه امتصاص الغضب الشعبي الذي أجّجته خطابات المعارضة الشعبوية وتحركات الاتحاد العام التونسي للشغل والتي اتسمت بالاعتباطية في كثير من الأحيان، وهنا نشير الى أن الصراع سينحصر أساسا بين طائفتين الأولى تلبس لباس الثورية بتاريخها المناهض للدكتاتورية والمتمسكة بهوية تونس الاسلامية وبضرورة القطع مع جميع الشخصيات والأحزاب أو مع كل من كان مسؤولا في عهد الرئيس السابق وأخرى تبشر بدولة ديمقراطية تقدمية لا رجعية ولا سلفية تستمد شرعيتها من التاريخ التونسي البورقيبي الذي ارتبط اسمه حسب مزاعمهم بالحداثة والرقي والتقدم، وفي النهاية نسأل هل أن غالبية الشعب يتفهم كل هذه الاختلافات والتجاذبات؟ أقول وبكل بساطة لا، ففي النهاية لن تكون الغلبة الّا لمن يكون اقرب للشعب في همومه ومشاغله اليومية ويضمن له المحافظة على هويته وكرامته وهو ما لم يتمظهر في آداء الترويكا خلال هذه الفترات التي شهدت فيها أحداثا ومواقف ومبادرات كان لها الأثر الكبير على مدى ثقة الشعب في من سيحكمه في المرحلة القادمة ' كاتب تونسي - الوسط التونسية بتاريخ 20 أكتوبر 2012