رغم أن البداية الأولى للمسألة الكلامية في تراثنا كانت بداية سياسية، ولم تكن بداية نظرية صرفة، حيث كان حدث الفتنة والخلاف حول الخلافة، هو منطلق تشكل الفرق السياسية التي ستنتهي لاحقا إلى إفراز اتجاهات كلامية، فإن تطور الثقافة الإسلامية سيوسع من السؤال الكلامي (من سؤال الإمامة، وسؤال مرتكب الكبيرة، والقدر، التي هي الأسئلة الكبرى المتفرعة عن الخلاف حول الخلافة)، إلى سؤال حول المعرفة الدينية ككل. حيث نلاحظ أن الاستدلال على مسائل العقيدة شغل مساحة مهمة داخل تأليف علماء أصول الدين. ولقد شهدت بنية المعرفة الدينية تطورا وتوسيعا في مكونات نسقها. فلو نظرنا مثلا إلى «الفقه الأكبر» لأبي حنيفة سنلاحظ أن عناصر ومكونات النسق العقدي مغاير لما هو موجود مثلا في كتاب «الإبانة» للأشعري، أو كتاب «الانتصار» للخياط المعتزلي. وهذا التطور الذي شهده النسق البنائي للمعرفة الدينية الكلامية، رافقه أيضا تطور في منظومة المنهج الاستدلالي، وهذا التطور لم يغب عن انتباه المؤرخين، حتى القدماء منهم. فابن خلدون في اختصاره لتاريخ علم الكلام، يشير إليه عند تقسيمه لتطور منهج التفكير الكلامي، حيث يقسم علم الكلام إلى مرحلتين متغايرتين في الطريقة، مميزا بين مرحلة المتقدمين، ومرحلة المتأخرين، جاعلا من الغزالي لحظة فارقة فاصلة بينهما. ثم يؤاخذ المحدثين انتهاجهم لمنطق أرسطو. وبالفعل فإن النظر في المرحلة الثانية لابد أن ينتهي إلى أنها سلكت النهج المنطقي في الاستدلال، وهذا واضح في كتب «نهاية الإقدام» للشهرستاني، و «المحصل» لفخر الدين الرازي، و «طوالع الأنوار» للبيضاوي، و «المواقف» للإيجي، و «مقاصد» التفتازاني. لكن لابد أن نقول: إنه قبل هذه التصانيف يمكن أن نلاحظ في كتاب «التمهيد» للباقلاني، و «الإرشاد» للجويني، حضورا للطريقة المنطقية الأرسطية في الاستدلال. ولذا ليس صحيحا أن هذه الطريقة لم تدخل إلا في تصانيف المتأخرين، كما يقول ابن خلدون، بل كما لاحظ العديد من الباحثين الدارسين للتراث الكلامي، فإن التأثير المنطقي واضح في الاستدلال الكلامي عند بعض المتقدمين أيضا. وليس صحيحا أيضا ذلك الادعاء القائل بأن ما نجده في طريقة المحدثين هو انتهاج حرفي للمنطق الأرسطي في بناء البرهان على المعرفة الدينية، بل ثمة تجديد في الكثير من المفاهيم. وهذا التجديد ضرورة، فليس ثمة دعوة دينية نجحت دون الوعي بواقعها والقدرة على التواصل معه.