أول رمضان بعد حرب إسرائيلية أودت بحياة 1420 فلسطينيا (22, 24,23، 25، 26....) برقم بعد آخر تسقط أوراق شهر شعبان.. ودمعة تليها أخرى تنسكب من عيونٍ قفزت أمامها كل صور الوجع. ترحل الأيام الأخيرة لشعبان فتخفق دقات القلوب المحروقة على أحبةٍ غادروا الحياة إلى غير رجعة، ويخشى أصحاب هذه القلوب من قادم سينكأ جراحهم، لكن بلا شك سيداويها. فرمضان 1430ه هو أول رمضانٍ يستقبله أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة بعد حربٍ بشعة شنتها إسرائيل على القطاع ما بين 27 ديسمبر و18 يناير الماضيين. هذه الحرب أسفرت عن استشهاد نحو 1420 فلسطينيا، وجرح أكثر من 5450 آخرين، وتدمير حوالي 16 ألف منزل، وتشريد نحو 35 ألف أسرة، لتصبح الخيام مقرا دائما للكثير من أهل غزة المحاصرة إسرائيليا منذ يونيو 2006. 22 عزيزا رمضان يقترب، وذاكرة "وائل السموني" (31 عاما) لا تتوقف عن بث مشاهد وصور العام الماضي الجميلة ومقارنتها بلقطات هذا العام المغمورة بالظل. 22 عزيزا فقدهم "وائل" في أيام الحرب الإسرائيلية.. رحلت أمه وابنته وابنه وعمه وعشرات من أفراد عائلته. يُغمض عينيه، ويتمنى أمام حصار الذكريات أن يفقد ذاكرته، بعد غصة في حلقه أسكتت صوته طويلا يتحدث وائل ل"إسلام أون لاين.نت": "لا أدري بأي حالٍ سأستقبل رمضان.. سيكون هذا العام مختلفا.. حزينا ومرا.. ستهجم علينا كل أوجاع الدنيا". يرفع بصره إلى الأعلى حيث أكياس البلاستيك تُغطي سقف بيتٍ صغير مصنوع من الصفيح.. تنحدر من عيونه دمعات حارة وهو يتذكر منزله المكون من ثلاثة طوابق وكيف كانت مساحاته الكبيرة تحتضن أيامه. لا يحرق قلب "وائل" صور بيته الجميل الذي بات كومة يسكنها الخراب، بل يكويه فراق من يصفها ب"ياسمينة الدار وريحانتها". ولا يعرف ماذا سيفعل عند أول سحور، يتنهد طويلاً قبل أن يمضي قائلا: "كل وجع الذكريات أمام رحيل أمي يهون.. فبغيابها سيكون رمضان هذا العام حارقا.. سأفتقد حضورها الجميل ودعواتها الحنونة.. بدونها طعامنا وشرابنا مُر". وربما لن يتمكن "وائل" من الجلوس على مائدة الإفطار وصوت أمه يرن في أذنيه: "هيا لقد أعددتُ لك ألذ ما تشتهي"، وستتزاحم الصور في عقله، فيبكي ابنه وابنته، وعندما سيخرج لحيه المملوء بعشرات البيوت المختفية معالمها سيرثي كل التفاصيل. يقتلني التفكير إن كان "وائل" سيفتقد سهرات العائلة الليلية، فإن طفله "عبد الله" لا يكف عن ترديد الاستفهام الحارق: "كيف سنقضي رمضان؟!"، فالطفل يخشى من صيفٍ حار لن تبلله زجاجات ماء بارد؛ فلا ثلاجة في صفيحهم الساخن. وبصوتٍ يغمره الأسى يقول عبد الله ل"إسلام أون لاين.نت": "لا مكان نجلس عليه.. لقد ضاع كل شيء.. لا مطبخ لنا.. ولا مقاعد نتناول عليها الطعام". ويستدرك بألم: "رحل إخوتي وجدتي وأعمامي وتهدّم بيتنا". في إحدى الخيام المنتشرة على طول أرض شمال غزة، وعلى مساحةٍ لا تتجاوز ثلاثة أمتار، أخذت "نجاح السلطان" (44 عاما) تنظر إلى المكان من حولها بعيونٍ تائهة.. تحاول إعادة ترتيب الخيمة المتهالكة استعدادا لشهر رمضان، وحين ترتطم بما نجا من أثاث تترك العنان لسيل دموعها. تقول ل"إسلام أون لاين.نت" وهي تمسح بيدها ما تساقط من عبراتٍ على خدها: "التفكير في كيفية قضاء شهر رمضان يكاد يقتلني". تستدرك بمرارة: "وجع هذا العام ليس لأن جراح الحرب ستتجدد، بل لأن كل التفاصيل الصغيرة ستقفز أمامنا تذكرنا بما مضى.. أنا وزوجي وأولادي الستة لا ندري كيف ستمر علينا أيام رمضان". سأفتقدهما "نجاح"، الذي سقط ابنها شهيدا في الحرب وتهدّم بيتها، تقول إنها شعرت بعد الحرب بمسحٍ في الذاكرة، وأن كل الأشياء الجملية غابت عن خارطة إحساسها، لكنها مع اقتراب شهر رمضان شعرت بأن ذاكرتها وُلدت من جديد. وبصوت البكاء مضت تقول: "كل التفاصيل انهمرت أمام ناظريّ.. ضحكات أطفالي وفرحتهم بالفوانيس.. جلوسهم على المائدة وتنافسهم على إعدادها.. هذا العام لن يغيب منزلنا وأحبة ودعناهم فقط، بل ستختفي معالم الحياة كلها". يُتعب التفكير جارتها "رنا زايد" (24 عاما)، التي تقول ل"إسلام أون لاين.نت" وهي تضم صغيرتها بين ذراعيها: "رمضان هذا العام سيكون مختلفاً عن كل الأعوام السابقة.. لا بيوت تؤوينا.. ولا مكان يلم شملنا.. يأتي علينا رمضان وقد اختلفت أحوالنا". وأمام مطبخٍ جميل تناثرت أدواته وتحولت إلى كومة من الخراب كما بقية أركان البيت سيفتقد أطفالها أكلات شهية، وسيضطرون للاكتفاء بما تجود به المؤسسات الخيرية عليهم من وجبات إفطار سريعة. ولا تجد "أم أنور عليان" في قاموس اللغة مفردات تليق بحزنها، وتصف ألم فراقها على شمعتين حرقت الحرب الإسرائيلية نورهما.. تدور الأم في أرجاء البيت الصامت فتبكي ابنها البكر أنور (26 عاما) وشقيقه عز الدين (19 عاما). تُحدق في الفراغ طويلا، وفجأة تحكي بالدموع: "لن أجرؤ على الاقتراب من طعام الإفطار بدونهما.. البكاء سيلاحقني في كل المواقف.. رمضان شهر التفاصيل الصغيرة، فكيف ستمضي ساعاته؟! لقد كان أنور يوقظني على السحور.. وكان عز الدين يذهب معي إلى صلاة التراويح.. سأشتاق إليهما وسأفتقد حضورهما". الثلاثاء. أغسطس. 18, 2009 إسلام أون لاين.نت