كاتب لبناني شهد معرض الكتاب الفرنسي الأخير في بيروت حفلات توقيع كتب كثيرة. وقّع مئة كاتب لبناني فرنوكفوني - إن جاز التعبير - كتبهم الجديدة في المعرض. وليس هذا العدد هو كل الكتاب اللبنانيين الذين يكتبون بالفرنسية. ففي باريس وحدها، يعيش عدد كبير من هؤلاء حيث يعملون في منابر صحفية وإعلامية وجامعات ومراكز أبحاث، وحيث تصدر أعمالهم عن دور نشر فرنسية بعضها متخصص بالنشر لبلدان الجنوب أو لبلدان المستعمرات الفرنسية سابقاً. وتقول كاتبة جزائرية انه من بين مئة رواية جزائرية صدرت قبل سنتين في الجزائر، كان هناك سبعون رواية بالفرنسية وثلاثون بالعربية. أما من حيث انتشار اللغة الفرنسية والمكتبات الفرنسية في الجزائر، فإن السائر في سوق هذه المكتبات يحسب نفسه في مدينة فرنسية لا في مدينة عربية لأن الكتاب الطاغي هو الكتاب الفرنسي لا الكتاب العربي. ولا يختلف الوضع في المغرب، أو في تونس، لجهة ازدهار الفرنكوفونية، عن الوضع في الجزائر. فهناك من يؤكد أن المرء إذا قام بإحصاء الكتب التي تصدر كل عام في المغرب وتونس، وجد هذين البلدين يُنافسان الجزائر في كمية الكتب الصادرة بالفرنسية فيهما. وهذا الأمر يحصل اليوم وليس في الأمس البعيد، أي بعد نيل أقطار الشمال الأفريقي لاستقلالها عن فرنسا بحوالي نصف قرن، ولا يحصل خلال استعمار فرنسا لها. كما أنه يحصل بعد قيام هذه الأقطار بسياسة تعريب واسعة شملت مختلف نواحي الحياة العامة ومنها المدارس والجامعات. ومع أن أحداً لا يدعو بالطبع الي التقليل من شأن اللغة الأجنية في مدارسنا، بل إن الدعوة هي الي تعزيزها، فإن المرء عندما يلاحظ أن أكبر كمية من إبداع الوجدان والعقل في بلدٍ ما، يصدر بغير لغته الوطنية، يصاب بالذهول أو الصدمة. ذلك أن الأصل هو أن يعبّر المرء، وأن يكتب، بلغته الوطنية. أما إذا هجر هذه اللغة الي اللغة الأجنبية، وبات بها وحدها يكتب ويؤلف، فلا بد أن يكون هناك خلل ما يستوجب التحليل أو المعالجة. ومع أن مصر كانت تُعتبر من أضعف مواقع الفرنكوفونية العربية، قياساً الي نفوذ هذه الأخيرة في لبنان وأقطار شمال أفريقيا فإن من يراقب حركة الفرنكوفونية المصرية، يجد أن هناك أقلاماً مصرية كثيرة ما زالت تكتب بالفرنسية. ورغم الضربات القاسية التي وجهتها ثورة يوليو للثقافة الأجنبية، ومنها الفرنسية، فإن هذه الثورة لم تتمكن من القضاء علي تراث شريحة اجتماعية واسعة توارثت الفرنسية جيلاً بعد جيل، وبها وحدها تقريباً كانت تقرأ وتكتب. ومن يزر المكتبات الفرنسية في باريس ويتصفح إصداراتها، يجد أن كمية لا بأس بها من المؤلفين هم مصريون في الأساس. في البحث عن أسباب هذه الظاهرة نجد أن هناك مأزقاً شخصياً وآخر ثقافياً. إن الطالب العربي الذي تربّي في مدرسة، أو في بيئة أجنبية، لا يمكن لومه إذا ما نما حبّ الأدب في وجدانه ثم بحث عن لغة يعبّر بها فلم يجد سوي هذه اللغة الأجنبية. ثم إنه لا يمكن توجيه اللوم الي هذا الطالب إذا لم يتمكن من عقد صلة مودة مع لغته الوطنية إذا تعذر عليه ذلك. أي إذا وجد هذه اللغة صعبة، مقعّرة، شديدة العسر. عندها سيرمي بنفسه في أحضان اللغة الأجنبية خاصة وأن هذه اللغة تقدّم له من المغريات الكثير. ثمة مأزق ثقافي تواجهه العربية. يتبّدي هذا المأزق علي أوضح صورة في الصفوف الابتدائية والثانوية، كما يتبّدي في الجامعة، وبخاصة في كليات الآداب التي يُفترض أن تكون عرين اللغة العربية ومربضها. لا يخرج الطالب من مرحلتيه الابتدائية والثانوية إلا وتكون لغته العربية هي اللغة الأضعف. أما كلية الآداب في الجامعات العربية، فلم تعد تلك الكلية التي عرفها العالم العربي زمن طه حسين وأحمد أمين وأمين الخولي، وإنما باتت كلية من لا كلية أخري له!. لم يمكّنه مجموع علاماته من الدخول الي الكلية التي يفضّلها، فاضطر الي دخول كلية الآداب. ولأنه ضعيف أصلاً باللغة العربية، فإن ضعفه هذا سيظل يرافقه طيلة وجوده في هذه الكلية. ولعلنا لا نفاجيء أحداً إذا زعمنا أن عدداً لا بأس به من أساتذة كليات الآداب العربية لا يختلف إلا قليلاً عن طلبتهم الجدد الضعفاء الذين يلتحقون بهذه الكليات كل عام!. ثمة عائق موضوعي أمام أمّ اللغات يتمثل هذه المرة لا بعملية تيسيرها وتحديثها وتقريبها من الطلبة، بمقدار ما يتمثل بعزلتها عن الحياة العامة. فمادام أنه ليس لدينا كيميائي وفيزيائي وعالم أحياء، أو غير أحياء يكتب مؤلفاته العلمية بالعربية، فستظل لغتنا العربية فقيرة ضعيفة بين اللغات. ذكر لي يوماً مستعرب فرنسي كبير هو الأب هنري فليش أستاذ فقه اللغة العربية السابق في جامعة اليسوعيين ببيروت، أن اللغة العربية كانت زمن الدولة العباسية لغة العلوم الأولي علي وجه البسيطة. ثم نهض هذا المستعرب من وراء مكتبه واستلّ من مكتبته كتاباً عربياً قديماً وطفق يقرأ منه فقرات دقيقة في لغتها وأسلوبها العلمي ليؤكد وجهة نظره، وليردّ - علي الخصوص - علي وجهة النظر التي تؤكد عجز العربية عن التحدث بلغة العلوم الحديثة. قال لي هذا المستعرب، رحمه الله: لماذا تكون العربية عاجزة عن النطق بهذه العلوم؟ إنها عاجزة الآن بسبب عجز العرب عن استقبال العلوم وتبيئتها محلياً. فإذا انتصرتم علي هذا العجز، وبات علماؤكم يكتبون علمهم باللغة الوطنية، فإن لغتكم ستعود كما كانت زمن العباسيين، لغة حديثة حية ومتجددة !. وما قاله هذا المستعرب يقع تماماً في محله: ينبغي أن يحصل تغيير جذري في علاقتنا بالعصر وعلومه. سينعكس هذا التغيير إيجاباً علي مجتمعاتنا. وإذا لم يحصل ذلك، فإن مأزق علاقة الناشئة العربية باللغة العربية سيتسع، وستزداد أكثر هجرة هذه الناشئة الي الفرنكوفونية والي الأنغلوفونية وإلي سواهما من اللغات الأجنبية. الراية