بورصة تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث الأداء بنسبة 10.25 بالمائة    كأس تونس لكرة اليد : الترجي يُقصي الإفريقي ويتأهل للنهائي    اليوم آخر أجل لخلاص معلوم الجولان    الإسناد اليمني لا يتخلّى عن فلسطين ... صاروخ بالستي يشلّ مطار بن غوريون    مع الشروق : كتبت لهم في المهد شهادة الأبطال !    الأنور المرزوقي ينقل كلمة بودربالة في اجتماع الاتحاد البرلماني العربي .. تنديد بجرائم الاحتلال ودعوة الى تحرّك عربي موحد    الرابطة الثانية (الجولة العاشرة إيابا)    البطولة العربية لألعاب القوى للأكابر والكبريات: 3 ذهبيات جديدة للمشاركة التونسية في اليوم الختامي    رئيس اتحاد الناشرين التونسيين.. إقبال محترم على معرض الكتاب    حجز أجهزة إتصال تستعمل للغش في الإمتحانات بحوزة أجنبي حاول إجتياز الحدود البرية خلسة..    متابعة للوضع الجوي لهذه الليلة: أمطار بهذه المناطق..#خبر_عاجل    قطع زيارته لترامب.. نقل الرئيس الصربي لمستشفى عسكري    عاجل/ بعد تداول صور تعرض سجين الى التعذيب: وزارة العدل تكشف وتوضح..    كأس إفريقيا للأمم تحت 20 سنة: فوز ثمين لنسور قرطاج على كينيا ينعش حظوظ التأهل    معرض تونس الدولي للكتاب يوضّح بخصوص إلزام الناشرين غير التونسيين بإرجاع الكتب عبر المسالك الديوانية    الملاسين وسيدي حسين.. إيقاف 3 مطلوبين في قضايا حق عام    إحباط هجوم بالمتفجرات على حفل ليدي غاغا'المليوني'    نهوض المزونة يضمد الجراح ويبث الفرحة بالصعود الى الرابطة الثالثة    قابس.. حوالي 62 ألف رأس غنم لعيد الأضحى    نقيب الصحفيين : نسعى لوضع آليات جديدة لدعم قطاع الصحافة .. تحدد مشاكل الصحفيين وتقدم الحلول    نهاية عصر البن: قهوة اصطناعية تغزو الأسواق    حجز عملة أجنبية مدلسة بحوزة شخص ببن عروس    أهم الأحداث الوطنية في تونس خلال شهر أفريل 2025    ثنائية مبابي تقود ريال مدريد لمواصلة الضغط على برشلونة المتصدر بالفوز 3-2 على سيلتا فيغو    الكاف: انطلاق موسم حصاد الأعلاف مطلع الأسبوع القادم وسط توقّعات بتحقيق صابة وفيرة وذات جودة    الصالون المتوسطي للبناء "ميديبات 2025": فرصة لدعم الشراكة والانفتاح على التكنولوجيات الحديثة والمستدامة    انتفاخ إصبع القدم الكبير...أسباب عديدة وبعضها خطير    إلى أواخر أفريل 2025: رفع أكثر من 36 ألف مخالفة اقتصادية وحجز 1575 طنا من المواد الغذائية..    هام/ بالأرقام..هذا عدد السيارات التي تم ترويجها في تونس خلال الثلاثي الأول من 2025..    الفول الأخضر: لن تتوقّع فوائده    مبادرة تشريعية تتعلق بإحداث صندوق رعاية كبار السن    تسجيل ثالث حالة وفاة لحادث عقارب    تونس في معرض "سيال" كندا الدولي للإبتكار الغذائي: المنتوجات المحلية تغزو أمريكا الشمالية    إحباط عمليات تهريب بضاعة مجهولة المصدر قيمتها 120 ألف دينار في غار الماء وطبرقة.    إذاعة المنستير تنعى الإذاعي الراحل البُخاري بن صالح    خطير/كانا يعتزمان تهريبها إلى دولة مجاورة: إيقاف امرأة وابنها بحوزتهما أدوية مدعمة..    زلزالان بقوة 5.4 يضربان هذه المنطقة..#خبر_عاجل    النفيضة: حجز كميات من العلف الفاسد وإصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن    تنبيه/ انقطاع التيار الكهربائي اليوم بهذه الولايات..#خبر_عاجل    برنامج مباريات اليوم والنقل التلفزي    هام/ توفر أكثر من 90 ألف خروف لعيد الاضحى بهذه الولاية..    الدورة الاولى لصالون المرضى يومي 16 و17 ماي بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة    أريانة: القبض على تلميذين يسرقان الأسلاك النحاسية من مؤسسة تربوية    بطولة فرنسا - باريس يخسر من ستراسبورغ مع استمرار احتفالات تتويجه باللقب    سوسة: الإعلامي البخاري بن صالح في ذمة الله    لبلبة تكشف تفاصيل الحالة الصحية للفنان عادل إمام    بعد هجومه العنيف والمفاجئ على حكومتها وكيله لها اتهامات خطيرة.. قطر ترد بقوة على نتنياهو    ترامب ينشر صورة له وهو يرتدي زي البابا ..    كارول سماحة تنعي زوجها بكلمات مؤثرة    هند صبري: ''أخيرا إنتهى شهر أفريل''    وفاة وليد مصطفى زوج كارول سماحة    قبل عيد الأضحى: وزارة الفلاحة تحذّر من أمراض تهدد الأضاحي وتصدر هذه التوصيات    صُدفة.. اكتشاف أثري خلال أشغال بناء مستشفى بهذه الجهة    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما لم أستطع أن أقوله ...(1-3)تأليف: جان لويس بروغيير
نشر في الفجر نيوز يوم 19 - 11 - 2009

أصدر القاضي الفرنسي جان لويس بروغيير، منذ أيام قليلة كتاباً عن دار “روبرت لافون” الباريسية، بالتعاون مع جان ماري بونتو، بعنوان “ما لم أستطع أن أقوله” “ثلاثون سنة من مكافحة الإرهاب”، والكتاب الحوار يمتد على 493 صفحة، ويتشعب وتكثر فيه التفاصيل، وهو أمر معقول،طالما أننا أمام مسألة قضائية، وبالتالي فكل التفاصيل ضرورية ويمكن أن تلعب دوراً حاسما.ولذا يحتشد الكتاب بكم هائل من المعلومات التي يمكن أن تشتت بال القارئ، إن لم يكن يعرف الشرق الأوسط وتداعيات الصراعات الدولية والطائفية والإثنية والدينية وغيرها.
بروغيير قاض منذ سنة ،1973 وهو يحقق في قضايا الإرهاب منذ أكثر من خمس وعشرين سنة. ويعتبر على المستوى العالمي، من أفضل العارفين بهذا الشأن. ليس مجرد قاض، هو نجم، ويعرف كيف يحرّك الصحافة، وقد التحق مؤخراً باليمين الفرنسي وترشح على لائحته في الانتخابات التشريعية.
هكذا كان الإرهاب يضرب في أوروبا
يعود بروغيير إلى البدايات قبل أن يصل إلى هذا المستوى من الشهرة العالمية، حيث يستدعى ويشارك في كثير من الاجتماعات الدولية، وحتى من قبل لجان في الكونغرس الأمريكي لأخذ رأيه في ما يعتبر نجاحات، حققها طوال اشتغاله بموضوع الإرهاب. وهو يعترف “وصوله إلى محكمة باريس سنة 1976 قاده إلى التحقيق في مختلف القضايا.ومثل كلّ قاضٍ شابّ كان عليه أن يمرّ على مراحل قبل أن يحقق ما حققه الآن، وهو متقاعد”.
في البداية، كان عليه أن يحقق في مسائل النشل والسطو والدعارة.في هذه الفترة لم تكن القضايا الإرهابية معروفة، كان الزمن زمن القضايا الإجرامية والاغتيالات الغامضة، من قبيل اغتيال أمير “بروغلي” أو خطف البارون “أومبين” والبحث عن “جاك مسرين” “عدو الشعب رقم واحد” كما كانت تكتب الصحافة. “بل وكان القضاة المُهمون المكلفون بقضايا الإرهاب يظلون في أماكن خلفية مقارنة مع شعبية رجال الشرطة”.
يتحدث القاضي بروغيير عن كثير من القضايا التي تصدى لها، وكانت تهمّ الشأن الإجرامي. وبشكل خاص آخر متهم محكوم عليه بالإعدام في فرنسا وهو فيليب موريس. ويعترف أن القضية كانت صعبة وبالغة التعقيد: “أعترف أن الأمر لم يكن سهلاً، الضغوط كانت تنهال من كل صوب. البعض يلحّ عليّ كي أسرع وآخرون يلحون عليّ كي آخذ الوقت اللازم. وأنا لم أكن أريد أن ألعب السباق ضد الساعة. وزارة العدل كانت تريد محاكمة سريعة. بينما كان الدفاع يريد تأخير المحاكمة عن طريق كثير من المناورات. ولا أزال أتذكر محامي الدفاع الثلاثة وهم يتهمونني بأني ألعب لعبة الاتهام من خلال التسريع في المحاكمة. كانت الأجواء صعبة ومختلفة. إن قضية “فيليب موريس”، وبعيداً عن طابعها القضائي، كانت تطرح، مرة أخرى، وبتعابير حادة، مشكلة الحكم بالإعدام. كان محامو فيليب موريس يريدون، على ما يبدو، وفي منطق الدفاع، أن يقتنصوني في هذا الجدل. كانوا يعتبرون أن محاكمة سريعة ستؤدي إلى الحكم على مُوكّلهم بالإعدام. فهل كان عليّ، في هذا السياق البالغ الحساسية، والخضوع لتأنيبات الدفاع وإبطاء سير المحاكمة؟ وهل كان من مسؤوليتي كقاضي تحقيق أن ألقي بنفسي في مرحلة المحاكمة، بينما نظامنا الجزائي يميّز، بشكل واضح، بين فترة البحث والتحقيق وفترة الحكم؟ في هذه الأجواء الثقيلة والصراعية، بدا فيليب موريس غائباً، في مكان متأخر مقارنةً بِرِهان إجراءات المحاكمة التي كان موضوعَها. أو على الأقل أمامي انطباع غريب وأقول إنه قاسٍ، لأني أتصور أني قمت بعملي كقاض، من دون أن أستنتج حُكما ما كان من اختصاصي، والذي ما كان لي، على الرغم من ما قيل أن أؤثّر فيه”، لكن الوقائع كانت تنطق من تلقاء ذاتها، ف”ما كان عليّ ألا أبعث المتهم أمام العدالة في قضية قُتل فيها أربعة أشخاص، منهم رجال شرطة”.
ومن بين القضايا التي عالجها القاضي بروغيير، قضية الطالب الياباني “إيسيي سيكاوا” الذي قتل طالبة هولندية وبدأ يلتهمها. “الياباني ساكاوا حقق تخيله الذي رافقه طول حياته، كما سيعترف لاحقا، وهو التهام اللحم البشري.”،كما أنه كلّف بقضية الدكتورة فولامور. وهي ما يرى فيها القاضي بروغيير: “رواية حقيقية، لكن، لسوء الحظ، بشخوص حقيقية، رشيقة وبالغة الخطورة في آن”.
سنوات الرصاص
يتعلق الأمر باعتداء جرى في قلب باريس في الحي اليهودي، شارع روزيير، في 9 أغسطس/آب سنة ،1982 وكان هو أول ملف إرهابي يتصدى له القاضي بروغيير. وهو ما شكل سابقة في فرنسا، التي تتعرض لأول اعتداء بعد الحرب العالمية الثانية.
قال الشهود إن منفذ العملية من أصول عربية.وسيعهد الأمر عن طريق الصدفة إلى بروغيير.وهنا سيبدأ المراقبون في تذكر اسم هذا القاضي، إذ تم اكتشاف سلاح العملية، وهو من صنع بولوني، فتوجه مباشرة إلى تمثيلية هذا البلد، طالبا لقاء مع السفير البولوني، وكانت الحرب الباردة في أوجها.وسيلعب القاضي لعبة قذرة من أجل توريط السفير البولوني في شباكه من أجل الحصول على المعلومات. فالسفير التقى بالقاضي من دون إذن من حكومته: “لقد أدخلته في أرضيتي. أي أرضية القانون”، وبعد أشهر، أرسل القاضي رسالة إلى السفير البولوني يقول له فيها: “إذا لم أتلق من سلطاتكم جواباً، سأقوم بكتابة تقرير رسمي أفسر فيه أن بولونيا ترفض، من خلالكم، التعاون مع العدالة الفرنسية”.
ويصف وضعية السفير البولوني وهو في حالة يرثى لها. ثم بعد انتظار آخر يحذره قائلاً: “سأسلّم تقريري إلى المدّعين بالحق المدنيّ وإلى عائلات الضحايا والجرحى (...) أعلنت للسفير أن رفض تجاوب السلطات البولونية مع ملف اعتداء معاد للسامية سيكون له وقعٌ سيئ. ولم أتطرق لعلاقات بلاده السابقة مع الجالية اليهودية، لكنه فهم الخطاب بشكل كامل”، لكنه يذكر أن المسؤولين البولونيين أجابوه، في نهاية الأمر بما لم يكن ينتظره: “في 5 يوليو/تموز من سنة 1983 تلقيت أخيراً جواباً دبلوماسياً يؤكد أن السلاح من صنع بولوني، لكن، لَكَمْ كانت دهشتي كبيرة، حين قرأتُ في التقرير أن السلاح مسجل باعتباره مفقوداً في الوثائق الحسابية الرسمية،وسأعرف لاحقا أن السلاح سُلّم إلى الجيش البولوني”.
ويبرر القاضي طرق عمله، ويقول: “يجب ألا نعتبر، بصفة مسبقة، أن طلب تعاون دولي “مستحيل”. التحقيقات في قضايا مكافحة الإرهاب الدولي تستلزم البراغماتية والخيال، وبشكل خاص التصميم. ومهما قال مُنتقدي في تلك الفترة فإن مذاق الخطر ليس هو الميزة الأكثر شيوعاً بين القضاة...”.
نكتشف أن تنظيم فتح المجلس الثوري، التابع لأبي نضال هو المسؤول عن تفجير باريس. ويرى فيه القاضي بروغيير: “التنظيم الفلسطيني الأكثر تنظيماً، والأكثر عنفاً من بين كل الفصائل الفلسطينية. وهو يتحمل، ما بين سنتي 1970 و،1989 مسؤولية ما يقرب من مائة اعتداء في العالم”، ويقدم القاضي معلومات وافية عن هذا التنظيم الفلسطيني: “تنظيم أسسه صبري خليل البنا، كان يمثل عرفات في بغداد، وانشق عنه سنة ،1974 متهماً عرفات بأنه منخرط في مسلسل سلام مع “إسرائيل”، وقد حاول اغتيال عرفات. ويعتبر أول انشقاق في منظمة التحرير الفلسطينية (...) وهدف هذه الحركة المنشقة واضح: تدمير “إسرائيل”. وبالتالي رفض كل أنواع التفاوض أو أي حل تفاوضي”، ويمنحنا معلومات وافرة عن ارتباطات الرجل وتنوع تحالفاته وتغيرها وعملياته. ولكن وصفه كان صائباً: “خلق أبو نضال تنظيماً إرهابياً قوياً ومنظماً بشكل جيد، على منوال جهاز سري. وهي تقنية ألهمت، لاحقاً، معظم المجموعات الثورية”، ونعرف أن التنظيم قام بالكثير من العمليات ضد الدول العربية التي كان يعتبرها “خائنة” ومن بينها اعتداء في باريس على موظفي السفارة السعودية. وأن السلطات الفرنسية استجابت لمعظم طلبات المعتدين، ومن بينها طائرة إلى الكويت. وهذه الموافقة على طلبات الكوماندوس “من الصعب جداً تصوُّرُها، اليوم”.
بعد ذلك ضرب أبو نضال في باريس أيضا فاغتال عز الدين القلق، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، وأيضا يوسف مبارك وآخرين...
كيف استطاع القاضي أن يكتشف كل الأشياء؟ يعترف أن فرنسا، في تلك الفترة، لم تكن تمتلك الوسائل التي بحوزتها الآن، للتحقيق في الإرهاب الدولي. “كنت أشتغل حينها، بشكل جوهري، مع فرقة مكافحة الجريمة ومع الشرطة القضائية الباريسية، وهو جهاز جيد ولكنه كان يكتشف ويتعلم في نفس الوقت معي. لاحقاً اعتمدت على جهاز الاستخبارات الخاصة الذي كان يرتبط بعلاقات خاصة مع العديد من الأجهزة الأجنبية”.
اتصالات جانبية
لم يكن بالإمكان الوصول إلى الطرف المنفذ للاعتداء، أي جماعة أبي نضال، من دون أخذ الاعتداءات والاغتيالات التي طالت جسم منظمة التحرير في أوروبا بعين الاعتبار، ومن ضمنها اغتيال عصام السرطاوي في البرتغال وغيره. ويقول إن الكثير من هذه القضايا لم تؤدّ إلى اعتقالات وإنما فقط إلى أحكام غيابية. ولكن القاضي يستخلص نتائج من الأمر: “أتاحت لنا أن نعرف بشكل عميق طرق اشتغال فصيل فتح المجلس الثوري”، ويتطرق القاضي بروغيير إلى ما يسميه الديبلوماسية الموازية، باعتبارها ملجأ الحكومات الجديدة في فرنسا، إلى معالجة القضايا بطريق مباشرة أو عبر محاولات سرية، وخاصة مع وصول اليسار الفرنسي إلى الحكم سنة 1981.
ولم يكن اليسار الفرنسي محظوظا، حيث إنه ابتداء من سنتي 1981 و1982 عرفت فرنسا إحدى أسوأ فترات حياتها مع الإرهاب. “عنف غير مشهود يَسّاقطُ من كل جهة”. في البداية كان التهديد الداخلي مع حركة “العمل المباشر” التي تسبب في اغتيال الجنرال “أودران” و”فرانسوا بيس”. لكن هذا التنظيم الفرنسي لم يكن معزولاً عن سياقه الأوروبي. “ألمانيا عرفت الأمر في سنوات السبعينات مع الجيش الأحمر، إيطاليا مع الألوية الحمراء، وإسبانيا مع “غرابو”، ولاحقاً، عرفت بلجيكا الأمر مع الخلايا الشيوعية المقاتلة، ومنظمات أخرى غير معروفة كثيرا. وقد كانت هذه التنظيمات تتواصل كي تخلق جبهة أوروبية معادية للإمبريالية. وخلف هذه الجبهة الأوروبية لمحاربة الإمبريالية كان يوجد، بشكل واضح، ظلّ بلدان شرق أوروبا وبشكل خاص ألمانيا الشرقية، والدول التابعة للاتحاد السوفييتي”.
ويضيف بروغيير “أن فرنسا، في نفس الوقت، تعرضت لهجمات من منظمات فلسطينية، وقد رأينا الأمر مع أبو نضال وشارع روزيير. من دون الحديث عن عمليات أخرى لم أحقق فيها وقام بها تنظيم الخلايا المسلحة الثورية اللبنانية، والحملة الأكثر عنفاً التي قامت بها “لجنة التضامن مع المعتقلين السياسيين العرب”، وقد انتهت هذه الحملة، كما تعرفون، بالاعتداء في شارع رين، في سبتمبر/أيلول 1986”.
يصوّر بروغيير، الذي انضم مؤخرًا لحزب الأغلبية اليميني الفرنسي، هلع اليسار الواصل للتو إلى السلطة والعمليات التفجيرية والتهديات تستقبله. ويذكر اعتقال الفرنسيين في يناير من سنة 1982 لعضوين من جماعة كارلوس، ماغدالينا كوب وبرونو بريغي، وما تبعه من رسالة تحذير أرسلها كارلوس ويطالب فيها بإطلاق سراح رفيقيه، و”يهدد فيها فرنسا بأسوأ انتقام إذا لم يطلق سراح رفيقه”.
وحين جاء تفجير أبو نضال في شارع روزيير، “ليرعب اليسار الذي وصل للتو إلى الحكم، والذي لم تكن لديه تجربة في مكافحة الإرهاب ولا في اشتغال جهازي الشرطة والعدالة القمعيين. وكان لليسار نزوعٌ، بعد سنوات من المعارضة، إلى الحذر منهما. ولهذا السبب قام مقرّبون من الرئيس ميتران بالعمل في الظلّ، في الكواليس، على أمل تهدئة الأوضاع عبر مفاوضات “موازية”،ويذكر القاضي أسماء بعض المقربين من الرئيس فرانسوا ميتران الذين تفاوضوا سراً مع ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية ومن بينهم فرانسوا غروسوفر، مستشار خاص لرئيس الجمهورية لقضايا الأمن، وجوزيف فرانسيتشي، سكرتير الدولة للأمن.
وينتقد بروغيير، بل ويُدين هذه اللقاءات السرية بين المسؤولين الفرنسيين ونظرائهم الفلسطينيين، على الرغم من أن الهدف الفرنسي المرجو كان هو محاولة إقناع عرفات بتحييد أبي نضال من أجل وقف الاعتداءات، ويبرر رفضه بالقول: “لأن الأمر يتعلق بردود فعل ساخنة، وبمسعى يتم إنجازه في عجلة وذعر شديد ومن دون أخذ مسافة لا من أسباب عمليات القتل في قلب باريس والتي تستهدف الجالية اليهودية ولا من السياق الجيو سياسي التي تندرج ضمنه هذه العمليات”.
ويبدو هنا أن القاضي يخلط الأوراق. فهو لا ينظر بعين الثقة إلى الزعيم الفلسطيني أبو إياد، ويعترف لأنه زعيم قيادي في منظمة التحرير الفلسطينية، ولكنه يرى أن حركة فتح “كانت لا تزال، في هذه الحقبة، متورطة في عمليات إرهابية ضد المصالح الغربية، بما فيها المصالح الأوروبية، على الرغم من أن فرنسا تبدو وكأنها غير مستهدفة بشكل مباشر”، ويرى القاضي أن حركة فتح تورطت بعد ذلك بثلاث سنوات، يوم 26 مارس/آذار 1985 في اعتداءين بالمتفجرات في سويسرا، أحدهما في مدينة لوزان والآخر في جنيف، ضد أهداف ليبية وسورية، ويوم 13 مارس/آذار ،1984 في محاولة اغتيال المكلف بالشؤون “الإسرائيلية” في أثينا. ويذهب الأمر بالقاضي بروغيير إلى درجة الحديث عن “التصاقات أو التحامات، وعلى الخصوص على مستوى القاعدة، بين رجال منظمة فتح ورجال أبي نضال”، وكي يؤكد القاضي بروغيير أقواله واتهاماته يورد أنّ “كوماندوس جبهة التحرير الفلسطينية التي كان يقودها أبو العباس، المسؤول عن اختطاف السفينة الإيطالية أكيلي لاورو، في 7 أكتوبر/تشرين الأول من سنة ،1985 كان على اتصال مع أعضاء من مجموعة أبو نضال ومن حركة فتح واستخدم جوازات سفر مغربية مزورة قادمة من مخزن كانت تمتلكه منذ سنة 1982 منظمة التحرير الفلسطينية. وأحد هذه الجوازات سيتم العثور عليه مع أحد النشطاء من فتح المجلس الثوري الذين ظهروا أثناء تفجير شاعر روزيير”.
ويورد القاضي بروغيير أن وسطاء يظهرون بشكل دائم في القضايا الحساسية، وهو ما رآه من جديد أثناء التحقيق في قضية “دي سي 10” حين “قدم عندي متدخلون عديدون من آفاق مختلفة يمنحنوني خدماتهم، مُدَّعين أنهم في وضعية أفضل للتدخل لدى العقيد معمر القذافي، لكن بنيات تجارية. ففضلتُ أن أضرب الصفح عن هذه “الخدمات” للوسطاء المشبوهين و”المُلوِّثين” كي أًفضّل الطريق الرسمي مرورا بالعدالة وإدارة الأمن الوطني. وهي قناة دستورية فيها ثقة مع مُحاوَرين مُحدَّدين”.
أحياناً يمنح القاضي بروغيير نفسه مكانة بالغة الأهمية مقارنة بالقرار السياسي. ونحن هنا، في زمن حكم الرئيس ميتران. وهو يبدو كما لو أنه يهدد الساسة “ حين يتعلق الأمر بشؤون الإرهاب وبشكل خاص بتفجير شارع روزيير، يوجد خط أحمر لا يجب تخطيه: وهو قبول التفاوض مع الإرهابيين. مع الدول وممثليها نعم، مع المنظمات الإرهابية أو مع أشخاص أو كيانات تمثلهم وتدعم حركتهم، لا. أبو إياد ليس إرهابيا، ولا منظمة التحرير الفلسطينية ولا ياسر عرفات. ولكن الأمر في سنة ،1982 كان أكثر غموضا وأكثر خطورة من الآن. حركة فتح، الذراع المسلحة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي بهذه الصفة كانت منخرطة في عمليات إرهابية، حتى في أوروبا. كما أن التحقيقات كشفت بشكل واسع وجود علاقات عملياتية ما بين حركة فتح ومنظمات إرهابية ل”جبهة الرفض” وبشكل خاص فتح المجلس الثوري لأبي نضال”.
دسائس الكرملين
يتحدث القاضي عن الدعم الذي كانت تتلقاه في نظره التنظيمات والمجموعات الإرهابية من قبل الاتحاد السوفييتي. ويرى أنه بعد أزمة صواريخ كوبا، تراجعت موسكو عن الاقتراب من الأراضي الأمريكية “ولكن المواجهات بين القطبين لم تختف. بل اتخذت أشكالاً واستراتيجيات جديدة، استراتيجيات صراع غير مباشر والتفاف. في هذا السياق، بدا الإرهابُ سلاحاً مفضلاً لزعزعة المعسكر الغربي. وعلى عكس الإسلاموية الراديكالية فإن التنظيمات الإرهابية وبشكل خاص المنظمات الفلسطينية التي ضربت أوروبا وبشكل خاص في فرنسا في سنوات الثمانينات كانت سياسياً وتقنياً مرتبطة بدول (أو بأجهزة استخباراتها) تنتمي إلى المعسكر الاشتراكي”.
ويرى بروغيير ان موسكو كانت تنظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية ثورية، وكي تساعدها قامت موسكو، بالفعل، بتوزيع الأدوار.هكذا بدت بلغاريا كذراع الاتحاد السوفييتي المسلح. كان بلدا تحت المراقبة من الناحية الأيديولوجية. كما أنه كان البلد الأكثر قربا جغرافياً وثقافياً كما أن لغته كانت تشبه الروسية كثيراً. وكانت توجد في بلغاريا قاعدة تدريب للأجانب في فيليكو تيرنيفو. كما أنها أسست شركات للتغطية على الأمر. “وقد اكتشفنا في فرنسا شركة اقتصاد مختلط، دانوبيكس، تستخدم لبيع الماشية، وكانت تحت مراقبة جهاز الاستخبارات البلغارية”.
لا شك أن الاتحاد السوفييتي، والدول التابعة له، كان مؤيداً للتنظيمات الإرهابية، ولكن هل يعني أن انهيار الاتحاد السوفييتي هو انهيارٌ لهذه التنطيمات الإرهابية وعودة للأمن والهدوء في أوروبا؟
يرى بروغيير أنّ “أجهزة الاستخبارات الغربية كانت تركز جهودها على أنشطة مكافحة تجسس وتجسس موسكو ودول حلف وارسو. مكافحة الإرهاب كانت هامشية خصوصاً أن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لم تُضرب، أو ضربت بشكل نادر، من طرف “الإرهاب الفلسطيني”. في حين أن الجيش الجمهوري الإيرلندي كان يشكل، بشكل جوهري، تهديداً داخلياً لبريطانيا العظمى. وكان يُنظر للإرهاب باعتباره منتوجاً من الحرب الباردة، واستراتيجية أرستها موسكو في صراعها ضد الغرب. هكذا سقطنا في خطأ الملائكية: انهيار الشيوعية وانتصار الغرب الليبرالي لم ينجحا في الإطلال على فترة حرية وازدهار من دون عنف إرهابي. إن هذا اللااستعداد، الذي يعود في قسم كبير منه إلى قساوة ثقافية، كبح تغيرات ضرورية جدا وسط الاستخبارات الغربية. وهي وضعيةٌ تفسّر الفشل الذي جرى في العشرية التالية في الوقاية من المخاطر الإرهابية التي تستوحي تنظيم القاعدة”.
يورد القاضي شرحاً وافياً لتفاصيل الطائرة الفرنسية التي اتهمت فيها الجماهيرية الليبية، والتي ستعترف بالأمر لاحقاً وتدفع التعويضات المجزية، من دون تسليم المسؤولين (كما فعلت مع طائرة لوكربي) الذين دانتهم العدالة الفرنسية، وعلى رأسها القاضي المثابر بروغيير. ولكن القاضي استفاد من سياقات سياسية ودولية، ما سهل عليه المأمورية. “في سنة ،1991 قررتُ توجيه مذكرات توقيف في حق أربعة مسوؤلين ليبيين ومنهم عبد الله سنوسي، رقم اثنين في الاستخبارات الليبية. وقد منحت الضغوط الدولية بالإضافة إلى ضغوط مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لهذا النزاع القضائي بُعداً جديداً. وابتداء من سنة 1992 أتاحت الإجراءات التي قامت بها، في بداية الأمر، السلطات القضائية الأمريكية والبريطانية، بعد الاعتداء على طائرة بانام وتوجيه مذكرات التوقيف الدولية في إطار التحقيق جول “دي سي 10” للقوانين الوطنية أن تحظى بدعم من قبل الحق الدولي، في مساعيها”. وكانت النتيحة معروفة كما يوردها القاضي بروغيير، وكما لاحظها الكثيرون، “وانتهى الأمر بالعقيد القذافي أن يتخلى عن دعمه للإرهاب الدولي وعن طموحه في امتلاك السلاح النووي، يوماً ما. ولكن في سنة ،1991 لم يكن في وارده الخضوع للغرب. وأما فرنسا، فمن جهتها، لم تكن معارضة له، وعرف كيف يمكنه الاعتماد على دعائم تأييد في بلادنا، وسط مجالات قيادية..”.
الكل يعرف نتائج الحكم وقبول الليبيين بنتائجه ودفعهم للتعويضات من دون تسليم ولا واحد من المطلوبين الليبيين الستة، على الرغم من أنهم سيعتقلون فور مغادرتهم للجماهيرية، ولكن ما هو التفسير للعملية الليبية؟ لأن التفسير قد يقنع بسلامة التحقيق وعدالة الحكم.
الخليج :الخميس ,19/11/2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.