الدخلة، تعبيرة شبابيّة بامتياز، تعبيرة جماعيّة انتشرت خاصّة لدى جماعات الأحبّاء في كرة القدم، يعبّرون من خلالها عن همّ مشترك، أي أنها في نهاية المطاف أشبه ما تكون ببطاقة هوّيّة تصهر المجموعة من جهة وتميّزها عن الآخرين من جهة أخرى. وقد انتشرت هذه الظاهرة حتّى غزت ميادين شبابيّة أخرى لعلّ من بينها دخلة الباكالوريا وغيرها. ويبدو أنّ السلطة التي شعرت بخطر هذه الشريحة المهيمنة في المجتمع، المحتجّة، المتلملة، المهمّشة، الشريحة الشبابيّة، فسعت إلى تشبيب خطابها وكوادرها بحثا عن منفذ من حالة العزلة التي أحاطت بها نفسها في المجتمع وخاصّة في وسط الشباب الذي لطالما تناسته وأهملته لمطارق البطالة وسنادين القمع والكبت، يبدو أنها اليوم قد اقتبست أشكالا جديدة من الخطاب الشبابي، على غرار الدّخلة التي جسّدتها لا في ميدان الملاعب التي أطعمت بها شباب الحوض المنجمي المطالب بالشغل والعيش الكريم، وإنّما هذه المرّة في الشعائر الدينيّة. ليس في الأمر مغالطة، حتّى وإن بدا الأمر بعيد التصوّر، إنما هو قريب للحقيقة بعد أن ننفض عنه زيف الخطاب الرسمي من جهة، وروح المبالغة والسخرية من جهة أخرى. فبعد أن لاحظت انتشار ظواهر جديدة لدى الشباب المتديّن تتمثّل خاصّة في أشكال وممارسات شعائريّة شذّت عن النموذج الذي تطمح لقولبة المجتمع فيه، عبّرت السلط المسؤولة عن قلقها إزاء هذه الأشكال الشعائرية التي اعتبرتها حيادا عن المذهب المالكي الرسمي وعن دين الوسطيّة والاعتدال، وإغراقا في السّلفيّة وشذوذا عن السنن الحميدة التي ترضى عنها السلطة وأجهزتها. ممّا جعلها تخرج عن صمتها وتعبّر من خلال أبواقها المعتادة على سبيل الرسائل التي تستفتي مفتي الجمهورية في جرائد يعرف القاصي والداني علاقتها بالداخليّة، حول هذه الظاهرة التي انتشرت في مساجدنا خاصّة فيما يتعلّق بطرق أداء الصلاة بين قابض وباسط يديه وبين رفع اليدين في تكبيرة الإحرام أو في القيام والسجود وغير ذلك من فوارق شكليّة، رأى فيها المستفتي خطرا على وحدة الصفّ في المجتمع التونسي، ليردّ عليه سماحته مشكورا مؤكّدا أنّ الظاهرة "شبابيّة من شأنها إدخال الاضطراب ونشر الفتنة وزرع الخصام والتشاحن...". إنّ المتمعّن في السؤال والجواب ليدرك الإعداد المسبق لهذا السيناريو الصحفي الاستفتائي، كما يدرك من خلال ردّ المفتي نفسه حقيقة الخطاب الذي تسعى السلطة لفرضه ولتعميمه في المجتمع. التخوّف من نشر الفتنة وزرع الخصام والتشاحن، أي الاختلاف بصيغة المبالغة الأمنويّة. الابتعاد عن نموذج إسلام الوسطية والاعتدال الذي تردّده أبواق السلطة في كلّ حين... وهو ما يحيلنا على آليّة النمذجة وقتل الاختلاف في المجتمع الذي ينتهجه الحكم ويعمّم تطبيقه في كلّ المجالات حتّى الدينيّ منها. الأمر الذي يحيلنا من جديد على الدخلة التي افتتحنا بها هذا المقال. فكما أن الدخلة ظاهرة شبابيّة تنمذج مجموعة من الناس في إطار شامل يجمعهم ويميّزهم من خلال شعائر وطقوس مشتركة، فإنّ السلطة تسعى إلى تحويل الشباب المتديّن إلى مجموعة موحّدة في إطار شامل منمذج يجمعهم لكن لا يميّزهم من خلال شعائر وطقوس مشتركة تختارها له حسب ما تراه هي صالحا أي خادما لمصالحها. ولا شكّ أنّ هذا المسعى يندرج في إطار محاولتها الحدّ من انتشار التديّن السلفي الذي شجّعته يوم كانت في حاجة إليه خدمة لأغراضها السياسية حينها. ولقد اتضح هذا المسعى خاصّة على إثر الملتقى المنعقد بفاس خلال شهر جوان المنقضي تحت عنوان "الانحرافات والمحاولات الهدامة التي تستهدف وحدة بلدان الغرب الإسلامي" والهادف إلى تعزيز المذهب المالكي في بلدان المغرب العربي وكانت تونس قد شاركت فيه. ثمّ ما تناقلته وسائل الإعلام حول بدء السلطات الدينيّة التونسيّة - بمناسبة حلول شهر رمضان، شهر الصلاة والإقبال على المساجد - خطة لتعزيز فقه المذهب المالكي الوسطي في البلاد، عبر توزيع عدد من المطبوعات التي توضح كيفية أداء بعض العبادات وفقا للمذهب المالكي، حيث تستعد وزارة الشؤون الدينية بهذا الصدد، لإصدار الطبعة الثانية من كتاب "السند التونسي في ممارسة الشعائر". هكذا إذا تستقبل السلطة شهر رمضان بحملة دينيّة منظّمة من أجل توحيد الشعائر تحت راية واحدة، راية المذهب المالكي، وبصيحة مشتركة تحمل عبارة إسلام الوسطية والاعتدال. وبغضّ النظر عن محتوى هذا الشعار، فإنّ هذا التدخّل في الشؤون العقديّة للمواطنين يتنافى كلّ التنافي مع حرّيّة الرأي والمعتقد، ولا يمكن بحال أن يجري عليه ما يجري على دخلة كرة القدم، فهذه الأخيرة على الأقل اختياريّة وتسمح بحرّيّة الاختلاف، بل تدافع عنها في جوهرها. معز الباي