لقراءة مقال الإسلام والحركات الإسلامية مع بعض التعاليق من واجب الداعية أن يشيد بأيِّ مظهر من مظاهر التدين، كأنْ تكون الشوارع مليئةً بالْمُحَجَّبات، والمساجد عامرةً بالمصلين، وأن تصدح إذاعةٌ بآيات القرآن الكريم ليلَ نهار، ولا يتوقف الداعية في ذلك عند ما إذا كانت هذه المظاهر تُعَبِّرُ عن إيمانٍ وقناعةٍ من الدولة، أو أنها مُنْتَزَعَةٌ منها انتزاعًا، أو هي مُجَرَّدُ قشرة تخفي تحتها جوهرا معاكسا. وفي ذات السياق فإن الْمُثَقَّفَ أو الناشِطَ السياسي من حَقِّهِ أن يطالب بأن تكون العدالةُ والحُرِّيَّةُ قيمةً أصيلةً وراسخةً في المجتمع، وألَّا يَرْضَى بِتَحَوُّلِ الأمر لمجرد مِنْحَةٍ أو مِنَّةٍ من الْحَاكِمِ قد يَسْتَرِدُّهَا في أيِّ وقت، ومن حَقِّهِ أيضا، بل ومن واجبه، أن يُنَقِّبَ في الجذور والأسباب وراء أي ظاهرة؛ لِيُمَيِّز الحقيقي من المصطنع. ربما تصلح هذه التقدمة كمَدْخَلٍ جزئي لِفَهْمِ الجدل العنيف الذي أثاره مقال الدكتور سلمان العودة، الذي نُشِرَ قبل أيام على موقعه على الإنترنت، بعنوان "الإسلام والحركات الإسلامية"، وتَضَمَّنَ جملة من التعليقات والملاحظات التي خَرَجَ بها عَقِبَ زيارة لدولةٍ عَرَبِيَّةٍ لم يُصَرِّحْ باسمها، وإن كان جَلِيًّا من ثنايا المقال أنه يقصد تونس. وقد مَسَّتَ ْهذه الملاحظاتُ عددًا من القضايا الجدليةِ المتعلقةِ بالحركات الإسلامية وعلاقَتِها بالحكومات، وما قد يَجُرُّهُ ذلك من تضييقٍ على مظاهر التَّدَيُّنِ بشكلٍ عامٍّ. وبالطبع، فإنّ البعض قد لا يُسَلِّمُ بأن تعليقات د. العودة على ما شاهَدَهُ في تونس جاءتِ انطلاقًا من كونه فقيهًا، واجِبُهُ أن يُشَجِّعَ أي مظهرٍ من مظاهر التدين، وأنّ مواقف الْمُعَارِضِين انطلقتْ من موقع المثقف الطامحِ للحرية والعدالة في ثوبها الأَنْصَعِ؛ حيث إن الكثير من التصنيفات ترفض –أساسًا- التفريقَ بين الفقيه والْمُثَقَّفِ، وتنظر للفقيه باعتبارِهِ مُثَقَّفًا، خاصةً إذا ما كان على تَمَاسٍّ دائم مع قضايا ومُسْتَجَدَّاتِ الواقع، كما هو الحال بالنسبة ل "د. العودة". إلا أنه يُمْكِنُ التخمين بأن د. العودة في تَقْيِيمه للوَضْعِ في تونس انتصر للفقيه في داخِلِه على حساب المثقف. مقدمة ضرورية وقبل البَدْءِ في عَرْضِ النقاط التي تَضَمَّنَها مقال د. العودة، ومقالٌ ثانٍ أعْقَبَهُ بعنوان "بين طريقين"، مَسَّ ذات القضية من طَرَفٍ خفي، وما أثارَهُ ذلك من تعليقات وجدل، انْصَبَّ جُلُّهُ في طَرْحِ رؤْيَةٍ مغايرة لما ذهب إليه د. العودة، فإنه يحسن الإشارة إلى نقطتين أساسيتين، تَقَعَانِ ضمن ما يسميه الأصوليون ب "تحرير نقاط الخلاف"، وهما: أولا: إن د.العودة لم يُصَرِّحْ باسم الدولة التي تحدث عنها، رُغْمَ أن ما ساقه من إشاراتٍ لم يترك مجالًا للتخمين، وهو ما يمكن تفسيرُهُ بأنه لم يكن يريد للنقاش أن يَنْصَبَّ على حالةٍ أو دولةٍ بعينها، وأنّ الملاحظاتِ التي ساقها في البداية عن زيارته لتونس، هي مجرد مدخل للمقال، الذي تَضَمَّنَ ملاحظاتٍ على أداءِ ومَنْهَجِ الحركات الإسلامية عمومًا ودون تخصيص، وبذلك فإنّ سَحْبَ كُلِّ ما ورد في المقال على الحالة التونسية ربما يحمل قَدْرًا من التَّعَسُّف. ثانيا: إن موضوع المقال وما أثارَه من جَدَلٍ يَنْدَرِجُ ضِمْنَ أمور السياسة الشَّرْعِيَّة، وهي مِنْطَقَةٌ اجتهاديَّةٌ، يُقْبَلُ فيها تَعَدُّدُ الآراء والتقديرات، ومعيارُ التَّرْجِيحِ قائِمٌ على حسابات "المصالح والمفاسد"، والتي تَعْتَمِدُ بِدَوْرِهَا على توصيف الواقع وقراءاتها، التي تختلف من شخصٍ لآخَرَ. محطات رئيسة وبناءً على ما سبق، فإنه يمكن إيجازُ الأفكارِ الرَّئِيسَةِ الواردة في مقالَي د. العودة، في النقاط الآتية: ** إنه لم يجد في البلد الذي زاره – أي تونس- عالَمًا من الْمُثُلِ والكمالات والفضائل، بَيْدَ أنه وجد أنّ مُجْرَيَاتِ الواقع مختلفة شيئًا ما عمَّا سمعه، فالحجابُ شائع جدًّا دون اعتراض، ومظاهِرُ التديّن قائمة، والمساجِدُ تَزْدَحِمُ بروّادها، كما أنّ لغة الخطاب السياسي في هذا البلد تَتَّكِئُ الآن على أبعادٍ عُرُوبِيَّةٍ وإسلامية، وهي في الوقت ذاته تَرْفُضُ العنف والتطرف والغلو، وهذا معنًى صحيحٌ، ومَبْدَأٌ مُشْتَرَكٌ لا نختلف عليه. ** إنه في جَوِّ العزلة والانغلاق تَشِيع الظنون، وتَكْبُرُ الأحداث الصغيرة، وتَتَّسِعُ الهوّة والفجوة، ويَفْقِدُ الناس المعلومات فيلجئون إلى الشائعات، أو الحقائقِ الجزئيةِ؛ لِيَعْتَمِدُوها في تكوين النظرة الكلية، ولذا فإنه من الْمُهِمِّ ِالانفتاح بين الأمصار الإسلامية؛ لِتَصْحِيح الصورة الذهنيةِ المنقولةِ، وإحداثِ تأثيرٍ إيجابِيٍّ متبادل. ** إنه علينا أنْ نُفَرِّقَ بين الإسلام وبين الحركات الإسلامية، فقد يَضِيقُ نِظَامُ حُكْمٍ ما بالحركات الإسلامية؛ بسبب الخوفِ وعَدَمِ الاطمئنان, أو الْمُغَالَبَةِ السياسِيَّةِ أو الْمُزَاحَمَةِ، لكنه قد لا يَضِيقُ ذَرْعًا بالإسلام ذاتِهِ، بل رُبَّما تَقَبَّلَه بقناعة، أو تَقَبَّلَهُ على أساسِ الأمر الواقع، أو حاوَلَ أن يعوِّضَ، ويَمْنَعَ الدعايةَ السلبِيَّةَ ضِدَّهُ، باعتماد مدرسةٍ إسلامِيَّةٍ قد تكون مُلَوَّنَةً باللون الذي يُحِبُّ ويختار، ولكنها تستجيبُ لحاجةِ التَّدَيُّنِ في النفوس. ** إن بعض الحركات تَنْفَتِحُ نحو السياسة، وتُضَخِّمُ دورها وأهميتها، وكأن الإمساك بأزمتها يعني نهايةَ الْمُشْكِلَةِ والمعاناة، وهي رؤيةٌ ضَيِّقَةٌ، تجاوَزَتْهَا حركاتٌ كثيرة، بعدما أدركت أنّ التَّغْيِير يجب أن يستهدف سلوكَ الفرد وعَقْلَه, ومَنْحَهُ الخبراتِ والمهاراتِ والمعارفَ والأفكارَ الصحيحة، وليس أن نتصارع على الكراسي والمناصب بإقصائِيَّةٍ مُتَبَادَلَةٍ. ** إن الاقتصاد يُمَثِّلُ قُوَّةَ ضغط لا يُسْتَهَان بها، وكذلك الإعلام، والتعليم، ومُؤَسَّسَات المجتمع المدني، كما أن معاناةَ الأمة ليست في ساسَتِهَا فحسب، بل في أنماطِ تَفْكِيرِها، ومسالِكِ عَيْشِهَا، بما يتوَجَّب معه اعتمادُ نظرةٍ أوْسَعَ أفقًا، وأَبْعَدَ عن المصادرة والأُحَادِيّة والإقصاءِ والتَّصَارُعِ على السلطة، وأكثر هدوءًا وإدراكًا لإمكانيات الإصلاح والتغيير. ** إن الإسلام أكْبَرُ من الحركات وأبْقَى, والحركات مُحَاوَلَةٌ بشريةٌ يعتريها الخطأ, وتَفْتَقِرُ إلى التصحيح والاستدراكِ الدائم, ومحاربةِ رُوحِ التَّعَصُّبِ والإصرار والإمعان، وقَبُولِ المراجعة، كما يجب أنْ نُفَرِّقَ بين التَّدَيُّنِ بالإسلام الذي هو حَقُّ الله على عباده؛ كما في مُحْكَمَاتِ الكتاب والسنة، وبين رُؤْيَةٍ ظَرْفِيَّةٍ اجتهاديَّةٍ, قد يَحْتَشِدُ حولها جَمْعٌ من الناس، فيُصِيبون ويُخْطِئُون. ** إنّ للإصلاح طريقَيْنِ: طريق طويل بطيء، لا يصبر عليه إلا القِلَّة من الناس؛ لأنه يتَطَلَّبُ أناةً وحِلْمًا وفَهْمًا ومعرفةً بالسُّنَنِ الكونية، وطبائع الأشياء، وقوانين المغالبة، وإدراكاً لأحوال المجتمعات، ومدى تَقَبُّلِهَا للتغيير، والقوى المؤثرة فيها. أما الطريق الآخر فهو يَسْتَعْجِلُ الْخُطَى، ويُؤْمِنُ بالْحَسْمِ، وعُدَّتُه في الغالب ثِقَةٌ داخِلِيَّةٌ مُسْتَحْكِمَةٌ، وإيمانٌ تام بصوَابِيَّة الموقف، وإلغاءٌ لكل وسيلةٍ أخرى، واستخفافٌ بالقُوَى المضادة، وغَفْلَةٌ عن سنن الله في الكون والحياة، وغيابٌ عن فقه التغيير، وإعمالٌ لظواهِرَ من النصوص لم تُفْهَمْ حَقَّ فهمها, ولم تُتْلَ حَقَّ تلاوتها، ووُضِعَتْ في غير موضعها. جدل ورُدُودٌ الجدل الذي أثاره مقال د. العودة كان حادًّا ومُتَشَعِّبًا، فالصفحة الخاصة بالمقال جلبت 50 تعليقًا من زُوَّار الموقع، ذلك إضافة للعديد من المقالات التي صاغها أصحابُهَا خِصِّيصًا للرد على ما تَضَمَّنَهُ المقال، وإذا ما نَحَّيْنَا جانبًا المقالاتِ والتعليقاتِ التي هاجمتْ واتَّهَمَتْ دون أن تُنَاقِش، فإنه يمكن إجمالُ النقاط التي تَضَمَّنَتْهَا هذه الردودُ في الآتي، مع ملاحظةِ أن معظمها انْصَبَّ على الشأن التونسي: ** إن مناط رؤية الشيخ تختصر النِّزَاعَ بين الحركات الإسلامية ودُوَلِهَا في موضوع الْمُغَالَبَةِ على السلطة، وذلك تبسيطٌ لموضوعٍ عميقٍ بَحَثَهُ الكثيرون، كما أنّ نَقْدَ الشيخ المباشِرَ للحركات الإسلامية يُوحِي للقارئ اعتذارًا أو تبريرًا مُبَطَّنًا لِجَلَّادِي الحركات الإسلامية. ** إن الإسلام دينٌ سياسِيٌّ بالدرجة الأولى في قواعِدِهِ وأحكامِهِ وأَخْلَاقِهِ وتاريخِهِ، وعدمُ اهتمام المسلمين بالسياسة ونَقْدِ الأوضاع، والمطالبةُ بالإصلاح الدَّائِمِ للسياسةِ، أساسُ البلاء، فالسياسة والدعوة إلى إصلاحها، ليست مُغَالَبَةً على السلطة، بل هو حَقٌّ وواجِبٌّ إنسانِيٌّ وعَقْلِيٌّ ودِينِيٌّ، وهذا لا يَعْنِي إقرارَ الخروج على الواقع، وعدم التعامل معه ورفضه، بل يعني أنه عندما نقوم بِنَقْدِ التيارات الإسلامية الذي هو واجِبٌ لا بد منه يجب ألّا نُوجِدَ المبرراتِ اللازِمَة لتلك الدول الظالمة. ** الحركاتُ الإسلامية تظلُّ نَوْعًا من أنواع الحركات القائمةِ بِشَيْءٍ من الواجب الكِفَائِيّ في المجتمعات بدافِعٍ ذاتِيٍّ وعَقَدِيٍّ، يجب أنْ تُشَجَّعَ عليه كجزءٍ من مؤسسات المجتمع المدني، كي تَنْخَرِطَ في الْمُطَالَبَةِ بتحقيقِ العدل، مع مُطَالَبَةِ هذه الجماعات بالتَّخَلِّي عن الأُحَادِيَّةِ، وممارَسَةِ المشاركة الاجتماعية مع غيرهِمْ من المذاهب والاتجاهات، وتَرْكِ لغة الإطلاق والوثوقية الْمُطْلَقَةِ إلى النِّسْبِيّة والتعددية في التعامل. ** إن المطالبةَ بإقرار الحُرِّيِّات الأساسيةِ، ورَفْعِ الكبتِ والتَّضييقِ عن الناس ولو بِقَدَرٍ، قَضِيَّةٌ تَعْنِي الجميع، وهي مِمَّا يستوجب التلاحُمَ والنُّصْرَة في حدودِ الممكن، إذ لا يَقْتُلُ الفكرةَ إلا السكوتُ عنها أو تمييعُها أو خِذْلَانُها، أو حجبها عن الوصول إلى الناس, وكم من مظلمةٍ قَهَرَتِ الناسَ بسبب سكوت العقولِ الواعية، وهذا ما غَابَ عن الشيخ سلمان العودة، وقد نَتَفَهَّمُ ربما بُعْدَهُ عن إثارة قضايا الحريات والعَدْلِ في بلدهِ في صِيغَةِ عَمَلٍ وتَحَرُّكٍ ارتضاها توَجُّهًا وتيَّارًا عامًّا، وهذا حَقُّهُ، وقد وُفِّقَ فيه إلى حَدٍّ ما، لكن لا نلزم الآخرين من المثقفين والمصلحين والمفكرين بما ألزمنا به أَنْفُسَنَا في بلادنا. ** إن تخطئة تَوَجُّهٍ وتيارٍ لا يلزم منها تَزْكِيَةُ وَضْعٍ أَجْمَعَتِ الأمةُ على إدانته، بمجردِ مُشَاهَدَةِ مظاهر التَّدَيُّنِ والمساجد عامرة، وأرجو من شيخنا الفاضل أن يُوغِلَ بِرِفْقٍ في تقويمه للأوضاع وعَرْضِ تصوراته السياسية؛ لأن الأصل في الحرياتِ الأساسية أن تُصان وتُكْفَلَ بضمانات. ** إنه على الرغم من استناد رؤية الشيخ سلمان العودة، إلى مقولات "واقعية" و"مُؤَثِّرة"، إلا أنها في المحصلة تُرْضِي النزعة "الاستسلامية"، وهكذا من غير الالتفات إلى حقيقةِ أنّ الشَّعْبَ نَفْسَهَ في تونس وفي غيرها من البلاد العربية مسلوبُ الإرادة، ومُكَبَّلٌ، ويعيش في حالةٍ من التخلف السياسي والثقافي والاجتماعي. ** إن مجرد سماح الحاكم للشعب بممارسة العباداتِ الفردية ليس مِنَّةً أو هِبَةً منه، ولا يُشْكَرُ عليها، إذ من حَقِّ الشعوب أن تعيش في جَوٍّ من الحرية والكرامة، فالشعوب الغربية تَنْقَلِبُ على حُكَّامِها وتَطْرُدُهم ما لم يُنَفِّذُوا رغباتها وتَطَلُّعَاتِها، بينما نحن مطلوبٌ منا أن نُقَبِّلَ أيدي الحكام، ونقول فيهم القصائد؛ لمجرَّدِ أن سمحوا لنا بالعيش في بلداننا. ** إن للحركات الإسلامية تأثيرًا عميقًا في مجتمعاتها، سواء بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة...مباشرة من خلال أنشطتها، والأَثَرُ غير المباشر يَتَمَثَّلُ في عدد من المناشط والمظاهر التي تتبناها الأنظمةُ والجماعاتُ غَيْرُ الإسلامية؛ لِسَحْبِ البساط من تحت أقدام الحركات الإسلامية. ** إن الجميع، بما في ذلك الإسلاميون الذين يقصدهم الشيخ بالحديث، يُقِرُّون أن التَّدَيُّنَ في تونس بلغ مبلغًا لا يمكن إنهاؤُه أو تحجيمه، بعد فشل "خطة تجفيف ينابيع التدين"، ولذلك فالنظام يقوم بترويضِهِ، لكنّ هذا لا ينفي في نفس الوقت أن السلطات الأمنية، وبشكل منهجي، تُضَيِّقُ على هؤلاء وعلى هذا الْمَدِّ، فكان يجب التنبيه والعدل. ** صحيحٌ أن الاقتصاد والإعلام والتعليم ومؤسساتِ المجتمع المدني هي عَصَبٌ من عَصَباتِ التغيير والإصلاح، ولكن يكون ذلك في بلد مثل تركيا أو الكويت أو لبنان أو حتى مصر، أما في تونس؛ حيث تَبْسُطُ الدولة نفوذها الشامل الكامل على كل المناشط والحقول، فذلك لا مكان له. وقفات ويلاحظ أنه من بين النقاط السبع الواردةِ في مقالَي د. العودة، والسابق الإشارة إليها، كانت هناك نقطةٌ واحدة مختصة بالشأن التونسي، رغم أنها استحوذَتْ على الجانب الأكبر من الردود والجدل، بينما تناولتِ النقاط الباقية قضايا عامة، تتعَلَّقُ بالحركات الإسلامية بشكل عام، والكثير منها مُثَارٌ منذ أمدٍ طويل، وهناك آراءُ عدَّةٌ ذهبت لما انتهى إليه د. العودة، بل إن بعض هذه النقاط بات مُسَلَّمَةً لا يجادل بشأنها من يُؤَيِّدُون الحركات الإسلامية أو يعارضونها، مثل القول بأن "الإسلام أكبرُ من الحركات وأَبْقَى"، وأن الحركات نفسها "محاولةٌ بَشَرِيَّةٌ يعتريها الخطأ". وبالطبع، فإن بعض هذه النقاط يتناول قضايا خلافِيَّةً، الجدل حولها قديمٌ ومَرِيرٌ، ولا يمكن القَطْعُ فيها برأيٍ نِهَائِيّ، فالكثير من الحركات الإسلامية لا تُسَلِّمُ بأن اضطهاد الحكومات لها راجِعٌ لكونها "تنازعها الحكم"، وتُصِرُّ على أنها مُضْطَهَدَةٌ لِرَفْعِهَا رايَةَ الإسلام في مواجهةِ مشاريع التغريب والعلمنة التي تَتَبَنَّاها بعض الأنظمة، كما أن البعض يُجَادِلُ في أن اعتزال هذه الحركاتِ للسياسة نهائيًّا سوف يَجْعَلُ الحكومات تتركها تَتَحَرَّكُ بحريةٍ في ساحات أخرى، مثل الاقتصاد، والتعليم، والمجتمع المدني، وتضرب الْمَثَلَ بقائمةٍ طويلةٍ من الحركات التي تَعَرَّضَتْ للمطاردة والقمع، رُغْمَ أنها لا تتعاطَى السياسة. ويُسْتَشَفّ من بين سطور المقال أن د. العودة، المقيم في السعودية، حيث لا توجَدُ حركاتٌ إسلاميَّةٌ بالمعنى التنظيمي الذي تعرفه غالبية الدول العربية والإسلامية، يبدو حريصًا على ألّا تُؤَثِّرَ الصراعات والمصادماتُ بين الحركات الإسلامية والأنظمة على حرية المواطن العادي في ممارسة شعائر التدين دون تضييق، وأنه إذا كان انخراطُ الحركات الإسلامية في مجال السياسة و"مغالَبَتُها للأنظمة على الحكم" سيُؤَدِّي لمثل هذا التضييق، فإنه لا ضَرَر في أن تتخلى الحركات عن السياسة برمتها، لصالح الانخراطِ في أنشطةٍ أخرى، لا تقل أهميةً وتأثيرًا –بنظر د. العودة- مثل الاقتصاد، والإعلام، والمجتمع المدني. مواقف متباينة وقريبًا مما ذهب إليه د. سلمان العودة، فإن الباحث السياسي د. نصر محمد عارف، يُقِرُّ عند تناوله ل "إشكالية الطرح السياسي للإسلام"، في بحثٍ له منشورٍ على موقع "إسلام أون لاين" بأنّ "الموضوع شائِكٌ ومُعَقَّدٌ؛ لما فيه من مخاطر ومزالِقَ كثيرة"، لافتًا إلى أن لفظة السياسة في التاريخ الإسلامي كانت تَشْمَلُ التهذيب والتربية والإصلاح، ومن ثَمَّ لم تكن السياسة هي الدولةَ، وإنما كانت السياسةُ هي الفعلَ الاجتماعي بمعناه الشامل. ثم جاء اختزالُ الإسلام في السياسة والحكم ، وعَدَمُ القدرة على تفعيل الجماهير؛ ليؤدي إلى ظواهِرَ مختلفةٍ من تكفيرٍ ورفْضٍ وعُزْلةٍ وانحسارٍ، وبما أن الجماهير سَلْبِيَّةٌ، فإنها إما أن تُكفر، وإما أنْ ترفض. والجماعة إما أنْ تُعْزَلَ عن الجماهير، وإما أن تنحسرَ، فتُصْبِحَ مثل جماعة التكفير والهجرة أو غيرها. ويرى عارف أنه من خلال التطورات التي شهدها مفهوم السياسة، والعلاقة بين الدولة والمجتمع، أصبح الْمُصْلِح يعتقد أن السلطة هي المدخل الأساسي للإصلاح، وبينما هو يقتنع بذلك، فإنه لا يَمْلِكُ إمكانيَّةَ الوصول إلى السلطة؛ لأن ذلك يحتاج لقوةٍ عسكريةٍ مُسَلَّحَةٍ، أو التمكنِ من الفوز في صناديق الانتخابات؛ ولذا فهو مُقْتَنِعٌ بالمستحيل. هذا المستحيل، بحسب الباحث، أدّى لظاهرةِ الانتحار المتكررِ للحركات الإسلامية في مصر وسوريا والجزائر؛ لأنها بُنِيَتْ على اعتقادِ "القدرة على إحداث تغيير سياسي بمجتمع ضعيف"، ودولة تمثل "الوحش والغول". فبَيْنَمَا لم تكن تلك الحركات تَمْلِكُ الماكينة اللازمة لإحداث أي توازن مع هذه القوة، إلا أنها كانت -وربما لم تزل- مقتنعةً بأن السياسة هي المدخل الأساسي للإصلاح، مع أن الواقع يُثْبِتُ عَكْسَ هذا الأمر مئات المرات. وفي طَرْحٍ مغاير، يرى محمد محفوظ، مدير "مجلة الكلمة"، أن الحركة الإسلامية لا تحترف السياسة والعمل السياسي، وإنما هي تتعامل معه باعتباره وسيلةً من وسائل الدعوةِ والتمكينِ في الأرض، فهو في الإسلام جُزْءٌ من حركة الدعوة الشاملة. ويوضح محفوظ أن البوابة السليمة للعمل السياسي بالنسبة إلى الحركة الإسلامية هي بوابةُ العمل الثقافي والفكريّ والاجتماعيّ، فالعمل السياسيّ الذي لا يستند إلى عُمْقٍ اجتماعِيٍّ، وإلى مستند ثقافِيٍّ عميق، ستَقْذِفُهُ السياسة المحلية والإقليمية والدولية، بعيدًا عن الْمُتَبَنَّيات والمرجعية الفكرية والإسلامية التي انطلق منها، ولذا يجب التعاطي مع العمل السياسي وَفْقَ منظومةٍ متكاملةٍ، يشترك معها العمل الثقافي والاجتماعي، بحيث يُسَانِدُ كُلُّ حَقْلٍ من الحقول الآخَرَ.
الاسلام اليوم الخميس 05 جمادى الأولى 1430الموافق 30 إبريل 2009