معها يخال المرء نفسه في ديار مضر ورحلة الشتاء والصيف أزمة الفتوي وفتاوي الأزمة! د.خالد الطراولي
لن نفاجئ الجميع حين نزعم أننا نعيش حالة سقوط حضاري نلمسه في كل ثنايا حياتنا، من سلوكيات منهارة وحريات مسلوبة وتخلف سياسي واقتصادي وفقر اجتماعي وتشتت ثقافي، أزمة متعددة الأبعاد والآفاق والمعالم تجعل الحليم حيران. وتتأكد هذه الأزمة في بعض المواقع وتحملها بعض الظواهر لتزيد المشهد سوادا والصورة ضبابا ويتعري الإطار فلا يبقي غير نداء من الأعماق: سلّم سلّم... قيل في مأثورات الأقدمين: إنما يفسد الناس نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب، فهذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان وهذا يفسد اللسان وهذا يفسد الأبدان! تطلع علينا بين الحين والآخر فتاوي كالفقاعات لا تعرف كيف خرجت ومتي خرجت وعن أي واقع تتحدث، يرفعها في بعضها فقيه عَلَم، أو فقيه نكرة مختف وراء شاشات وأسترة.. فتري العجب، وتتلاحق الأسئلة وتتزاحم... هل هو زمن الأمويين أو العباسيين أم زمن بني عثمان؟ هل هي ديار مضر وفقه البادية ورحلة الشتاء والصيف؟ هل هي ديار حرب وسلم وجروح ودموع ودماء؟ وتسمع الأعاجيب، ولن أبحر في ثنايا الانترنت فهناك بحر الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود، وتسمع عن اجتهادات أقل ما يقال عنها انها تعبير عن أزمة وجود. وقد استغل بعض العلمانيين هذا السقوط المدوي وسعوا إلي ضرب كل البناء، وهي سقطة لهم ولكنها أزمة لنا، وإن كانوا مصيبين في بعض مقالاتهم لو لم تصحبها مناورات سياسوية وأيديولوجية، وتصفية حسابات ضيقة. لن أدخل غابة الانترنت ولكني أقف بباب أكبر وأحاول أن أسترقّ السمع إلي فتاوي أعلام وفقهاء يحملون زادا ومكانة ودرجة وصوتا، حتي تسمع من يسأل عن جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، ويتلقفها بعضهم من وراء شاشته ويضع عمامته علي رأسه حتي تزيده وقارا ومصداقية وحتي شرعية ويفتي بحرمة المباركة وحرمة المصافحة ويصر علي التحريم وكأننا لا نعيش مع الجار المسيحي والمواطن اليهودي ولا نعمل في قرية كونية متشابكة. فإذا هنأنا صديق العمل بعيدنا قبلنا تهنئته، ورفضنا تهنئته بعيده ويحمد الله أننا صمتنا ولم ننكل به وبعيده! وإذا مات بعض المهاجرين في أرض الله الواسعة وهو يبحث عن ملاذ آمن للاسترزاق أو الاستقرار، وجاءته المنية وكان طعاما للحوت، أفتي بعضنا بعدم استحقاقه للشهادة، فهو هارب من جنة الله علي أرضه وتارك للجماعة وساع للانتحار، ونسي فقيه الديار الإلمام بكل المعطيات وطرح التساؤلات وإبعاد الغشاوة عن كل الأبعاد، واختلطت السبل وظلت الحكمة طريقها إلي العقول! ويتلفظ علينا آخر سامحه الله بنكتة العصر وهو يلوّح لنا بكل جدية بوجوب إرضاع زميلة العمل إذا خيف الاختلاط، وقد نسي صاحبنا الإلمام بكل أبعاد القضية الذي تتجاوز شخصه وحيّه، وترتبط بفلسفة حياة وعلاقة جنس بآخر، لم يتأخر الإسلام في نحت أطرافها بكل دقة، شعارها مسؤولية وحياء وتناسب أدوار. وخرج علينا آخر ولم يجد ما يكفكف به دموعنا ويخفف علينا هول تخلفنا فيفتي بالتبرك ببول الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم، وكأن حبنا للحبيب ينحصر في هذه الدائرة والويل والثبور لمن تلكأ في القبول بها. وقد نسينا الإتباع الحق الذي جاء به صلي الله عليه وسلم ونسينا أن التبرك بالقرآن لا يغنينا لا في الدنيا ولا في الآخرة إذا تركناه علي الرف واستمتعنا برؤيته والتبرك به من وراء حجاب الفعل والممارسة والتطبيق، وهو الذي يأتي يوم القيامة يرفعه رسوله مناديا يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا هجرة عبادة أو تصديق أو تدبر أو دستور حياة. وأفتي آخر بوجوب جلد الصحافيين ثمانين جلدة وأن لا تأخذنا رأفة، في قضايا النشر واعتبرها من قضايا قذف المحصنات، وكان الإطار نقد رئيس وحكومة، فاختلطت السياسة بالسياسوية وسقط الفقيه بوعي أو بغير وعي في مطب تكميم الأفواه ولجم الأقلام ومنع المبادرات التي لا ترضي الحاكم وحبس الوعي الذي يثير الحكم... فمن نقد السلطان فقد قذف، ومن راجع الحاكم فقد قذف ومن قيّم فقد قذف... ويتواصل المسلسل عاصفا ضاربا بالقواعد، فمن زايد علي الحرية وطالب بالديمقراطية فقد قذف المحصنات وكذب علي الموجودات وافتري علي الحقائق، فجزاؤه الجلد أو الحبس والتعزير... وقام آخرون في بلاد الله الواسعة بالإفتاء بعدم شرعية منافسة الرئيس وعدم جواز الترشح، باعتبار الرئيس هو ولي الأمر والنعمة، ومن يخالف الأمر يعتبر مخالفا لمبادئ الإسلام. ونسي صاحبنا أنه يمهد للاستبداد ويبعد الشوري والتعدد من منازل القرار ويساعد دون وعي بهيمنة أحادية الفكرة والرأي، وتغول أسطورة الزعيم الملهم والقائد الفذ والمجاهد الأكبر، التي أوقعتنا ولا تزال في كهوف الهزائم والفشل والفقر والتخلف. هذه فتاوي علي الطريق، طريق المطبات الجاهزة والحفر التي حفرناها بأيدينا قبل غيرنا، فكان حالنا كحال التي تبحث عن حتفها بظلفها. هذه أزمة الفتوي تعبير عن أزمة فرد ومجموعة، قلة علم وزاد، وجهل بالواقع وغياب فقه الموازنات والأولويات وتخبط في الوعي وخلط في الموازين وغياب المنهج الوسط ومنهجية الوسطية. ولعل حالة الغيبوبة التي ظن الكثير منا أنها انتهت وبدأ الجسد يهتز، وأخذت المجموعة تبني عناصر إقلاعها، قد لا تسير في الطريق السليم فيكون الإقلاع كابوسا، والمسار مغشوشا ولا يتأخر المشهد أن يعمه السواد وتنتهي قصة مكذوبة لواقع مفتري عليه. لذلك فإن من شروط هذا الإقلاع الصحيح واليقظة السليمة والنهضة الدائمة الحسم المبكر والنهائي في هذه القضية الأساسية التي نخالها لها ما بعدها، وهي قضية الفتوي لما لها من تأثير مباشر علي تشكيل عقلية النهوض والتحضر أو السقوط والعدم. ہ رئيس اللقاء الإصلاحي الديمقراطي تونس