هل يمكن لدولة أن تنفذ سياسات متناقضة مع مصالحها..؟ السياسة الأردنية تقدم نموذجا صارخا على ذلك.. بل على تناقض سياساتها مع مصالحها الإستراتيجية العليا. يتمثل هذا النموذج في التضييق على جميع خصوم محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، في وقت تتكرس فيه كل يوم شكوك صانع القرار الأردني في أن عباس يمثل خطرا داهما على وجود واستمرار الكيان الأردني. بل إن مصادر رسمية اردنية هي التي تسرب مثل هذه الشكوك إلى صفحات صحف اردنية عبر مقالات كتاب اردنيين محترمين. تتلخص الشكوك الأردنية في شخص رئيس السلطة في جملة نقاط اهمها: أولا: عدم امكانية الثقة به، ما دام قد فاوض الإسرائيليين سرا في اوسلو عبر وفد برئاسة أحمد قريع، وصولا إلى اتفاق اوسلو الذي تم التوافق عليه من وراء ظهر الأردن، على الرغم من كل الإدعاءات بصداقة الأردن، وهو ما أثار في حينه غضب الملك الراحل حسين، وقد عبّر عن ذلك خلافا لعادته في مثل هذه الحالات عبر تصريحات اعلامية علنية. لقد إنصب غضب الملك الراحل على تأجيل اتفاق اوسلو لحل القضايا الرئيسة المتعلقة بالحل الفلسطيني، وخاصة القدس، اللاجئين، الحدود..إلخ. ثانيا:عدم الثقة بنوايا عباس اتجاه الأردن، ما دامت سياسة التفريط بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، تمثل خطرا داهما على المعادلة الديمغرافية الأردنية، وكذلك على وجود الدولة الأردنية، لتزاوج هذا التفريط مع الدعوات الإسرائيلية لإقامة دولة فلسطينية في الأردن..! ثالثا: قناعة اردنية رسمية مفادها أن من يفرط بالحقوق الفلسطينية يمثل خطرا على المصالح الحيوية الأردنية، ومن يتمسك بالحقوق الفلسطينية يمثل صمام أمان للمصالح الحيوية الأردنية. على ذلك، فإن صمام الأمان للمصالح الحيوية الأردنية يتمثل في حركتي "حماس" والجهاد الإسلامي، ومعارضو عباس من أصحاب المواقف الجذرية داخل حركة "فتح"، وعلى رأسهم فاروق القدومي أمين سر الحركة، وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية التي ترفض قصر عباس لخيارات الشعب الفلسطيني في المفاوضات. المقدمات السابقة تفرض نتائج غير مرئية، بل إن ما هو مرئي نقائضها، متمثلة في مفردات السياسة الأردنية الممارسة. النتائج التي يفترض ترتبها على المقدمات المشار إليها يجب أن تتمثل في: أولا: حالة فتور، إن لم يكن قطيعة تامة مع شخص عباس. ثانيا: علاقات حميمة مع الأطراف الفلسطينية المتمسكة بالثوابت الوطنية للشعب الفلسطيني. هل هذا ممكن..؟ نعم إنه ممكن، فقد سبق للأردن الرسمي أن قاطع الرئيس الراحل ياسر عرفات، وتوقفت حتى الإتصالات الهاتفية معه طوال فترة محاصرته اسرائيليا داخل مقره في المقاطعة برام الله. بل إن الأردن الرسمي لم يستقبل الرئيس الفلسطيني الراحل، أو يودعه في مطار عمان، وهو في رحلة الموت التي نقلته من رام الله إلى مستشفى بيرسي في باريس، عبر العاصمة الأردنية. كذلك، فقد سبق للأردن الرسمي أن أقام علاقات معقولة مع حركة "حماس"، حيث كانت عمان خلال الفترة بين عامي 1992 1999 مقرا للمكتب السياسي للحركة. لكن الأردن الرسمي ينأى بنفسه عن مواقفه السابقة التي تمثل مصالحه، ويلجأ إلى سياسات ومواقف تتناقض مع هذه المصالح، ومنها: أولا: الحرص على استمرار القطيعة مع حركات المقاومة الفلسطينية التي تمثل صمام أمان للمصالح الأردنية، بما في ذلك تنفيذ البنك المركزي الأردني لتعليمات الحصار الأميركي المالي على حركات المقاومة الفلسطينية. ثانيا: تدريب قوات موالية لعباس بهدف توظيفها في قمع المقاومة الفلسطينية وتفكيك بنيتها التحتية ونزع اسلحتها. ثالثا: حظر صدور ما يزعج عباس عن فاروق القدومي من داخل الأراضي الأردنية، في حين يسمح لعباس وأنصاره بالتعبير عن مواقف عباس وسياساته الخطرة على المصالح الأردنية العليا من داخل الأرضي الأردنية. بوضوح، السياسة الرسمية الأردنية الممارسة تتلخص في العمل على تقوية الجهات الفلسطينية التي تمثل خطرا داهما على المصالح، بل على وجود الدولة الأردنية، والتضييق ما أمكن على الجهات الفلسطينية التي تمثل مواقفها الجذرية صمام أمان مطلوب للأردن، مع أن اتاحة حرية العمل والحركة داخل الأردن لعباس ودحلان وانصارهما من شأنه أن يضف قدرة الدولة الأردنية على التحرك والفعل في لحظة حرجة لا يتمناها أحد. النتائج المنتظرة في مثل هذه الحالة هي تقوية عدو محتمل للأردن، وإضعاف حليف تلقائي للأردن، ما دام الحفاظ على الحقوق والثوابت الوطنية الفلسطينية، وفي المقدمة منها اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، يمثل مصلحة استراتيجية اردنية لا تقبل الجدل أو التراجع. لم يتخذ الأردن إذا سياسات متعارضة مع مصالحه العليا، عن سابق فهم ومعرفة وإدراك..؟! يتلخص الرد في التجاوب مع "النصائح الأميركية"..!! ونضيف مؤكدين أن النصائح الأميركية غير ملزمة لحلفاء اميركا، ولدينا خير مثال على ذلك السياسة القطرية، وقطر دولة أصغر وأقل سكانا من الأردن. لكن الحالة الأردنية تشهد مزاوجة خطرة ما بين النصائح والمساعدات والمنح الأميركية. وعليه، ومن أجل ردم الهوة، والتجسير ما بين المصالح والسياسات الأردنية، يتوجب زيادة الإيرادات الذاتية الأردنية، والبحث عن دول مانحة تنسجم سياساتها مع المصالح العليا للدولة والوجود الأردني. هذه الدول موجودة، وقد سبق أن قرر مشروع استراتيجية سياسية اردنية وضع خطوطها العريضة الفريق محمد الذهبي مدير المخابرات السابق، استعادة العلاقة مع حركة "حماس"، واستحداث علاقة مع حزب الله، وتعزيز علاقات الأردن بكل من سوريا وايران، لكن ما حدث هو أن الذهبي دفع ثمن هذه الإستراتيجة، بإبعاده عن منصبه، قبل أن يطبق شيئ من مفرداتها..! لا يكفي أن ندرك حقيقة الأخطار التي تتهدد الأردن، بل يجب التصرف في ضوء هذا الإدراك، كي لا ينطبق على ادراكنا مقولة "إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظ