إذا نظرنا إلى المشهد العربي، من عَلٍ، لم نتردد في القول بأن الظاهرة الإسلامية أصبحت حاضرة بصورة لافتة, قد تختلف تسميتنا لها، كما تتباين التقديرات الساعية إلى تحديد جذورها ومن ثم آمادها وكيفية التعامل معها، لكن حضورها الواسع أصبح محل اتفاق, إنها العودة القوية للخطاب الديني في الساحة العربية لجيل أو جيلين قادمين على الأقل، ذلك ما ينتهي إليه النظر العام للواقع العربي والذي لا يرى في تحولات الساحة الدولية إلا مؤشرات داعمة لهذا التوصيف. لكن هل هذا يعني أن «المياه عائدة إلى مجاريها» وأن ما حصل للعالم العربي في «غفلة من الزمن»، كما يرى البعض، من قطع مع الفكر الديني والقيم الإسلامية وإلغاء للحضور الدولي للأمة هو مجرد استطراد تاريخي سيتم إغلاق قوسيه اللذين فتحهما تيار التحديث الجارف؟ هل مشروع الحداثة العربية وما سعت إليه من فكر تجديدي أصبح كالأمس الدابر الذي كنسه أو سيكنسه خطاب الهوية الدينية المنتصر والقادر وحده على تقديم مشروع عربي متميز عزّ على الآخرين تحقيقه؟ أيدل هذا الوضع الغالب على أن الإسلاميين أصبحوا يمتلكون بدائل فكرية ورؤية حضارية تخوّل لهم فاعلية على المستوى الإنساني, أم أن مسعاهم لن يحقق سوى إصلاح جزئي لأنه مفتقد لجملة من الأبعاد من أهمها البعد الروحي الذي يطالب به الإنسان المعاصر استعادةً لثقته في ذاته ومصيره؟ ما يدعو إلى هذه التساؤلات هو الحرص على تجاوز التوصيف المقتصر على نظرة انطباعية تعميمية للظاهرة الدينية في العالم العربي, وهو في ذات الوقت تعبير عن قدر من الثقة والاهتمام بمستقبلها, إنه رهان ينطلق من ضرورة تشخيص موضوعي لطبيعة الظاهرة وتحديد خصوصياتها بالنسبة إلى ما سبقها من حراك باسم الإصلاح الديني الذي عرفه العالم العربي منذ أن وعت نخبة بتخلف المسلمين. نحن محتاجون إلى تجاوز هذه النظرة التعميمية للظاهرة الإسلامية الحالية والتي تكتسي طابعاً رد-فعلي في الأعم الغالب, لذلك فإن المطلوب هو النظر عن كثب إلى مختلف تشكلات الظاهرة مع ضرورة تحقيقها بالمقارنة بين مختلف أطوارها, مثل هذا التمشي سيجعلنا ندرك أننا أمام ظاهرة مختلفة في طبيعتها عما وقع تداوله منذ قرنين من الزمن من جهة وأنها مركبة من جهة ثانية. حين نقرأ مثلاً ما صرح به عبدالمنعم أبو الفتوح عضو مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين في مصر خلال ندوة عن «مفهوم الحكومة المدنية لدى جماعة الإخوان المسلمين» نلمس فعلا أننا أمام رؤية غير نمطية لكنها لافتة للنظر, من بين ما جاء في ذلك التصريح قوله: «الإسلام القادم من بلاد البدو والذي وفد إلى مصر بعد تغييب الإخوان في السجون والمعتقلات جاء بأفكار وآراء غريبة تخالف روح الإسلام الباحث عن العدالة والحرية والمساواة، فلخص الإسلام في مظاهر كاذبة وخاض حربا من أجل جلباب قصير وقصص لا قيمة لها, متناسيا القضايا الكبرى». أضاف بعد ذلك القيادي الإسلامي أنه لا عقاب في الدين على «عدم تحجب» المرأة, وأن التشديد على هذه الأمور ربّى النفاق وأدى إلى التطرف منوها بأن الإسلام يصدر من القلب ولا يقتصر على المظاهر. لو قارنا هذا بما يكتب وما ينشر في المواقع الإلكترونية, أو ما يعلن عنه من مواقف سياسية واجتماعية مغايرة, لأدركنا بيسر أن الظاهرة الدينية مركبة, وهي لذلك حَرِيَّة بالدرس والتمحيص. حين نقرأ ما يكتبه جامعيون إسلاميون معاصرون عن قضايا الإيمان والعقيدة, وعن خصائص التصور الديني ثم نقارنه بالدلالات القرآنية لمسالك التوحيد كما قدمتها النماذج النبوية المختلفة, فلن نتردد في القول إن هناك بيننا من يعتقد إلى اليوم بوجود الفرقة الناجية, مقابل هؤلاء تطالعك أعمال مفكرين وكتاب من الداخل الثقافي الإسلامي بل ومن خارجه تعمل على إنتاج خطابات تاريخية واجتماعية باسم الإسلام تستند إلى مناهج حديثة ترى أنها الأقدر على تأسيس وعي معاصر يتحمّل به الإنسان أمانة التفكير الحر المبدع. مظهر ثالث من مظاهر هذا التداخل المركب تقف عليه حين تتابع المادة الإعلامية القادمة من أفغانستان وجارتها باكستان وما يكتنف أعمال المنتسبين إلى الظاهرة الإسلامية هناك من حرص موصول لا يفتر لمواجهة الغرب بكل الوسائل لما انتهوا إليه من أنه مصدر الفساد والدمار وكل الشرور. كل هذا التنوع المتداخل يؤكد ما يذهب إليه أكثر من متابع عندما يلح في السؤال عن الوجهة التي سيتخذها العالم العربي الإسلامي في هذا القرن بقوله: «أي مستقبل للإسلام؟». هذا ما دفع إحدى دور النشر العربية المعروفة بجديتها والتزامها إلى تخصيص كتاب في السنة الماضية عن «مستقبل الإسلام في الغرب والشرق... واحتمالات العلمنة والتدين», شارك في الكتاب مسلمان, كان الأول ينعى على المتشبثين من المسلمين بعالم من التصورات والفهوم والقيم التي لا تسهم في إنتاج الحداثة ويرى أن المستقبل في القراءة التاريخية والمقاصدية للنص القرآني. مقابل هذا يجيب المسلم الثاني أن هذا السعي لإدراك مستقبل الإسلام لا ينبغي أن يسقط في حتمية التطور على نمط الأنوار وما تلاها من مذهبية مادية ولا على ما عرفه الفكر الغربي في علاقته بالمؤسسة الكنسية. ما يرفضه هذا المسلم هو تمثل الحداثة بمنهج أسطوري-وثني أي إيديولوجي, وهو لذلك يعلن عن تفاؤله بمستقبل الإسلام مَصوغ بصيغة مختلفة عن تفاؤل محاوره, إنه يرى أن العودة إلى الدين ستكون من خلال عالم العقل المعاصر مما يجعل الإسلام أكثر الأديان انتفاعاً من هذه الفرصة التي يتيحها القرن الحادي والعشرون, يضيف إلى ذلك أنه لا شيء يجعل مستقبل الإسلام في العالم مجهولاً أكثر من العنف الذي يمارس ضد الأبرياء باسم الإسلام، في حين أن القرآن والسنة لا يسمحان إلا بالدفاع المشروع. ما يبرز من وراء هذه الحركية الضخمة وهذا التباين الفكري الذي يميز عالم العرب في تعاملهم مع الظاهرة الدينية هو عدم الوصول إلى اتفاق على إدارة الخلاف حول جملة من القضايا المصيرية في مقدمتها قضية الحداثة. من هنا يمكن أن تتضح طبيعة الظاهرة الدينية في تشكلها المعاصر ومنها تتجلى قدرتها على الفاعلية الحضارية, لذلك فإن من أهم الأسئلة التي ينبغي أن تقع الإجابة عنها هي: هل الحداثة مسايرة لنمط عيش غربي واقتباس لقيمه وفهم واستيعاب لعقليته أم أنها ليست تقليداً وأمراً معطى, بل هي اكتساب ناتج عن صراع فكري وحضاري بين القوى المتعددة في كل مجتمع وضمن كل ثقافة؟ هل هناك حداثة واحدة أم أن الحداثة الغربية هي نموذج من نماذج عديدة من الحداثات التي ينبغي لكل ثقافة أن تصل إليها بصراعها التاريخي بين قواها الداخلية؟ انطلاقاً من هذه القضية المركزية يمكن أن يظهر حوار ثقافي عربي شامل يعاد فيه ترتيب المنظومة الفكرية والثقافية بحيث تتمكن من فاعلية وتطابق مع الحضارة العالمية, من ثم تتحول البنية المركبة للظاهرة الدينية إلى آلية تفاعل بناء يعيد صياغة التناقضات الداخلية ليجعلها ثراء يتيح للمجتمع العربي أن يستعيد زمام المبادرة التاريخية والمشاركة الإيجابية في الحضارة أي تمثلها وفق متطلبات تحقيق الذاتية. العرب 2009-11-05