فوز رئيس المجلس العسكري في تشاد في الانتخابات الرئاسية    بعد معاقبة طلاب مؤيدين لفلسطين.. رئيسة جامعة كورنيل الأمريكية تستقيل    بنزرت.. الاحتفاظ بثلاثة اشخاص وإحالة طفلين بتهمة التدليس    نبات الخزامى فوائده وأضراره    وزير الخارجية: تونس حريصة على المحافظة على العلاقات التّاريخية والطّبيعية التّي تجمعها بالاتّحاد الأوروبي    المرسى: القبض على مروج مخدرات بحوزته 22 قطعة من مخدّر "الزطلة"    بسبب التّهجم على الإطار التربوي.. إحالة ولي على محكمة الناحية بسوسة    استدعاء سنية الدّهماني للتحقيق    أولا وأخيرا...شباك خالية    للنظر في إمكانية إعادة تأهيل عربات القطار: فريق فني مجري يحل بتونس    أم تعنّف طفليها وتسبب لهما كسورا: وزارة المرأة تتدخل    شكري حمدة: "سيتم رفع عقوبات الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات في أجل أقصاه 15 يوما"    الرابطة 1 (مرحلة التتويج) حسام بولعراس حكما للقاء الكلاسيكو بين الترجي والنجم    المدير الفني للجنة الوطنية البارلمبية التونسية ل"وات" : انطلقنا في الخطوات الاولى لبعث اختصاص" بارا دراجات" نحو كسب رهان التاهل لالعاب لوس انجليس 2028    تونس تفوز بالمركز الأول في المسابقة الأوروبية لزيت الزيتون    قبلي: تنظيم يوم حقلي في واحة فطناسة بسوق الاحد حول بروتوكول التوقي من عنكبوت الغبار    هام/ وزارة التربية: "نحن بصدد بلورة تصوّر جديد لمعالجة هذا الملف"..    المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بصفاقس تواصل حملتها على الحشرة القرمزية    اللغة العربية معرضة للانقراض….    تظاهرة ثقافية في جبنيانة تحت عنوان "تراثنا رؤية تتطور...تشريعات تواكب"    قابس : الملتقى الدولي موسى الجمني للتراث الجبلي يومي 11 و12 ماي بالمركب الشبابي بشنني    عاجل : إغلاق مطار دكار بعد إصابة 11 شخصاً في حادث طائرة    سلالة "كوفيد" جديدة "يصعب إيقافها" تثير المخاوف    سابقة.. محكمة مغربية تقضي بتعويض سيدة في قضية "مضاعفات لقاح كورونا"    181 ألف بناية آيلة للسقوط في تونس ..رئاسة الجمهورية توضح    نابل: الكشف عن وفاق إجرامي يعدّ لاجتياز الحدود البحرية خلسة    الزمالك المصري يعترض على وجود حكام تونسيين في تقنية الفار    أبطال أوروبا: دورتموند الأكثر تمثيلا في التشكيلة المثالية لنصف النهائي    زغوان: حجز 94 طنا من الأعلاف غير صالحة للاستهلاك منذ افريل المنقضي    كأس تونس: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ثمن النهائي    يمنى الدّلايلي أوّل قائدة طائرة حربية مقاتلة في تونس    دراسة صادمة.. تناول هذه الأطعمة قد يؤدي للوفاة المبكرة..    عاجل/ الحوثيون يعلنون استهداف ثلاث سفن بصواريخ وطائرات مسيرة..    الزغواني: تسجيل 25 حالة تقتيل نساء في تونس خلال سنة 2023    مفزع: 376 حالة وفاة في 1571 حادث مرور منذ بداية السنة..    سليانة: تنظيم الملتقى الجهوي للسينما والصورة والفنون التشكيلية بمشاركة 200 تلميذ وتلميذة    حماية الثروة الفلاحية والغابية من الحرائق في قابس....و هذه الخطة    في وقفة احتجاجية أمام مقر الاتحاد الأوروبي.. "تونس لن تكون مصيدة للمهاجرين الأفارقة"    قضية مخدّرات: بطاقة ايداع بالسجن في حق عون بالصحة الأساسية ببنزرت    السلطات السعودية تفرض عقوبة على كل من يضبط في مكة دون تصريح حج.    مقارنة بالسنة الفارطة: تطور عائدات زيت الزيتون ب91 %    الثلاثي الأول من 2024: تونس تستقطب استثمارات خارجيّة بقيمة 517 مليون دينار    الفيلم العالمي The New Kingdom في قاعات السينما التونسية    كشف لغز جثة قنال وادي مجردة    على طريقة مسلسل "فلوجة": تلميذة ال15 سنة تستدرج مدير معهد بالفيسبوك ثم تتهمه بالتحرّش..    البطولة العربية لألعاب القوى للشباب: ميداليتان ذهبيتان لتونس في منافسات اليوم الأول.    عاجل/ نشرة استثنائية: أمطار متفرقة بهذه المناطق..    بطولة روما للتنس للماسترز : انس جابر تواجه الامريكية صوفيا كينين في الدور الثاني    كتاب«تعبير الوجدان في أخبار أهل القيروان»/ج2 .. المكان والزّمن المتراخي    آخر أجل لقبول الأعمال يوم الأحد .. الملتقى الوطني للإبداع الأدبي بالقيروان مسابقات وجوائز    «قلق حامض» للشاعر جلال باباي .. كتابة الحنين والذكرى والضجيج    محمد بوحوش يكتب...تحديث اللّغة العربيّة؟    مدْحُ المُصطفى    ستنتهي الحرب !!    إذا علقت داخل المصعد مع انقطاع الكهرباء...كيف تتصرف؟    عشرات الشهداء والجرحى والمفقودين جراء قصف متواصل على قطاع غزة    بعض مناضلي ودعاة الحرية مصالحهم المادية قبل المصلحة الوطنية …فتحي الجموسي    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدولة العربية والعولمة النيو ليبرالية
نشر في الفجر نيوز يوم 17 - 01 - 2010


إعادة تشكيل قوة الدولة في الشرق الأوس
صالح سليمان عبد العظيم
الكتاب عبارة عن مجموعة من الأبحاث تمت برعاية مشتركة بين معهد الشؤون الدولية بروما، إيطاليا، ومعهد الشؤون الدولية باستكهولم، السويد.
أولا: تحليل الدولة في العالم العربي
ثانيا: تغير أنماط الحراك السياسي
ثالثا: تغير أنماط تراكم الثروة وتوزيعها
رابعا: تغير أنماط الأمن الكوني
خامسا: مستقبل تغيير الدولة في العالم العربي
أولا: تحليل الدولة في العالم العربي
"
التحليلات التي تتخذ من الاستثناء الثقافي مدخلا تحليليا مفسرا للواقع العربي على أسس دينية وثقافية معيقة لحدوث أية تغييرات سياسية في الواقع العربي تقع في دائرة التوظيف المتعسف للأدوات التحليلية بما يؤبد الواقع العربي ويمنعه من التغيير
"
تُعتبر قضية الدولة والجوانب المرتبطة بها من القضايا المعقدة سواء على المستوى النظري أو على المستوى الواقعي في العالم العربي، حيث توجد العديد من الإشكاليات المرتبطة بتوصيفها وتحديد خصائصها. وهي إشكاليات ترتبط بالتحولات الهائلة التي واجهتها منذ نهاية الحقبة الاستعمارية وحتى الآن، كما ترتبط ببنية الاستبداد التي ارتبطت بنشأة الدولة وتجذرت في كيانها وعبر مؤسساتها المختلفة.
ويقع الكتاب الراهن في القلب من هذه الإشكاليات من خلال المزج بين المستويين النظري والواقعي بدرجة عميقة من التحليل لا نستطيع معها أن نحدد أين يبدأ التنظير وأين ينتهي، وأين يفرض الواقع نفسه وأين ينسحب. ورغم أن التحليل التاريخي للكتاب يعود إلى فترة ما بعد الاستعمار وبداية تشكل دولة ما بعد الاستقلال الأيديولوجية فإنه يركز بدرجة كبيرة على التحولات التي واجهتها الدولة منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن، وهي الفترة التي تخلت فيها الدولة عن الأيديولوجيات الكبرى التي صاحبت ظهورها، وتحولت صوب النهج الليبرالي في شكليه الاقتصادي والسياسي بدرجات متفاوتة من التطبيق.
وتنبع أهمية الكتاب من تعامله مع الدولة كمدخل تفسيري يرتكز على نظام قوة محدد من خلال المؤسسات الرسمية التي تتبعها، وهو تناول يساعد على تشريح علاقات القوة بين هذه المؤسسات ذاتها، ومدى تأثير بعضها على البعض الآخر. ويمثل هذا المدخل مقاربة حقيقية للواقع الذي يتجاهله الكثيرون في المنطقة والمتمثل في هيمنة الدولة بشكل سلطوي استبدادي على الفضاء المجتمعي بدرجة كبيرة سواء في مرحلة ما بعد الاستقلال حيث الاستبداد الشعبوي الذي يرتكز على قاعدة جماهيرية واسعة، أو في مرحلة ما بعد تطبيق السياسات النيو ليبرالية حيث الاستبداد النخبوي المرتبط بفرض مصالح الدولة وتوجهاتها من خلال نخب ضيقة مستفيدة على علاقة قوية بها.
وفي المقابل فإن التحليلات التي تتبنى الديمقراطية كمدخل تفسيري لواقع الدولة تتعامل بشكل مجرد مع الواقع العربي بدون تحديد واضح لعناصر القوة ومحدداتها، وعلى رأسها بنية الدولة ذاتها والمؤسسات المرتبطة بها. كما أن التحليلات التي تتخذ من الاستثناء الثقافي مدخلا تحليليا مفسرا للواقع العربي على أسس دينية وثقافية معيقة لحدوث أية تغييرات سياسية في الواقع العربي تقع في دائرة التوظيف المتعسف للأدوات التحليلية بما يؤبد الواقع العربي ويمنعه من التغيير.
ويحدد الكتاب تعريف "العولمة النيو ليبرالية" على أنها "شكل من أشكال العولمة بدأ في الظهور منذ ثمانينيات القرن الماضي من خلال انتشار سياسات الخصخصة والتحرير الاقتصادي واللبرلة ورفع قيود الدولة". وفي هذا الإطار يتم التفرقة بين النيو ليبرالية والعولمة، بوصف الأولى مدخلا يختص بالسياسات العامة التي تقوم بها الدولة والحكومات، وبوصف الثانية عبارة عن ظرف إنساني جديد نمر به.
وانطلاقا من تلك الفترة الزمنية من تطور الدولة تتأسس الفرضية الرئيسة للكتاب التي تقوم على ضرورة عدم الربط بين العولمة النيو ليبرالية المرتبطة بتحقيق مستويات هيمنة أقل من قبل الدولة وبين ما يحدث في العالم العربي حيث قيام الدولة بأدوار تتحكم من خلالها في بنية القوة في المجتمعات العربية. فمن الطبيعي، ومع قبول الدولة في العالم العربي بالنيو ليبرالية في أشكالها المختلفة، أن تتخلى عن هيمنتها على الكثير من شؤون الحياة في المجتمع، وبشكل خاص توزيع الثروات وتحديد مستويات المشاركة السياسية، لكن العكس هو الذي حدث حيث ما زالت بنية القوة على حالها، ومستويات هيمنة الدولة كما هي، وإن بآليات وطرق ووسائل جديدة. وينبع من هذه الفرضية ثلاثة تساؤلات هامة ترتبط بمستقبل المنطقة بشكل عام ومستقبل الدولة بشكل خاص، وهي:
1- هل تتجه الدولة في العالم العربي نحو تحقيق الديمقراطية أم لا؟
2- هل هناك أمل طبيعي وحتمي للتغيير في العالم العربي؟
3- هل يمكن تغيير قبضة الدولة في المنطقة؟ وما هي الكيفية التي يمكن من خلالها تحقيق ذلك؟
يحاول الكتاب الإجابة عن هذه التساؤلات عبر أجزائه الثلاثة التي ترصد وتحلل أنماط التغيير في المنطقة من خلال الحراك السياسي وتراكم الثروة وتوزيعها والواقع الأمني في المنطقة، مبينا أن تردي واقع المنطقة يكمن بدرجة كبيرة في استمرارية بناء القوة والهيمنة الخاص بالدولة، الأمر الذي يحقق مصالحها ومصالح النخب الضيقة المرتبطة بها أكثر من المصالح المجتمعية العامة التي تمس قطاعات كبيرة من الأفراد في العالم العربي.
وهنا تبرز إشكالية أخرى على قدر كبير من الأهمية تتعلق بالكيفية التي أعادت بها الدولة الاستبدادية في العالم العربي تكييف نفسها مع المتغيرات الكونية المختلفة، وعلى رأسها التطبيقات النيو ليبرالية التي سادت العالم منذ عقود ثلاثة مضت وحتى الآن. ويرتبط بهذه الإشكالية تساؤلان يتكاملان مع التساؤلات السابقة ويكشفان عن حجم وطبيعة التغيرات التي حاقت ببنية الدولة في العالم العربي وهما:
1- ما هي تأثيرات المشاركة المتنامية للأنظمة العربية من موقع الخضوع في النظام العولمي المتجدد؟
2- وما هي جوانب الاختلاف بين النظام العربي الاستبدادي الجديد عن النظم السائدة في مرحلة ما بعد الاستقلال بالنظر للأسس الاجتماعية، والتحالفات الحاكمة، وتوزيع الثروات، وأنماط الحكم، والخطاب السياسي؟
وإذا كان هناك نقص حاد في نوعية الكتابات التي تفسر وتحلل التغيرات السياسية الحديثة في العالم العربي، فإن الكتاب الراهن معني بالأساس برصد وفهم هذه التغيرات من واقع دراسات حالة لأربع دول عربية تعكس أنماطا مختلفة تاريخيا وجغرافيا وهي: المملكة المغربية عن المغرب العربي؛ ولبنان عن المشرق العربي؛ والمملكة السعودية عن الخليج العربي؛ ومصر عن المنطقة ككل. وفيما يلي تناول تفصيلي لجوانب التغييرات الأساسية التي واجهتها الدولة في مرحلة ما بعد النيو ليبرالية.
ثانيا: تغير أنماط الحراك السياسي
"
كشفت ثلاثة عقود من تطبيقات النيو ليبرالية في العالم العربي عن تماسك الأنظمة السياسية المستبدة في المنطقة التي ارتدت قناعا من الليبرالية المحدودة، وتكيفت مع التحولات الكونية المحيطة بها
"
يتجه العالم ككل نحو النخبوية وخصخصة القرارات السياسية؛ فالقرارات أصبحت تُتخذ من خلال حلقة ضعيفة ومحدودة جدا من الخبراء والتكنوقراط، إضافة إلى تضاؤل أو اختفاء الأيديولوجيات السياسية ذات القاعدة الجماهيرية العريضة مقابل تصاعد الخطابات الاقتصادية التقنية وإحياء الهويات الدينية والإثنية. ولا يبتعد العالم العربي كثيرا عن تلك التوجهات حيث ظهرت أنماط جديدة من المشاركة والحراك السياسيين نتيجة للضغوط المحلية والدولية الرامية لتحقيق الإصلاح السياسي، والتي حدثت وفقا للمتغيرات الثلاثة التالية:
1- تغير الاستراتيجيات السياسية للأنظمة العربية المعولمة.
2- تغير النخب المحلية في ضوء المنافسة الداخلية وعلاقاتها الخارجية.
3- إضعاف الحراك السياسي للطبقات الوسطى والدنيا.
فعلى سبيل المثال تغيرت الاستراتيجيات السياسية بشكل كبير في مصر حيث تحول النظام من السلطة المستندة إلى قاعدة شعبية واسعة في عهد عبد الناصر إلى سلطة مستندة إلى قاعدة تكنوقراطية محدودة في عهد الرئيس مبارك. وتعكس هذه التحولات تغيرا في ولاءات الدولة سياسيا واقتصاديا وأمنيا. فعلى المستوى السياسي لم تعد الدولة تعتمد في قاعدتها على الملايين من أبناء الطبقة الوسطى ومحدودي الدخل الذين كانوا يمثلون أساس الأيديولوجية الشعبية الخاصة بها. وعلى المستوى الاقتصادي تبنت معظم الدول العربية برامج الخصخصة والتكيف الهيكلي، وتخلت عن دعم الطبقات الوسطى والفئات الفقيرة والمحدودة الدخل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن سياسات الانفتاح الاقتصادي التي طُبقت في السبعينيات في مصر ومثلت المهاد الطبيعي للتحول نحو التطبيقات الليبرالية الجديدة لم تكن في صالح الطبقة العاملة التي تم تدجينها بدرجة كبيرة، وبشكل خاص عمال القطاع الخاص. وعلى المستوى الأمني استمرت الدولة في قمع المعارضين السياسيين مستفيدة من أجهزة الأمن المختلفة والإمكانيات الهائلة المتوفرة لها. ومن الضروري هنا التأكيد على الترابط بين هذه المستويات الثلاثة وعدم الفصل بينها إلا لأغراض التحليل حيث يؤثر كل مستوى على الآخر ويتأثر به، وإن بنسب متفاوتة.
لقد كشفت ثلاثة عقود من تطبيقات النيو ليبرالية في العالم العربي عن تماسك الأنظمة السياسية المستبدة في المنطقة التي ارتدت قناعا من الليبرالية المحدودة، وتكيفت مع التحولات الكونية المحيطة بها. كما أن عملية إعادة تشكيل الاستبداد الجديدة لم تتم فقط من خلال التدخل الخارجي المباشر في السياسات الداخلية للدول العربية مثل دعم أو معارضة جماعات بعينها في لبنان، أو عن طريق العلاقات الجيو إستراتيجية ببعض النظم في المنطقة مثلما الحال مع مصر، لكنها تمت أيضا من خلال عملية بنائية استطاعت من خلالها الدولة استخدام تكنيكات وأشكال ولغات جديدة خاصة ببنية القوة في العالم العربي. ورغم ذلك لا يجب التقليل من الدور الهائل الذي قدمته الليبرالية العالمية من خلال نموذج "الدولة النيو ليبرالية" الذي أمكن إتباعه من قبل الدول التابعة في الهامش من النظام الكوني، والذي يمكن تحديد سماته وفقا لطبيعة الممارسات العربية فيما يلي:
1- تراجع مشروع الدولة الأيديولوجي؛ فلم تعد الدولة تهتم بالدعائم الأيديولوجية لها مثلما كان الحال سابقا في مشاريع الدول العربية مثل مصر وسوريا والجزائر. فبخلاف ما كان يتم من ارتكاز هذه الدول على شخصيات قيادية كارزمية أو على سياسات توزيعية واسعة النطاق فإن الأنظمة العربية اليوم تفرض الجمود السياسي على الجماهير من خلال ممارسات عديدة من القمع والقوة المباشرة.
2- تقع السمة الثانية للدولة النيو ليبرالية في القلب من نظام القوة الخاص بها من خلال اعتمادها على النمط الأبوي الجديد الذي تقوم من خلاله بمساعدة أفراد المجتمع بدرجة أو بأخرى من خلال نظام تحدده علاقة الراعي والتابع. وهذا النظام الأبوي يتم فرضه بأشكال متفاوتة من دولة لأخرى في العالم العربي حيث يتم من خلال النظام الطائفي في لبنان أو جماعات المصلحة سواء أكانت قبلية أو إثنية أو دينية كما في السعودية. وتبرز مشكلة النظام الأبوي الشائع في العالم العربي من خلال تحويل انتماء الأفراد للنظام الراعي لهم، إضافة إلى صعوبة التمييز في الكثير من الأحيان بين الفضاء المجتمعي العام والفضاء الفردي الخاص. كما أن هذا النوع من النظام الأبوي يؤدي إلى تشظي النظام السياسي في ضوء تعددية مراكز القوة في الدولة وانقسامها، وتزايد الصعوبات المرتبطة بإمكانية تنظيم معارضة قوية ومحددة ضد الدولة. فمن الملاحظ أن معظم التظاهرات التي تمت في العقود الأخيرة في مصر والمغرب والأردن كانت ذات طابع اقتصادي من أجل تحسين ظروف وأوضاع شرائح اجتماعية مختلفة، وليس من أجل مطالب سياسية معينة.
3- وترتبط السمة الأخيرة بقدرة النظم الاستبدادية في العالم العربي على تبني الصفوات الجديدة أو حتى خلقها. وتحاول الدولة هنا خلق بعض التنظيمات الجديدة مثل الأحزاب السياسية والغرف التجارية تحت رعايتها من أجل استيعاب تلك الصفوات وبشكل خاص تلك التي ارتبطت بتطبيقات الخصخصة والتكيف الهيكلي. واللافت للنظر هنا أن تلك التنظيمات غير متوافقة مع طريقة هيمنة الدولة على كافة شؤون الحكم لكنها على أية حال تمثل شكلا ما من أشكال التمثيل السياسي حتى لو كان ديكوريا.
ثالثا: تغير أنماط تراكم الثروة وتوزيعها
"
عجزت الدولة عن الاستمرار في الحفاظ على دعم الملايين من المواطنين بالطريقة التي بدأتها في مرحلة ما بعد الاستقلال فسحبت خدماتها بذريعة الإصلاحات الاقتصادية، فانتشرت لمعدلات الفقر وتصاعدت الحركات الاحتجاجية المضادة للسلطة وعلى رأسها الحركات الإسلامية
"
جاءت النيو ليبرالية في بداياتها الأولى تعبيرا عن التغيرات الاقتصادية التي بدأتها العديد من الدول العربية مثل مصر والمغرب والجزائر في محاولة منها لمواجهة وطأة الديون من ناحية والحصول على قروض جديدة من المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وفي مقابل ذلك كان على هذه الدول أن تطبق إصلاحات هذه المؤسسات الدولية الرامية لإحداث تغيير شامل في الواقع الاقتصادي وعلى رأسها تطبيقات الخصخصة وبرامج التكيف الهيكلي. وإذا كانت الدول السابقة قد لجأت إلى التعامل الرسمي مع المنظمات المالية الدولية فإن البعض الآخر قد قام بتطبيق الخصخصة والإصلاحات الهيكلية الاقتصادية المختلفة بدون تعامل مباشر أو رسمي مع هذه المؤسسات مثل السعودية ولبنان، وإن كان ذلك قد تم وفقا لمخططات تلك الهيئات الدولية والإجراءات المتبعة في الإصلاحات الاقتصادية.
وخطورة هذه السياسات الاقتصادية أنها كانت تنطوي على تغييرات جذرية للولاءات السياسية من قبل الدولة وعلى رأسها رفع يديها عن العديد من الخدمات الاجتماعية التي حافظت على تقديمها لسنوات طويلة للمواطنين من أبناء الطبقات الوسطى ومحدودي الدخل، وهو أمر قامت به الدولة في العديد من الدول العربية مثل مصر والمغرب والأردن.
لقد قدمت هذه الدول دعما مباشر وغير مباشر لسنوات طويلة للمواطنين في مجالات الصحة والتعليم والسكن، إضافة لتبنيها سياسات قومية واسعة خاصة بتعيين وتوظيف الخريجين وبشكل خاص في القطاع العام.
لكن الدولة ذاتها لم تستطع أن تستمر في الحفاظ على قدرتها على دعم الملايين من المواطنين بالطريقة نفسها التي بدأتها في مرحلة ما بعد الاستقلال؛ فمع حلول الثمانينيات بدأت الدولة سحب هذه الخدمات المقدمة للمواطنين بذريعة الإصلاحات الاقتصادية، وهو ما أدى لانتشار واسع لمعدلات الفقر في الكثير من الدول العربية وعلى رأسها مصر والمغرب، كما أدى لتصاعد الحركات الاحتجاجية المضادة للسلطة وعلى رأسها الحركات الإسلامية.
وفي الوقت الذي انسحبت فيه الدولة من دعم الطبقات الوسطى ومحدودي الدخل والفقراء فإنها بدأت في تبني الصفوات الجديدة الصاعدة مع الدولة النيو ليبرالية الجديدة وعلى رأسها رجال الأعمال الذين استفادوا بدرجة كبيرة من تحولات الاقتصاد المختلفة في تلك الدول، وعلى رأسها عمليات الخصخصة وبيع القطاع العام وتقويض شركاته المختلفة.
لقد أدى هذا الأمر لصعود قوى اقتصادية جديدة استفادت من الأوضاع الاقتصادية بدون أن يُخل ذلك بقوة الدولة وهيمنتها. وفي الخلاصة فقد جاءت تدخلات الدولة لصالح القوى الاقتصادية الجديدة والاستثمارات الخارجية أكثر منها لصالح الفئات العريضة من المواطنين.
رابعا: تغير أنماط الأمن الكوني
أدت التحولات السياسية والاقتصادية إلى تغيرات هائلة في الجوانب الأمنية في العالم العربي خصوصا بعد أن أصبحت مواجهة الإرهاب مسألة كونية، وما ترتب عليه من تدخل للقوى الخارجية في المنطقة. وتبرز التأثيرات الأمنية الكونية ربما بشكل أكثر وضوحا من التأثيرات الاقتصادية والسياسية بسبب ظهورها الحاد والظاهر والعلني في مرحلة ما بعد أحداث سبتمبر 2001 وما تلاها من اتساع دائرة الحرب على الإرهاب، وصولا إلى تدفق القوات الأميركية والدولية إلى المنطقة والغزو العلني المباشر للعراق 2003.
وربما يبرز لبنان هنا كمثال حي على مدى التدخل الأمني الكوني في المنطقة، ذلك التدخل الذي يعكس المصالح المتناقضة للعديد من الدول في لبنان مثل الولايات المتحدة وسوريا وإيران إضافة إلى تنظيم القاعدة نفسه. ومن بين العديد من القوى الكونية تبرز الولايات المتحدة كلاعب قوي ومؤثر بدرجات متفاوتة بين دول المنطقة. فبالنسبة لمصر، التي ارتبطت اقتصاديا بأميركا عن طريق المعونات السنوية التي وصلت منذ الثمانينيات وحتى الآن إلى ما يقرب من 60 بليون دولار، فإن ارتباطها بالولايات المتحدة يبدو استراتيجيا. فكل منهما يحرص على التأكيد على العلاقات القوية بالطرف الآخر، وإن كانت مصر تحرص على إبراز استقلاليتها بينما تحرص الولايات المتحدة على التأكيد على أهمية مصر بالنسبة لاستقرار المنطقة وضمان أمنها. وعلى العكس من ذلك تحاول السعودية أن تستقل أمنيا وأن تلعب دورا كبيرا في المنطقة كلاعب هام وأساسي اعتمادا على العوائد النفطية وقدرتها على التأثير على حجم الإنتاج النفطي العالمي.
ومن بين المؤسسات الأمنية الهامة التي يتناولها الكتاب مؤسسة الجيش باعتبارها أهم المؤسسات ذات العلاقة بالدولة منذ تأسيسها وحتى الآن. وينبع ذلك من كونها المؤسسة المدافعة عن الدولة بانتماءاتها القبلية والإثنية المعينة، كما أنها في بعض الأحيان تبدو تعبيرا عن حالة الانقسام المجتمعي الحاد مثلما الحال في لبنان.
وإذا كان الجيش يلعب دورا هاما ومؤثرا في الحفاظ على المستوى الأمني للدولة فإن الأجهزة الأمنية الأخرى تلعب دورا أكثر أهمية في السنوات الأخيرة في استمرار العديد من الأنظمة العربية واستقرارها في الحكم. فلم يكن من الممكن للعديد من الدول العربية الاعتماد على الجيش من أجل الحفاظ على الأمن والنظام في وجه أية تظاهرات أو جماعات احتجاج في العديد من الدول العربية، فقد ظل الجيش محافظا على الشكل العام الذي يضعه فوق الخلافات والاحتجاجات كمؤسسة وطنية بالدرجة الأولى.
ومن أجل ذلك كان البديل بالنسبة للعديد من الأنظمة العربية هو التوسع في أجهزة الأمن وتوفير كافة التجهيزات والمعدات الخاصة بها من أجل تأمين الجبهة الداخلية والقضاء على أية تمرد أو اعتصام أو مظاهرات. وهو ما أفضى بهذه الأجهزة الأمنية إلى ممارسات قمعية غير مسبوقة بلغت أقصي مستوياتها في التعذيب الممنهج ضد المعارضين مثلما الحال في مصر وسوريا وباقي دول المغرب العربي. وهذه الممارسات المتواصلة أدت بالدولة إلى تنفيذ برامج الخصخصة والتكيف الهيكلي من خلال سحق أية معارضة لها، كما أدت أيضا لتقليم أظافر المعارضة والحد من أية مشاركة سياسية، وأتاحت لها التخلي عن القطاعات الشعبية الواسعة، واختيار صفوات جديدة ومحدودة تتفق ورغبات الدولة وأهوائها.
خامسا: مستقبل تغيير الدولة في العالم العربي
"
سوف تستمر الدولة العربية في هيمنتها وإمكانية تحقيق أية تغيرات سياسية في عالمنا العربي محض هراء بدون مواجهات طبقية واجتماعية حقيقية يأتي في الصدارة منها مواجهة الدولة والصفوات الضيقة المرتبطة بها
"
يؤكد الكتاب، وهو محق بدرجة كبيرة، على أن الدولة ما زالت تمثل المصدر الرئيس للسلطة والسيطرة في العالم العربي على الرغم من أنها قد تترك بعض مهامها ووظائفها للقطاع الخاص، وتستخدم وسائل غير رسمية وغير مباشرة للحكم. فالملاحظ الآن أن الدولة في العالم العربي تتجه أكثر وأكثر نحو الفضاءات الخاصة والمحدودة ببعض الشرائح الاجتماعية وليس الفضاءات العامة التي تختص بشرائح اجتماعية أوسع، وهو ما يُطلق عليه "خصخصة الدولة". ورغم التفاوتات من دولة عربية لأخرى في مستوى هيمنة الدولة على مقاليد الأمور إلا أنها في النهاية تقبض على كافة شؤون الحكم وحركة المجتمع.
فالسعودية على سبيل المثال استمرت في شكل الحكم القائم على رعاية الأفراد في ظل غياب أية قوى أخرى مثل رجال الأعمال أو الطبقات الأخرى عن القيام بأية أدوار اجتماعية، إلى الحد الذي يصل بالبعض إلى القول بأن التاريخ السعودي هو تاريخ الدولة السعودية ذاتها. والملاحظة الجديرة بالذكر هنا أنه لم تظهر أية قوة أخرى مناوئة للدولة السعودية أو حتى رغبت في العمل بعيدا عنها على المستوى المحلي. ورغم أن النظام السعودي قام بمحاولات من أجل التغيير السياسي وعلى رأسها إنشاء مجلس الشورى السعودي كمحاولة من أجل مأسسة الجدل الشائع حول التصحيح السياسي في المملكة إلا أن نظام الحكم اعتمد على قدرة الدولة على خلق مجموعات مصالح عديدة بما يضمن احتكارها النهائي للقوة من خلال السيطرة على كل هذه الجماعات وتوجيهها وفقا لمصالح الدولة.
وفيما عدا لبنان فإن الدولة متطورة جدا في كل مكان في العالم العربي حيث تهيمن على الحياة المؤسسية الرسمية في المجتمع وتلعب دورا كبيرا في حياة البشر، وربما يظهر ذلك بشكل واضح في الدول الخليجية التي تمتلك من الأموال ما يمكنها من رعاية المواطنين وسيادة النموذج الأبوي في أوضح تجلياته. وهذه الإمكانيات ساعدت الدولة في الخليج على تلافي الضغوط الكونية التي ارتبطت بالمؤسسات الدولية من أجل تطبيقات الليبرالية وعلى الأخص في شكليها الاقتصادي والسياسي، وهو وضع يتعارض مع ما حدث في دول شمال أفريقيا التي قبلت بمثل هذه الضغوطات الكونية من أجل الحصول على القروض وتلافي أية اضطرابات داخلية يصعب السيطرة عليها.
ومن الغريب في الأمر أن تطبيقات الليبرالية جاءت متوافقة مع النهج السعودي الذي يرتبط بسياسات الدولة القائمة على الأقلية الرعوية ولم يعرضها لأزمة شرعية، مثلما الحال في الكثير من الأنظمة العربية الأخرى التي ارتبطت بهذه التطبيقات واضطرت لإعادة تشكيل العديد من المؤسسات المختلفة في الدولة وهو ما عرضها في النهاية لأزمة شرعية عميقة. وتعتبر مصر وسوريا والجزائر أمثلة واضحة على هذه النوعية من الدول حيث قامت بتفكيك نظمها الشعبوية السابقة في الوقت نفسه الذي واجهتها صعوبات هائلة في التحول نحو الليبرالية بسبب ما أحدثته من أزمة شرعية داخلية وخارجية. وعلى العكس من ذلك وجدت كل من السعودية والمغرب والأردن ودول الخليج الأخرى نفسها مستمرة في نظام الإشراف الكامل على الحياة السياسية والاقتصادية من قبل الدولة بدون أن يسبب ذلك لها أية إحراج، فكان ذلك الوضع أقرب للاستمرار منه للتغيير، مع الوضع في الاعتبار أن كل الأنظمة العربية لم تحقق تغييرا سياسيا حقيقيا يذكر طوال العقود الثلاثة الماضية.
إن العامل الوحيد الذي يطرحه الكتاب للتغيير لن يتم من خلال الصفوات التابعة للدولة والمستفيدة منها بقدر ما يمكن أن يتم من خلال الضغط الشعبي من أسفل الذي يمكن أن يدفع هذه الصفوات المستفيدة للقيام بأدوار جديدة من أجل مواجهة الدولة وتحقيق تغير سياسي حقيقي. وإن كان يطرحه بدون أن يوضح الكيفية التي يمكن من خلالها إعادة تسييس الجماهير والكيفية التي يمكن أن تتحول بها الصفوات العربية الانتهازية لقوى جديدة قادرة على مواجهة الدولة وتحقيق التغيير. وهو أمر يؤدي لاستنتاج مفتوح بأن الدولة العربية سوف تستمر في هيمنتها، وأن إمكانية تحقيق أية تغيرات سياسية في عالمنا العربي محض هراء بدون مواجهات طبقية واجتماعية حقيقية يأتي في الصدارة منها مواجهة الدولة والصفوات الضيقة المرتبطة بها.
نوافذ:
اسم الكتاب: الدولة العربية والعولمة النيو ليبرالية: إعادة تشكيل قوة الدولة في الشرق الأوسط
تحرير: لورا جوزوان و دانيلا بايوبي
نشر:دار إثاكا، المملكة المتحدة
الترقيم الدولي: 9780863723391
عدد الصفحات: 388
The Arab State and Neo-Liberal Globalization: The Restructuring of State Power in the Middle East
Edited by: Guazzone, Laura; Pioppi, Daniela
Published by Ithaca Press
ISBN: 9780863723391
Pages: 388
_______________
كاتب مصري
المصدر:مركز الجزيرة للدراسات
الأحد 1/2/1431 ه - الموافق17/1/2010 م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.