حقوق الإنسان.. جوائز وخطب وتقارير! نبيل شبيب مضى عام آخر، وحلّ مرة أخرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من ديسمبر، بعد 59 عامًا على إعلان "ميثاق حقوق الإنسان"، وتكرّر في عام 2007م ما تكرّر في أعوام سابقة، توزيع بعض الجوائز الكبيرة والصغيرة، العالمية والمحلية، وإلقاء بعض الكلمات، وإصدار بعض التقارير، وكمٌّ يتزايد عاما بعد عام من الشكاوى تجاه أوضاع تتفاقم لأوضاع حقوق الإنسان، بفلسطين والعراق، في الصومال وأفغانستان، في إفريقية و"العالم الحرّ المتحضّر"، باسم دول ديمقراطية تستبيح استخدام الأسلحة الفتاكة قتلاً وتدميرًا وقوّةِ المال استغلالا وحرمانا، وباسم دول استبدادية التصق فيها الحكّام بالكراسي، واعتبروا شعوبهم "غير واعية" بما فيه الكفاية كي "يهبوها" بعض الحقوق والحريات المهدرة. الإنسان المعاصر بعد زهاء ستة عقود على الإعلان العالمي لتوثيق حقوق الإنسان دوليا، أصبحنا نواجه انتهاك حقوق شعوب بأسرها، لا الإنسان الفرد فقط، وحقوق دول شاركت في صناعة المنظومة الدولية أو انتسبت إليها بدعوى احترام مواثيقها ومبادئها وقيمها، لا حقوق أقليّات مضطهَدة فحسب. تحوّلت المعركة على حقوق الإنسان من صياغة مشتركة لبنودها في ميثاق، إلى معارك من أقصى الأرض إلى أقصاها حول تطبيق تلك الصياغات، والمرجعية فيها، والمحاسبة على عدم تطبيقها، واستثناء الطرف الأقوى نفسه من المحاسبة مهما ارتكب من جرائم بحق الإنسانية وجرائم حربية، ومحاسبة الطرف الأضعف وإن لم تثبت إدانته إلا على ألسنة من يملك القوّة ويستخدمها معتديا دون محاسبة، وفي تقارير مؤسساتهم على حسب أهواء من صنعها ومن يهتمّ بها. بعد زهاء ستة عقود على اعتبار الإعلان العالمي إنجازًا بشريًّا مشتركًا وتاريخيًّا "خالدًا"، أصبحنا نبحث عن مكان فيه لجوانتانامو وأبو غريب والمعتقلات السرية والقوانين الاستثنائية، وتسيبرينتسا وأخواتها، والصومال وجيرانه، ومسلسل المذابح "الحديثة" بعد دير ياسين وأخواتها "القديمة"، في صبرا وشاتيلا حتى قانا الأولى والثانية وما تلاها، وعن موقع "إنساني" أو "قانوني دولي" للإبادة البطيئة بمسؤولية مشتركة لأهل غزة وفلسطين من المستعمَرين والمشرّدين، ولمجاعات إفريقية التي لو تراكمت جثث ضحاياها فوق بعضها بعضا لكانت أعلى من كافة ناطحات السحاب الأمريكية والأبراج الإماراتية معا، ولو اجتمعت أصوات الاستغاثة من أراضيها لكانت أقوى ضجيجا من صخب جميع الخطب والكلمات والتصريحات والبيانات والإذاعات والفضائيات، ولو اجتمعت الدنيا على مكافحتها لَما احتاجت إلى عُشر معشار ما ينفق بعض دولها العدوانية لصناعة سلاح تستخدمه في قتل الضحايا وتدمير الثروات في بعضها الآخر. كان الاحتفال بذكرى يوم حقوق الإنسان بعد أيام معدودة من الاحتفاء بيوم المعاقين، ويوم مكافحة وباء نقص المناعة/ الإيدز، ولقد نشأ هذان اليومان وكثير سواهما في تاريخ المنظومة الدولية، بعد نشأة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، ليشهدا على تواصل الانحدار الذي شهدته "الأسرة البشرية" عبر العقود الماضية، بعد أن أصبحت "أسرتين" إحداهما "متحضّرة" يحقّ لها استعباد الأخرى "المتخلّفة"، مستأثرة بحقوق مبتدعة صنعتها لنفسها في المنظومة الدولية نفسها، أن يكون في يديها هي أمر الحرب والسلام، وأمر حظر الأسلحة المتطورة، وأمر المقاطعة والحصار، وأمر تحرير التجارة الدولية في اتجاه واحد، وأمر صناعة قيود الديون الدولية تحت عنوان مساعدات إنمائية، وما زالت تضيف المزيد عقدا بعد عقد، حتى وصلت إلى اصطناع أجهزة قضائية دولية على مقاس محاسبة الضعيف في ظل الاستبداد الدولي، بأساليب محاكمات القرون الوسطى الأوروبية، وإلى جعل مزاعم الحرب على الإرهاب سلاحا عدوانيا ترهب به كل من خالفها متمرّدًا على التبعية لهيمنتها، مثلما جعلت من توزيع ألوان الجوائز والتكريم مدخلا لزيادة الخلل في العلاقات الدولية ما بين الأسرتين البشريتين، ومضاعفةِ الجهود في محاولات قهر حضارة الآخر في مختلف الميادين العقدية والفكرية والأدبية والفنية، لا السياسية والاقتصادية والعسكرية فقط. الإنسان المشكلة ليست مشكلتنا مع حقوق الإنسان أن نفهم بنود الإعلان العالمي فنقبل منها أو نرفض، ونطبّق أو نهمل، وننسبها أو ننسب بعضها إلى حضارتنا أم نتقبّل باستخذاء نسبتها إلى سوانا، بل هي مشكلتنا الأكبر والأخطر مع إنسان عالمنا المعاصر، مع إنسان استبدادٍ دولي ومحلي يقهر ويقمع ويرتكب الجرائم صغيرها وكبيرها، فلا تكاد تجد فيه مواصفات إنسان أصيل كريم، وإنسان خنوع دوليًّا ومحليًّا، يستكين ويخضع ويجبن ويسكت، فلا تكاد تجد فيه مواصفات إنسان حرّ عزيز. مشكلتنا مع إنسان فقد إنسانيته، واستحال أن تصنع بديلا عنه الحضارة المادية الحديثة داخل حدود نشأتها وحيثما امتدّت أذرعها في أنحاء العالم، واستحال أن يصنعه التسليم لها، تقليدًا أعمى أو مبصرًا، انبهارًا أو تخوّفًا، تغريبًا أو تشريقًا، بعد التنكّر الذاتي للذات، وللحضارة الذاتية وتميّزها، وللإنسان وقيمته وكرامته، وللأسرة البشرية كما ينبغي أن تكون. الحضارة المادية تعاني هي نفسها من مشكلتها مع الإنسان الذي صنعته، ليس من عامة أهلها، فأولئك لا تختلف أوضاعهم الإنسانية إلا اختلافا نسبيا عن أوضاع بقية الأسرة البشرية، وإنّما هو "الإنسان" الممسك بزمام وجود دول تلك الحضارة المادية، وقد فقد كثيرًا من أركان انتسابه إلى هذه الأسرة البشرية، فبات قادرًا على ممارسة التعذيب في ظلمات السجون عاجزًا عن وضع القيم الإنسانية فوق مفعول ما سبقت تربيته وسبق تدريبه عليه من وحشية همجية، وهو "الإنسان" القادر على أن يسبّب بجرّة قلم في أمر عسكري أو سياسي توجيه القذائف القاتلة من قنابل عملاقة وعنقودية وانشطارية وفوسفورية وغيرها للمدنيين العزل من البشر، من جنس الإنسان، على بعد ألوف الكيلومترات، لحماية "إنسان" بات تكديس المليارات في حسابه عذرا كافيا لتجاهل انتهاك أساليب جمعها لحقوق الإنسان وحرياته في كلّ أرض استباحتها -دون حق- الهيمنةُ الاقتصادية والمالية على ثروات "الأسرة البشرية" وإن كانت الحصيلة تضوّر الملايين جوعا، وموت الملايين مرضا وفقرا، وأحزان المآسي الفردية والجماعية على الضحايا في كلّ مكان لا تصل إليه عدسات الفضائيات إلا لماما، وتطغى عليه الأنوار الكاشفة المسلّطة ليلا ونهارا على كلّ لون من ألوان التضليل والتدجيل والتنميق في كل ميدان والانحلال على كل صعيد. الحضارة المادية تعاني من مشكلتها مع إنسان صنعته، حتى بات انتشار جميع أمراضها الاجتماعية بلا استثناء يدور حول محور أساسي هو "الإنسان"، الذي يمكن أن ينحدر إلى الدرك الأسفل كارتكاب ما يرتكب من جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال والناشئة، أو يهوي إلى مستوى الانتحار البطيء عبر ألوان الإدمان، أو ينحرف إلى درجة وأد المرأة الناضجة لا الطفلة الوليدة باسم تحرير مزيّف يستعبدها تشغيلا ويستغلّها في الحضيض وكأنها ليست إنسانا يولد حرا عزيزا كريما ويعيش حرا عزيزا كريما، أو يهبط إلى مستوى تقنين الشذوذ الجنسي في العلاقات بين "الجندر" و"الجندر"، وإلى مستوى التقنين لذلك بدعوى "حرية" يعلو سقفها فوق سقف احترام عقيدة الآخر ولا تمنع من الإساءة المتكرّرة له. وإنّ جوهر مشكلتنا نحن أيضا مع "الإنسان" وليس مع صياغة الحقوق والحريات وضبط تطبيقها بقانون ونظام، ما دام فينا من يعتبر "القمع" وتوجيه الرصاص للمتظاهرين واعتقال الغضب وراء جدران الجوامع والجامعات، أمرا سويّا لمجرّد يبقى فوق كرسي الاستبداد، وهامه تحت أقدام الأسياد، وما دام فينا من ينفّذ أوامر الاستبداد دون عقل يفكّر وقلب يتدبّر ومروءة تمنع، وما دام فينا أيضا من يعتبر الحديث عن مكافحة الاستبداد بديلا عن مكافحته، والحديث عن المآسي وضحايا، بدلا عن مواجهتها وتقديم الغوث والنجدة، ويعتبر التغيير بأسلوب العنف المرفوض مستساغا ضدّ من يمارسه فيستبدل الإجرام بمثله، ومن يوظّف فكره وعقله وقلمه ومواهبه من أجل طلاء الوجه القبيح للاستبداد الدولي أو المحلّي بما يختار من ألوان القزح، ممالئا ومنافقا، فيأبى أن يكون "إنسانا" بمعنى الكلمة. الإنسان الحيّ إنّنا في حاجة إلى هزّة من أعمق أعماقنا، تطرح قضية الإنسان من الجذور، ليس في يوم ما من أيام السنة، ولا في جانب واحد من جوانب الحياة البشرية، ولا بأسلوب واحد من أساليب التعبير الكلامية والعملية، للقعود بعد ذلك وانتظار أن يقع التغيير، هابطا من السماء.. بعد انقطاع الوحي، أو نابعًا من الأرض.. بعد أن جعلناها جرداء قاحلة وقطعنا ينابيع الحياة عنها. في حاجة إلى هزّة تجعل "الإنسان" الذي كرّمه الله تعالى، وسخّر له الكون وما فيه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، هو محور حياته الفردية والأسرية والاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية والتربوية والمادية، فلا يكون إنسانا فيما يأخذ ودون ذلك فيما يعطي، ولا يستبيح لنفسه ما ينتقد ويرفض عند سواه، ولا يكون مستبدًّا في بيته أو منظمته أو جماعته ومكافحًا للاستبداد في مجتمعه، ولا يجعل من ضغط المعاناة عليه ذريعة لِما يمكن أن ينشر المزيد من المعاناة في بلده وبين أهله وبحقّ جيل قادم من بعده. في حاجة إلى هزّة جذرية عميقة تنعكس في واقع حياة الفرد الواحد منّا، ممّن يكتبون أو يقرؤون، ويتحدّثون أو يسمعون، ويَحكمون أو يُحكمون، ويقودون أو ينقادون، في المنزل والمكتب، والمدرسة والمصنع، والدائرة الحكومية والشركة الخاصة، والجهاز الأمني والجيش العسكري، وفي قصور السلطان وأكواخ المنكوبين ببطش السلطان، على السواء، فسيان أينما كان "الإنسان" إنّما هو حيّ يمشي على الأرض ما بين يومين، يوم مولده، ويوم موته، وسيّان هل يعطي شيئًا أو لا يعطي في يوم عالمي مثل يوم حقوق الإنسان، فسوف يُسأل يوم الحساب عن جميع ما كان منه ما بين يوم مولده ويوم موته، وما الحياة الدنيا بقضّها وقضيضها، وآمالها وآلامها، إلا لحظة من اللحظات، تمضي ويبقى الخلود في عقاب أبديّ شديد، أو النجاة والفوز بالنعيم والرضوان. ------------------------------------------------------------------------ كاتب ومحلل سياسي سوري مقيم في ألمانيا.