تتجاوز مسألة حظر المآذن في سويسرا مجرد بعدها الديني والهوياتي كي تمس قيمة الحرية باعتبارها إحدى القيم التي نهضت عليها الحضارة الأوروبية الحديثة. وبقدر ما يصعب الانسياق وراء حزمة التفسيرات الجاهزة بشأن العنصرية الأوروبية ونهوض اليمين المتطرف المناهض للمسلمين عموماً، بقدر ما يجب إعادة النظر في التحولات التي تشهدها مسائل الحرية والتعددية الدينية في أوروبا والغرب بوجه عام، ناهيك عن قدرة المسلمين على فهم منظومة الحرية (قيمها والتزاماتها) في سياقها الغربي. إعادة النظر في مفهوم الحرية الدينية تناقضات العلمانية والحرية أزمة مآذن أم خبيئة ضمائر؟ مسألة الحرية بين الشرق والغرب إعادة النظر في مفهوم الحرية الدينية " عاد الدين بقوة إلى الحياة العامة في أوروبا سواء من حيث زيادة نسبة الإقبال على الكنائس ودور العبادة أو من خلال ظهور جماعات وحركات تميل إلى تديين الفضاء العام وإعطاء الدين ثقلاً سياسياً وهوياتيّاً وتضع المعتقد كأساس في نظرتها للأخر " تاريخياً، انبثق مفهوم الحرية الدينية Religious Freedom من قلب الحروب الأهلية التي عمت أوروبا طيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر والتي راح ضحيتها ملايين البشر في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا وهولندا. وقد كانت هذه الحروب بمثابة الوقود الحقيقي لأفكار النهضة والتنوير التي أنهت عصور الظلمات في أوروبا ونتج عنها أفكار الحرية والحداثة والتعددية الدينية. من جهة أخرى جرى الربط دائماً بين نشأة الدولة الوطنية في أوروبا وبين تعضيد مفهوم الحرية الدينية، فعلى سبيل المثال كانت عدد سكان ألمانيا حوالي 10 مليون شخص عام 1618 وصلوا إلى حوالي ستة ملايين بحلول عام 1648 بعد حرب الثلاثين عاماً، وذلك بفعل الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، ولم تتوقف هذه الحرب إلا بتوحيد ألمانيا على أيدي أوتوفون بسمارك أوائل القرن التاسع عشر. وعلي مدار القرون الثلاثة الماضية انصهرت أفكار الحرية والحداثة والعقلانية كي تنتج مجتمعات أوروبية ناضجة تتسم بالتسامح والتعددية الدينية وقبول الأخر دينياً وثقافياً، فيما بدا أنه تراثاً أوروبياً خالصاً. ترافق مع ذلك تراجع حضور الدين (كفكر وممارسة) في الفضاء العام الأوروبي إلى أقصي حدوده. ولم تثر قضية الحريات الدينية أو وضع الأقليات الدينية داخل أوروبا من قريب أو بعيد حتى أواخر الألفية الثانية. بيد أن العقدين الماضيين شهدا حضوراً مكثفاً للدين في المجال العام، وظهرت جماعات وحركات دينية جديدة في مختلف أنحاء أوروبا مما أدى إلى انتعاش أدبيات علم اجتماع الأديان في أوروبا وإضافة مصطلح جديد أطلق عليه "الحركات الدينية الجديدة" New Religious Movements والمعروفة اختصاراً ب NRMs، وهي الحركات التي انتشرت منذ منتصف التسعينات في مختلف أنحاء أوروبا وفي بلدان علمانية عتيقة مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبلجيكا وهولندا والدانمرك. وقد كانت المفارقة هي ظهور أحزاب سياسية تتبني أجندات دينية واضحة، وتضع مسألة الأقليات الدينية على سلّم أولوياتها. وكان منطقياً، والحال كهذه، أن تبرز مسألة الوضع السياسي والثقافي للأقليات المسلمة في أوروبا، والتي اكتسبت أهمية خاصة لدى تلك الجماعات بعد وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. وتشير كثير من الدراسات السوسيولوجية إلى عودة الدين بقوة إلى الحياة العامة في أوروبا سواء من حيث زيادة نسبة الإقبال على الكنائس ودور العبادة أو من خلال ظهور جماعات وحركات تميل إلى تديين الفضاء العام وإعطاء الدين ثقلاً سياسياً وهوياتيّاً وتضع المعتقد كأساس في نظرتها للأخر. صحيح أن الفصل بين الكنيسة والسلطة في معظم الدول الأوروبية لا يزال قائماً منذ أن حُسم الأمر لصالح هذه الأخيرة قبل أربعة قرون، بيد أن البعد الثقافي والقيمي للدين لا يزال قائماً لدي البعض باعتباره ستاراً واقياً تجاه ما يعتبرونه محاولة للتمدد الإسلامي الواضح في المجتمعات الأوروبية. وخلال السنوات القليلة الماضية واجه مفهوم الحرية الدينية تحدياً واضحاً من الممارسات التمييزية في أكثر من بلد أوروبي تجاه الأقليات الدينية، خاصة المسلمة، وبدا أن ثمة ردة ثقافية وفكرية واضحة على أفكار الحداثة والتنوير التي رسخّت قيم التعددية والتسامح واحترام الاختلافات الدينية والثقافية. وبدأت موجة من التضييق السياسي والهوياتي على الأقليات الدينية الأخرى الموجودة في دول أوروبا الغربية. وقد بدأ ذلك ضد الأقليات الدينية داخل الديانة المسيحية ذاتها. فلم تقو أوروبا الغربية على هضم التقاليد الكاثوليكية لدول وشعوب أوروبا الشرقية التي اندمجت في الاتحاد الأوروبي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أوائل التسعينات من القرن الماضي. كما ظهرت بعد الخلافات والانقسامات حول طبيعة الكنائس التي يجب على دول أوروبا الشرقية إتباعها من أجل إيجاد مكان لها ضمن منظومة الحضارة الغربية لأوروبا. من هنا يمكن فهم حجم التضييق الذي يواجهه المسلمون في أوروبا، خاصة في ظل الحضور المتنامي للديانة الإسلامية بشراً ورمزاً، فبدأت تظهر مشكلات الحجاب والنقاب ومؤخراً المئذنة. ومن المتوقع أن تزداد درجة الاحتكاك بين المجتمعات الأوروبية وأقلياتها المسلمة وأن تتنوع وتتفرع قضايا الرموز الإسلامية وربما نشهد أزمة حول حجم وعدد المساجد المفترض بناءها في كل دولة أوروبية. تناقضات العلمانية والحرية " عندما يقارن المرء بين إعطاء الحرية للمثليين في الزواج في معظم الدول الأوروبية، بل وتقنين أوضاعهم الشاذة قانونياً ومدنياً، في الوقت الذي تُمنع فيه فتاة مسلمة من ارتداء الحجاب، أو يُمنع فيه مسلم من ممارسة شعائره بحرية، فإنه لابد من مراجعة أسطورة الحرية الغربية التي طمست الكثير من عقولنا وأفكارنا " عشنا لقرون نعتقد أن العلمانية والحرية صنوان لا ينفصلان. فقد كانت العلمانية الكلاسيكية بمثابة صرخة في وجه السلطات الدينية اللاهوتية، ومحاولة للتخلص من هيمنة الديني على الشأن السياسي والمجال العام في أوروبا. وكان ذلك هو الوجه الأخر للحرية الدينية بمختلف أنواعها التي وصلت إلى حرية الإلحاد الديني. وبالرغم مما قد ينطوي عليه المفهومان من تناقض مظهري (فالعلمانية بطبيعتها هي ضد تديين الفضاء العام، في حين أن الحرية بأنواعها المختلفة خاصة الدينية، هي المظهر الأكثر وضوحاً للحداثة والعقلانية)، إلا أنهما سارا بتوازٍ نادر طيلة القرون الثلاثة الماضية. بيد أن ما حدث خلال السنوات الأخيرة يضرب بقوة تلك النظرية الشهيرة حول العلمانية والحرية. فالحرية لم تعد مطلقة، وإنما باتت مقيّدة باعتبارات السياسة والديموغرافيا والهجرة والتوازن الديني. وقد هٌيئ لكثيرين، ربما خطأً، أن أوروبا قد دفنت عنصريتها الدينية وطوت إرثها التمييزي بفعل عوامل التمدين والحداثة والعقلنة التي طغت على المؤسسات السياسية والاجتماعية هناك. وعندما يقارن المرء بين إعطاء الحرية للمثليين في الزواج في معظم الدول الأوروبية، بل وتقنين أوضاعهم الشاذة قانونياً ومدنياً، في الوقت الذي تُمنع فيه فتاة مسلمة من ارتداء الحجاب، أو يُمنع فيه مسلم من ممارسة شعائره بحرية، فإنه لابد من مراجعة أسطورة الحرية الغربية التي طمست الكثير من عقولنا وأفكارنا. وهي ازدواجية يراها الغرب ضرورية بحجة حماية وحفظ هويته الثقافية والوطنية. مثلما يجرى الحديث الآن في فرنسا نزع الجنسية عن المسلمات المنتقبات أو توقيع غرامات مالية عليهم بسبب ارتداءهن النقاب. وهو ما يذكرّنا بفتاوى مماثلة شغلت حيزاً من تراثنا الإسلامي حول ضرورة تعيين (تمييز) غير المسلمين داخل البلدان الإسلامية في ملبسهم ومسكنهم وإجبارهم على دفع الجزية مقابل البقاء على دينهم. لذا يخطئ من يظن بأن التراث الأوروبي من احترام التعددية الدينية والثقافية لا يزال على حاله من الرحابة والسعة. وتثبت حوادث التمييز الديني المتكررة في أوروبا انتهاء صلاحية تلك المعادلة التاريخية بين العلمانية والحرية، وتبدو المجتمعات الأوروبية الآن أكثر إنصاتا للجماعات والتيارات الدينية التي تمارس عليها نوعاً من التضليل والترهيب من الإسلام والمسلمين. ودون الوقوف عن الحوادث الفردية التي تظهر فيها هذه الازدواجية الغربية، فإن تكرارها يحولها إلى ظاهرة عامة تضرب في عمق الضمير المجتمعي الأوروبي. أزمة مآذن أم خبيئة ضمائر؟ " من المفارقة في أزمة المآذن أن الغالبية العظمي من الأقلية المسلمة في سويسرا تنتمي لمسلمي يوغسلافيا والبلقان والذين يشكلون معاً حوالي 60% (200 ألف شخص)، وبالتالي لا توجد فوارق ضخمة بينهم وبين السويسريين، على الأقل مقارنة بالمسلمين العرب " وفي حقيقة الأمر فإن مسألة المآذن، وبرغم تلاقيها مع بعض الأزمات الأخرى التي واجهها المسلمون في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، إلا أنها تبدو محطة فاصلة في العلاقة بين علاقة المسلمين بمجتمعاتهم الأوروبية الجديدة، وذلك لعدة اعتبارات أولها كونها المرة الأولى التي يتحرك فيها شعب أوروبي تجاه تقييد الحضور الديني لأحد أقلياته الدينية. فالتصويت على حظر المآذن كان شعبياً وليس رسمياً، وهو ما يعكس إما قدرة حزب الشعب المسيحي "اليميني" على ترهيب وتخويف السويسريين من تزايد الحضور الديني للأقلية المسلمة، وإما بسبب ضعف هذه الأخيرة في الاندماج والذوبان في ثنايا المجتمع السويسري ما خلق حاجزاً بينها وبين قطاع واسع من الشعب السويسري، وبالتالي الفشل في إقناع بحقيقة دينهم ومعتقداتهم. ففي حالة الرسوم الدانمركية أو مسألة الحجاب "الفرنسي" كان التحرك إما فردى أو رسمي، وذلك دون وجود تأييد شعبي كبير لما حدث، أو على الأقل كان على استحياء. ثانيها، أنها تحدث في بلد عُرف عنه علمانيته وحياديته التاريخية، وهو ما ينطوي أيضا على معانٍ ودلالات كثيرة تتعلق بمدي الخوف والوهن الذي أصاب العقل العلماني الأوروبي وجعله أقرب للعقل السلفي الذي يقع أسير مقولات مؤدلجة وصور نمطية غير صحيحة. ثالثها، احتفاظ الجالية المسلمة في سويسرا وفي أوروبا بقدر عالٍ من الهدوء والترويّ في الرد على مسألة حظر المآذن، وهو ما يمكن تفسيره إما بنضوج الوعي الإسلامي في أوروبا بعد سلسلة من الإخفاقات في التعاطي مع أزمات مشابهة أضرت بالمسلمين أكثر مما أفادت، وإما بسبب عدم قدرة الجاليات المسلمة على تحريك الشارع الأوروبي ضد قرار الحظر باعتباره قراراً تمييزياً. رابعها، أن المشكلة لا تكمن قطعاً في المئذنة كمظهر ديني أو معماري، كما أن اختزال القضية برّمتها في ذلك يخرجها عن التحليل السليم. ولا أعتقد أن بناء المآذن من عدمه يمثل مشكلة لدى المسلمين عامة ومسلمي أوروبا على وجه الخصوص. فهناك مئات الألوف من المساجد والزوايا داخل العديد البلدان الإسلامية لا تحظي بمئذنة أو حتى رافعة معدنية لإقامة الآذان. المشكلة هي في فهم الوظيفة الهوياتية للرموز الدينية لدى كلا الجانبين السويسري والمسلم. فالسويسريون صوّتوا ضد ما يرونه تنامياً للهوية الإسلامية في بلد مسيحي، ما يهدد هويته الدينية، وهي من المرات النادرة التي يُستنفر فيها المكون الديني داخل العقل العلماني الأوروبي. وكان أجدر بهم ألا يهتموا بمثل هذه المسألة التي تبدو سطحية مقارنة بغيرها من الظواهر التي تؤثر سلباً على الحريات الدينية في سويسرا. كما أن الأقلية المسلمة تعاطت مع المئذنة باعتباره ركن ديني يجب إقامته، ما ساهم في زيادة مخاوف السويسريين، وكان الأجدر التركيز على القضايا الأكثر أهمية اجتماعياً وسياسياً وتعليمياً التي تواجه الأقلية المسلمة. ويزيد من حجم المفارقة في أزمة المآذن أن الغالبية العظمي من الأقلية المسلمة في سويسرا تنتمي لمسلمي يوغسلافيا والبلقان والذين يشكلون معاً حوالي 60% (200 ألف شخص)، وبالتالي لا توجد فوارق ضخمة بينهم وبين السويسريين، على الأقل مقارنة بالمسلمين العرب. مسألة الحرية بين الشرق والغرب كثيراً ما تهكّم باحثون غربيون على تداعي واختناق قيمة الحرية في العالم الإسلامي وفي الشرق بوجه عام. وثمة إحساس أوروبي بالتفوق الحضاري والقيمي على ما دونه من الشعوب والمجتمعات بفعل منجزات الحداثة والتنوير والعقلانية. بيد أن ما أصاب مسألة الحرية في الغرب، خاصة فيما يتعلق بحرية الاعتقاد والحريات الشخصية أذاب قدراً من الفروق الحضارية بين الشرق والغرب. ويبدو أن ثمة انحداراً حضارياً غربياً يتجاوز لحظية الأزمة الراهنة كي يرسخ تياراً عاماً يسير باتجاه تقليص مساحة الحرية الدينية والتسامح فيما يخص التعاطي مع المسلمين في أوروبا. الآن لم يعد هناك فرق كبير بين الشرق والغرب في التعاطي مع مسائل حقوق الأقليات والرموز الدينية. فالتمييز الديني الذي تتسم به المجتمعات الشرقية بات طابعاً مميزاً الآن للحياة في أوروبا. فأزمة المآذن كشفت أن الشعب السويسري يتعاطى مع مسلميه وكأنهم ليسوا مواطنين لهم حق العبادة وحرية التعبير، وإنما باعتبارهم غرباء أو مواطنين من الدرجة الثانية. وباعتقادي أن أزمة المآذن سوف تفتح باباً من التساؤلات حول مستقبل الحرية في أوروبا أهمها: هل تتنكر أوروبا لميراثها العتيق من الحرية والتعددية الدينية وقبول الآخر؟ وهل ما يحدث الآن في أكثر من بلد أوروبي يعد بمثابة ردّة على أفكار الحرية والحداثة ومنظرّيها مثل كانط وهيجيل وعائلة ستيورات ميل؟ وهل سيتحول الخلاف الديني إلى صراع سياسي بين المسيحيين والمسلمين في أوروبا؟ وجميعها تساؤلات مشروعة. _______________ كاتب مصري المصدر: مركز الجزيرة للدراسات