صنعاء:في الوقت الذي ما فتئت فيه الحكومة اليمنية تؤكِّد أن المعارِك مع المتمرِّدين الحوثيين في محافظة صعدة، شمال البلاد، تتّجه نحو الحسْم العسكري، تُواجه القوات الحكومية مُقاومة مثيرة للانتباه، مما قد يُطيل أمد الحرب ويطرح على البلاد جُملة من التحدِّيات العسكرية والإنسانية والسياسية، خاصة أن الحكومة أكّدت مع عودة المواجهات، أن هذه الجولة ستكون حاسِمة وستضع حدّا للظاهرة للتمرّد العسكري للحوثيين، الذي ظهر في منتصف عام 2004 في هذه المنطقة من شمال البلاد. فعلى الصعيد العسكري، يبقى الوضع غامِضا بسبب الحِصار العسكري المفروض على مناطق القِتال وغياب مصادر مُحايدة لنقل وقائع سير المواجهات هناك، لاسيما مع الحظر الإعلامي المضروب على مسرح العمليات العسكرية وتزايد المخاطِر هناك، مما يحُول دون وصول الصحفيين إلى المناطق التي تدور فيها المعارك. الأمر الذي يترُك مصادر المعلومات عن سيْر المعارك محصورة بالبيانات الصادرة على طرفَي النزاع، وبما يتناقله الشارع اليمني من روايات تدُور في مُجملها حول أن الحرب سجالا، وبعض تلك الرِّوايات لا تخلو من التضخيم، إن لم تكن أقرب إلى التمنيات منها إلى الحقائق، نظرا إلى البعد الأيدلوجي والسياسي والمذهبي الذي يحيط بهذه القضية، مما أطلق العِنان إلى الخلْط بين مجريات الأمور على أرض الواقع والمتمنيات، ويزيد من ذلك تأخّر أمد الحسم العسكري الذي وعدت به الحكومة عند تجدّد القتال، والذي طالما شدّد عليه العديد من المسؤولين اليمنيين في أكثر من مُناسبة، طيلة الفترة الأخيرة الماضية، ومما ألقى بمزيد من الغموض حول سيْر المعارك، أن الحكومة أعلنت بُعيْد تجدّد القتال بأيام، أنها قضت على التمرّد في منطقة حرف سفيان، القريبة من العاصمة اليمنية صنعاء، إلا أن استمرار المواجهات حتى اللّحظة، شكّك بقُرب موعد الحسْم الذي وعد به كبار المسؤولين الحكوميين، بل وأعادت للأذهان مجدّدا المزاعم التي ظلّت السلطات تردِّدها خلال جولات الحروب الخمس السابقة، من أنها على وشك تصفِية جيوب المتمرِّدين غير مرة، دون أن يتحقّق لها ذلك، وهو ما ترك أكثر من علامة استفهام حول قوّة المتمرِّدين على الصمود، رغم الضربات المتتالية المُوجِعة الموجّهة لهم من قِبل الجيش. وعزز من تلك الشكوك، البلاغات الصحفية المصوّرة التي ينشرها أتباع الحوثي عبْر مواقع الإنترنت، والتي تنقل سيطرتهم على عدد من مواقِع الجيش واستسلام عدد من الجنود والضبّاط للمتمرِّدين، وآخرها زعْمهم بأسر 85 من أفراد الجيش في منطقة حرف سفيان، التي كانت البلاغات الرسمية أشارت في أوقات سابقة إلى أنها قد صُفيت من عناصر التمرّد. ومع أن البيانات العسكرية للجيش اليمني ما فتئت تؤكِّد على أن القوات الحكومية تُحقق انتصارات مُتتالية على المتمرِّدين في الكثير من المواقع، إلا أنها ضمنا تكشِف أن القوات الحكومية تواجِه مقاومة شرِسة، مما يزيد من حالة الغموض التي تلُف مناطق القتال وتُلقي بالمزيد من الشكوك حول دنو النهاية القريبة للمعارك، التي تُراهن الحكومة عليها لطي ملف هذه القضية، التي تستنزف طاقات البلاد وتشلّ الحياة العامة. تحدّيات ومخاوف على المستوى الإنساني، تطرح المواجهات الجارية تحدِّيا إنسانيا كبيرا، وأصبح القلق على حياة المدنيين والنّازحين الهاربين من نيران المعارك، يطرح نفسه بجدية. وتُبدي المنظمات والهيئات الأممية المعنية بالشؤون الإنسانية خوفها على حياة الفارِّين من نيران المعارك، وتشكُو من صُعوبة الوصول إلى كثير منهم. فبعد مُضيّ أزيد من شهر على تجدّد القتال، أضحت قضية الوصول إلى النازحين من المشاكل العويصة التي تبرز تداعِيات آثار الحرب على السكان في منطقة تعاني أصلا من غِياب الخدمات وضعف البُنى التحتية، كالطرقات والكهرباء والمياه النقية. ولتدارُك خطورة الأوضاع هناك، سعت المنظمات الإنسانية إلى الضغط على الأطراف المتحاربة تعليق القتال، إلا أن ذلك التعليق لم يصمُد طويلا وانتُهك من قِبل المتمرِّدين الحوثيين بُعيد ساعات من إعلانه، نتيجة لما اعتبروه ضعف شبكة الإتصال بين قيادتهم المركزية والقيادات الميدانية، وهو ما اعتُبر في نظر المراقبين محاولة من قِبلهم لاستثمار الأوضاع الإنسانية للنازحين من أجل تأليب الضغط الدولي على الحكومة، لحملها على وقْف القتال، طِبقا لما يذهب إليه أولئك المراقبون، ومما يزيد من قسوة أوضاع النازجين ومعاناتهم أيضا، أن المملكة العربية السعودية أغلقت حدودها أمامهم. مع تعقّد الأمور إلى هذه الدرجة، لجأت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين والهيئات الأممية المُماثلة المعنية بالجوانب الإنسانية، إلى البحث عن سُبل أخرى للوصول إلى النازحين، منها تسيير قوافل إغاثة للنازحين عبْر الأراضي السعودية. مآسي النازحين وحول هذه العملية، قالت السيدة لورا شدراوي، المتحدثة الرسمية للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين في اليمن ل swissinfo.ch: "إنه أمام تعذُّر الوصول إلى النازحين، بدأت التحضيرات من أجل تسيير قوافل إغاثة عبْر الحدود السعودية – اليمنية، وأن موظفي الإغاثة جاهزون وهم فقط في انتظار الضوء الأخضر من قِبل حكومة البلدين للشروع في نجدة المدنيين بالمواد والمُستلزمات الضرورية". وأبدت السيدة شداروي قلقها من الأوضاع التي يعيشها النازحون، الذين يتراوح عددهم ما بين 100 إلى 150 ألف شخص، حسب تقديرات المسؤولة الأممية، موضِّحة بأن "هذا العدد يشمل النازحين منذ إندلاع أول مواجهات عام 2004، وتزداد الخِشية من قَسوة الأوضاع التي يعيشها هؤلاء عند مقارنة هذا العدد، بمن تمّ استيعابهم فعليا في مخيمات اللاجئين، والذين بلغ عددهم حتى الآن 3 آلاف شخص فقط، جرى إيواؤهم في مخيم "حرض" بمنطقة الملاحيظ، فيما يجري الاستعداد لإقامة مخيّم آخر في محافظة عمران"، حسب المتحدثة باسم المفوضية التي استطردت بقولها: "عمليات المفوضية في محافظتَيْ حجة وعمران المجاورتان لصعدة، تجري من قِبل موظفينا، فهم يقومون بتسجيل النازحين وإيوائهم ويوزِّعون المؤن والطعام وسط ظروف سيِّئة للغاية، والغالبية منهم تعيش وضعا مُقلقا، بسبب صعوبة الوصول إليهم، فالطرقات من صعدة وإليها مقطوعة والألغام مُنتشرة على جوانبها، مما يجعل هرب المدنيين من نيران الحرب، مشكلة كبيرة، واللجوء إلى المناطق الآمنة، مغامرة محفوفة بالمخاطر بسبب تلك الموانع والمعوِّقات للتنقل". ومع أن حماية المدنيين خلال الحروب، كما تقول السيدة شيدراوي، هو من صميم عمَل المفوضية، وِفقا لمُقتضيات القانون الدولي الإنساني، إلا أن تعقّد الأوضاع بسبب استمرار القِتال، يعيق القيام بالجهود المُنتظرة من قِبل عُمال الإغاثة، مشيرة في هذا الصّدد إلى أن العدد الضّخم من النازحين لجأوا إلى المدارس والمساجد والمُستوصفات الصحية ولدى السكان المحليين في المناطق البعيدة عن المواجهات، لكن مع ذلك، هناك عوائق تحول دون الوصول إليهم. النازحون.. من جحيم الحرب إلى جحيم الحصار ويخشى العديد من المُراقبين من أن تلجأ أطراف القِتال إلى استغلال أوضاع النازحين لتحقيق أهداف عسكرية، خاصة أن بعض تجمّعاتهم كانت قد تعرّضت إلى هجمات من قِبل المتمرِّدين، سطوا خلالها على المؤون والغذاء المخصص للاجئين، ممّا أعطى إشارة مُقلقة على إقحامهم في الحسابات العسكرية للمتحاربين واستمرارا لتهديد حياتهم، حتى بعد فِرارهم من نيران المعارك، فيما يتعيّن على طرفي المواجهة الإلتزام بحماية أرواح ومُمتلكات المدنيين، وِفقا لمُقتضيات القانون الدولي الإنساني، وحتى الأعراف والتقاليد المحلية، تحظر التعرّض للسكان المدنيين بسوء، ولذلك يخشى من أن يلجأ المتمردون، مع تزايد الضغط العسكري عليهم من قِبل الجيش، إلى اللَّعب على استغلال الأوضاع الإنسانية عبْر محاصرة النازحين واستخدامهم كذريعة لحمل القوات الحكومية على وقف القتال، من أجل ترتيب صفوفهم في ظلّ اشتداد ضراوة المواجهات، وهو ما يدعو إلى ضرورة التّعجيل بإيجاد منفذ طوارئ عاجل لنقل السكان المدنيين إلى مناطق أكثر أمنا، تسهل وصول الإمدادات والغذاء إليهم، خاصة وأن برد الشتاء القارص على الأبواب والحِصار يُطوِّقهم من كل ناحية. ويزيد من خطورة الأوضاع الإنسانية، أنه لا تلوح أي بادرة لوقْف القِتال. فقد أعربت قيادات عليا في البلاد عن رفضها لأي وقْف للمعارك، ما لم يلتزم المتمرِّدون بالشروط الستة التي طرحتها عليهم الحكومة، والتي تدعوهم إلى إخلاء المواقع التي يُسيطرون عليها وتسليم أسلحتهم والكشف عن مصير الأجانب الستة المختطفين، وقوبِلت الشروط الحكومية برفض المتمرِّدين، مما يجعل الباب مفتوحا أمام كل الاحتمالات، خاصة في ظل الأوضاع السياسية الداخلية المتوتِّرة بين السلطة والمعارضة، والتي ازدادت سُخونة منذ مطلع الأسبوع الماضي، بعد إعلان لجنة الحوار الوطني، التي تضمّ أحزاب اللِّقاء المشترك وعدد من الفعاليات المدنية والشخصيات السياسية والاجتماعية، طرح مبادرة للإنقاذ السياسي، تدعو فيها الحكومة إلى الحوار وِفق مضامين تلك المبادرة، التي جاءت في أزيد من 90 صفحة. وتقول اللجنة عن هذه المبادرة إنها بمثابة "عقد اجتماعي جديد" يؤسس لمرحلة جديدة للدولة اليمنية، داعية السلطات اليمنية والحزب الحاكم، الذي لم يشارك أيّ منهما في صياغته، إلى جعله منطلقا للإصلاح السياسي الشامل وتدعو إلى إيقاف الحرب في صعدة، الأمر الذي زاد من حدّة التوتّر بين المعارضة والسلطة ودفع بهذه الأخيرة إلى شنّ حملة واسعة ضدّ المعارضة "أحزاب اللقاء المشترك"، التي سبق لها أن أبرمت اتفاق مبادئ مع السلطة في فبراير الماضي، من أجل إصلاح النظام الانتخابي والدستوري في البلاد، ومثلت في لجنة وساطة سابقة لوضع حدّ للتمرّد، إلا أنها جاءت هذه المرة وفي ظروف مشابهة، بمبادرة الإنقاذ التي ترى فيها المعارضة إطارا ومنطلقا للحوار الوطني الشامل حول إصلاح الأوضاع، مما يترك الكثير من علامات الإستفهام حول مصير اتفاق فبراير الماضي أمام طرح مبادرة الإنقاذ الوطني من جهة، ويحُول دون أن تُسهم في أي تسوية سياسية للمواجهات العسكرية، مما يزيد الأمور تعقيدا. البادي للمراقبين والمتابعين لمُجريات الأمور، أن جميع الظروف الداخلية، العسكرية والسياسية وحتى الإقليمية، لا تساعد على قُرب وضع حدٍّ للمعارك الدائرة، ومن ثَم على رفْع المعاناة عن النّازحين الفارِّين من جحيم الحرب إلى جحيم الحِصار، الذي يطوِّقهم من كل جانب والذي حال دُون الوصول إليهم من قِبل المنظمات المعنية بالشؤون الإنسانية. صنعاء – عبدالكريم سلام – swissinfo.ch