"بلاي اوف" الرابطة الاولى.. التعادل يحسم كلاسيكو النجم الساحلي والنادي الإفريقي    مجلس نواب الشعب يشارك في المؤتمر الخامس لرابطة برلمانيون من اجل القدس    عميد المحامين يوجه هذه الرسالة إلى وزارة العدل..    انتخابات جامعة كرة القدم: إسقاط قائمة واصف جليل وإعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    طقس الليلة    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    بطولة المانيا: ليفركوزن يحافظ على سجله خاليا من الهزائم    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    القلعة الكبرى: اختتام "ملتقى أحباء الكاريكاتور"    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    سوسة: وفاة طالبتين اختناقا بالغاز    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    الشركات الأهلية : الإنطلاق في تكوين لجان جهوية    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    اكتشاف أحد أقدم النجوم خارج مجرة درب التبانة    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    تخص الحديقة الأثرية بروما وقصر الجم.. إمضاء اتفاقية توأمة بين وزارتي الثقافة التونسية و الايطالية    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    كاردوزو يكشف عن حظوظ الترجي أمام ماميلودي صانداونز    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أركون وحوار الأديان والحضارات


بقلم - هاشم صالح
كلمته مسموعة في فرنسا وخارجها
المتطرفون في العرب والعالم الإسلامي يريدون إشعال حرب الحضارات
أركون أحد الحكماء الذين يحاولون اليوم إقامة جسور التفاهم بين الغرب والشرق لكنه يعرف أنها عملية صعبة ومعقدة
العداء ابتدأ منذ ظهور الإسلام واكتساحه لمناطق واسعة كانت مسيحية كسوريا الكبري والعراق وسواها
مؤلفات طه حسين أعظم اكتشاف لأركون فهو الذي حسم توجهاته الفكرية وقاده إلي الانخراط في الخط النقدي الجذري للموروث العربي الإسلامي
أين هو العربي أو المسلم القادر علي قبول الآخر في المطلق، أي الغرب المتجسد بإسرائيل وحليفها الأمريكي غير المشروط؟!
اللاهوت اليهودي مدعو اليوم كاللاهوت المسيحي أو الإسلامي إلي إعادة النظر.. بجميع عقائده الموروثة عن العصور الوسطي

بقلم - هاشم صالح
أعتقد ان الشيء الذي يخيف محمد اركون ليس فقط نمو الحركات الاصولية المتطرفة عندنا وانما ايضا رد فعل اليمين المتطرف الاوروبي والامريكي عليها. فمن قصة الصور الكاريكاتورية المخجلة في الدانمارك الي تصريحات ممثلة اليمين المتطرف النمساوي او النائب الهولندي ضد الاسلام وقرآنه ونبيه الكريم نلاحظ ان المتطرفين في كلتا الجهتين يريدون بأي شكل اشعال حرب الحضارات بين العالم الإسلامي والغرب.ولكن لحسن الحظ فان رئيس النمسا وبقية قادة الدولة الكبار ردوا بقوة علي تلك التصريحات وأفحموها. وكذلك فعلت الطبقة السياسية الهولندية المستنيرة من يمين ويسار. وقد سمعت مؤخرا بان وزيرة خارجية النمسا السيدة أورسولا بلاسنيك حضرت صلاة الجمعة مع مفتي الجمهورية الشيخ العقلاني المستنير احمد حسون اثناء زيارتها الرسمية لسوريا. وهذا دليل علي رغبة الاوروبيين في تطويق الحادث ومنع المتطرفين من تحقيق مآربهم. والواقع ان اركون يلعب دورا في هذا المجال من خلال محاضراته وتدخلاته في اوساط الاتحاد الاوروبي ومؤتمراته التي تعقد من حين لآخر عن هذا الموضوع الخطير. وكلمته مسموعة من قبل المسؤولين السياسيين او الثقافيين ليس فقط داخل فرنسا وانما خارجها ايضا. فهو أحد الحكماء الذين يحاولون اليوم اقامة جسور التفاهم بين الغرب والشرق او بين العالم العربي ومن ورائه العالم الإسلامي ككل، واوروبا. ولكن اركون يعرف ان العملية صعبة ومعقدة وطويلة. فهناك جهل متبادل وسوء تفاهم تاريخي كبير بين الطرفين. وهو جهل مؤسساتي كما يدعوه: أي مرسخ من قبل المؤسسات الرسمية للدولة كالمدارس والجامعات ووسائل الاعلام. كل طرف يقدم عن الطرف الآخر صورة مشوهة او ناقصة او متحيزة. وهكذا فلا نحن نعرف ماهو الغرب بشكل حقيقي ولا هم يعرفون من هم العرب او ما هو تاريخ الاسلام بشكل حقيقي. والجهل بالآخر يولد عادة الخوف منه اوالعداء له.
أعتقد شخصيا ان اركون يعتبر نفسه بمثابة وسيط ثقافي بين كلتا ضفتي البحر الابيض المتوسط.: أي بين العالم العربي الإسلامي واوروبا. فبسبب من أصوله الجزائرية او المغاربية فانه حساس جدا لهذا الموضوع. ويتمني من كل قلبه ان يحل التفاهم والوئام محل العداء المستحكم تاريخيا والمستمر حتي هذه اللحظة بدءا من الحروب الصليبية وانتهاء بالصراع العربي الاسرائيلي المدمر. بل ان العداء ابتدأ قبل ذلك: أي منذ ظهور الاسلام في القرن السابع الميلادي واكتساحه لمناطق واسعة كانت مسيحية كسوريا الكبري ومصر والعراق وسواها. وعندئذ اندلعت الحروب مع بيزنطة علي مدار عدة قرون..
ولذا فان العديد من بحوثه تتركز حول العوامل الثقافية المشتركة التي تجمع بين شعوب الضفة الغربية الشمالية والضفة الجنوبية الشرقية لحوض البحر الابيض المتوسط. وهذا الحوض الجميل الواسع يشمل دينيا وثقافيا ليس فقط الشعوب الواقعة بالفعل علي ضفافه وانما كل الشعوب العربية والاسلامية بما فيها الخليج العربي وايران وبالطبع تركيا. بل ويشمل حتي افغانستان والباكستان. بعدئذ تبتديئ شعوب الشرق الاقصي وأديانها المختلفة جذريا عن دين التوحيد: كالبوذية والهندوسية والكونفوشيوسية والشنتو اليابانية وسوي ذلك. وهو بذلك يمشي علي خطي عميد الادب العربي الذي نشر كتابه المعروف عن مستقبل الثقافة في مصر عام 1937. والواقع ان محمد اركون يجد نفسه في ابن رشد سابقا واحمد امين وطه حسين حاضرا من جملة آخرين بالطبع. وقد اعترف اكثر من مرة في مقابلاته الصحفية بمديونيته لهؤلاء المفكرين الكبار. وقال بان اكتشافه لمؤلفات طه حسين عندما كان لا يزال طالبا في كلية الآداب بالجامعة الجزائرية هو أعظم اكتشاف بالنسبة له وهو الذي حسم توجهاته الفكرية لاحقا وقاده الي الانخراط في الخط النقدي الجذري لكل الموروث العربي الإسلامي بعد ان وصل الي السوربون. ومعلوم ان طه حسين عرف كيف يربط مصر والفكر العربي ككل بحوض البحر الابيض المتوسط وحضارته الممتدة منذ اليونان والرومان وحتي حضارة اوروبا الحديثة. فأقاموا عليه الدنيا وأقعدوها واتهموه بشتي التهم والنعوت: عميل للغرب، متنكر لأصوله العربية الاسلامية، خائن للتراث، الخ.. لماذا ايها السادة الكرام؟ ألم تكن حضارتنا الكلاسيكية او ما ندعوه بالعصر الذهبي عبارة عن تفاعل خلاق مع الفلسفة اليونانية بعد المأمون والترجمات الكبري؟ ألم تنهض حضارتنا الحديثة علي يد محمد علي بعد الاتصال باوروبا والاستفادة من علومها وخبراتها؟ أين هو العيب في ذلك؟ بل ان الحضارة الاوروبية نفسها ما كان لها ان تنهض وتزدهر لولا الاندلس وترجمة علمائنا وفلاسفتنا الي اللاتينية في طليطلة وسواها من مراكز الترجمة الاوروبية آنذاك. لقد ترجمونا مثلما ترجمناهم ونقلوا عنا مثلما نقلنا عنهم. نعم لقد أخذوا عنا وأخذنا عنهم في تفاعل جدلي مبدع حول هذه البحيرة الجميلة التي تفصل بيننا وبينهم والتي تدعي: البحر الابيض المتوسط. ولذا فان اركون ما انفك منذ خمسين عاما يدين نزعات الحقد والجهل التي تحاول ان توهمنا بان الاوروبيين من طينة تختلف جذريا عن طينتنا وحضارتنا. انهم لا يرون الا ما يفرق ويتجاهلون ما يجمع. وهذه هي سمة كل نزعات التعصب القومي او الديني. وما يجمع بيننا شيئان او ثلاثة أشياء أساسية: الارث الديني التوحيدي(أي المسيحية في جهتهم والاسلام في جهتنا) زائد الفلسفة اليونانية التي نحن الذين نقلناها لهم زائد الحضارة العلمية والتكنولوجية الحديثة التي اصبحت بحجم العالم والتي كانت من صنعهم. ولذا فان العديد من أبحاث اركون تتخذ العناوين التالية: راهنية الثقافة المتوسطية، اعادة التفكير في الفضاء المتوسطي، نحو توحيد الفكر في حوض البحر الابيض المتوسط الخ..ويمكن القول بان المشاريع السياسية المعاصرة من مؤتمر برشلونة الي فكرة الاتحاد الاوروبي المتوسطي التي أطلقها ساركوزي مؤخرا ليست غريبة عن هذا الاتجاه الفكري الذي شقه المؤرخ الشهير فيرنان بروديل أحد مرجعيات اركون الأساسية بالاضافة الي طه حسين.
عندما كنت أتهيأ لكتابة هذا البحث وصلني نص من اركون بالايميل يحمل العنوان التالي: صورة الآخر. مدخل الي فهم معضلة الصراع او سوء التفاهم بين الاسلام والغرب. وفيه يتحدث عن الصورة المشوهة للآخرعندنا، أي الغرب في الواقع، والصورة المشوهة للآخر عندهم: أي نحن المسلمين والعرب بالدرجة الأولي. ولكنه يعمق الموضوع اكثر كعادته ويتحدث عن رؤية الآخر في التراث الديني وصورته في التراث الفلسفي. فالدين قدم صورة عن الآخر المختلف والفلسفة قدمت صورة اخري. وللوهلة الاولي نلاحظ ان هناك قبولا واحتراما للآخر في كلا التراثين الفلسفي والديني. ولذا فاننا نحتار في سبب كره الآخر واستمرارية هذا الكره علي الرغم من نهي الدين والفلسفة عنه. يحصل ذلك كما لو ان النصوص المثالية في جهة والواقع العملي علي الارض في جهة اخري. لننظر الي الاديان اولا. نلاحظ انها جميعها تدعو الي احترام الآخر. ففي اليهودية نجد ان التوراة تنص علي ما يلي: لا تفعل لأخيك ما تكره ان يفعله لك. هنا توجد الشريعة كلها والقانون كله. كل ما عدا ذلك تفاصيل..
وأما الانجيل فقد وصل به الأمر في السلام والمحبة الي حد الاستسلام كما تقول العبارة الشهيرة التالية: من ضربك علي خدك الايمن فأدر له الأيسر. ثم يقول: ما تحبون ان يفعله الآخرون لكم افعلوه بالنسبة لهم.وأما القرآن الكريم فقد نص علي هذه القيم او ما يشبهها في آيات بينات: ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين وآتي المال علي حبه ذوي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الزكاة والموفون بعدهم اذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون(البقرة،177). ثم ايضا هذه الآية: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات الي الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون(المائدة،48). وجاء في الحديث النبوي الشريف ما يلي: لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
هذا ما تقوله النصوص الدينية الكبري والآن نطرح هذا السؤال: ما الذي تقوله النصوص الفلسفية الكبري حول موضوع الآخر؟ هل يختلف موقفها عن موقف الأديان يا تري ام لا؟ يقول كانط كبير فلاسفة التنوير الاوروبي والمرجعية المركزية لكل الفلسفة السياسية الحديثة التي أدت الي ترسيخ حقوق الانسان بل وتأسيس الأمم المتحدة والأخلاق الكونية: تصرف تجاه الآخرين بالطريقة التي تحب ان يتصرف الآخرون تجاهك بها. تصرف تجاه الآخر دائما وكأنه غاية بحد ذاته لا وسيلة ولا رجل كرسي تتلاعب به كما تشاء..تصرف تجاهه ككائن له كرامة او كشخص بشري يستحق الاحترام. تصرف في سلوكك اليومي بطريقة تجعل من هذا التصرف وكأنه قانون كوني ينطبق علي الجميع. تصرف بطريقة وكأنك تعامل البشرية كلها من خلالك ومن خلال الآخر كشخص يشكل غاية بحد ذاته لا وسيلة.
هذا ما يدعوه الشراح بالمبدأ الاخلاقي الاعلي لايمانويل كانط او بالأمر المطلق القطعي الذي ينبغي ان نتقيد به لكي يصبح سلوكنا أخلاقيا بالفعل. من المعلوم ان تصور كانط كان مضادا للتصور اليوناني الفلسفي القديم فيما يخص هذه المسألة. فهدف الانسان علي هذه الارض ليس ان يكون سعيدا في نظره وانما ان يكون أخلاقيا. والعمل الأخلاقي بالنسبة له ينبغي ان يحاكم ليس علي أساس مردوده ونتيجته وانما علي أساس بواعثه ودوافعه. فاذا كان الباعث هو النية الطيبة فانه يكون صحيحا وعادلا والا فلا. وبالتالي فالمبدأ الاخلاقي القطعي لكانط يعني في نهاية المطاف تأدية الواجب تجاه الآخر سواء أكان هذا الآخر فردا واحدا ام الدولة ام المجتمع ام المصلحة العامة سمه ما شئت. وهنا نلاحظ ان التصورات الاخلاقية لكانط ليست الا علمنة للتصورات الدينية التي ذكرناها سابقا. انه ينص عليها بطريقة فلسفية محضة لا بطريقة وعظية لاهوتية. وبالتالي فهناك تطابق بين النص الديني والنص الفلسفي مع فارق واحد هو: ان كانط يتجه الي البشرية كلها في حديثه ولا يفرق بين مؤمن وكافر، او مسيحي ومسلم، او يهودي وغير يهودي لخ..انه يقصد الجنس البشري بأسره دون أي تمييز عرقي او طائفي. وهنا تكمن قطيعة الحداثة الكبري بالقياس الي العصور السابقة او العصور الوسطي. في الواقع ان النصوص الدينية الكبري من قرآنية وتوراتية وانجيلية تحتوي في بعض مقاطعها علي هذا المقصد الكوني الشامل. انها مفتوحة علي بني آدم: أي علي البشرية ككل. ولكن فقهاء المسلمين وحاخامات اليهود وخوارنة المسيحية قلصوا معناها وحصروها فقط بأبناء طائفتهم. وهكذا اصبح الآخر الذي يستحق الاحترام ويمتلك كافة الحقوق هو ابن طائفتي ومذهبي فقط. وهنا يعترف محمد اركون بأن الآخر كشخص بشري له كرامة وحصانة شخصية لا ينبغي انتهاكها بأي شكل هو عبارة عن احدي مكتسبات الفكر التنويري الحديث. في السابق ما كان يخطر ابدا علي بال اليهودي او المسيحي او المسلم ان الآخر يستحق الاحترام والتقدير ان لم يكن يهوديا او مسيحيا او مسلما. كان يعتبر بحسب التقييم اللاهوتي بمثابة الكافر او المنحرف او الزنديق او أهل الذمة في أحسن الأحوال. فاليهود شكلوا لاهوتا يفرق بين شعب الله المختار/وبقية الأمم المعتبرين بمثابة المشركين او الوثنيين. والمسيحيون كفروا كل الأديان الأخري طيلة العصور الوسطي وقالوا: خارج الكنيسة المسيحية لا نجاة في الدار الآخرة ولامرضاة عند الله. واما فقهاء المسلمين فقد قسموا البشرية ايضا الي مؤمن وكافر، مسلم اوغير مسلم، دار الاسلام ودار الكفر او الحرب. صحيح انهم حموا أهل الكتاب باعتبارهم أهل ذمة ولكنهم أخضعوهم لشروط مهينة من خلال قانون الجزية وسواه. نقول ذلك علي الرغم من انهم كانوا أرأف من سواهم بالآخر المختلف دينيا كما يقول اركون. ولكن بالطبع فان عقلية القرون الوسطي لم تكن تسمح بالمساواة بين المسلم وغير المسلم. هذه حقيقة مؤكدة. وانها لمغالطة تاريخية ان نزعم عكس ذلك. كما انه من الاجحاف ان نطالب العصور السابقة بتطبيق اشياء ما كان ممكنا معرفتها ولا تطبيقها الا في العصور اللاحقة وبعد انتصار التنوير والثورات السياسية الحديثة من انكليزية(1688)، وامريكية(1776)، وفرنسية(1789). فهي التي أعلنت الحقوق الانسانية بالمعني الحديث والكوني للكلمة: أي بغض النظر عن أصل الانسان وفصله، او عرقه وطائفته ومذهبه. وبالتالي فكفانا اسقاطا للحاضر علي الماضي، وهو ما ندعوه بالمغالطة التاريخية. هذا المفهوم الواسع للانسان ما كان ممكنا في ظل العصور السابقة اثناء سيطرة الفقه القديم او الانظمة اللاهوتية الثلاثة: من يهودية ومسيحية واسلامية. لقد لزم علي فلاسفة التنوير في اوروبا ان يفككوا المعتقدات الكنسية والمسيحية القديمة لكي يبنوا علي أنقاضها مفهوم حقوق الانسان بالمعني الحديث للكلمة. وهذا العمل لم يحصل حتي الآن في الجهة الاسلامية او العربية. ولذلك فان الأقليات المسيحية عندنا تشكو من التمييز ضدها فيما يخص العمل والتوظيف وبقية الحقوق المدنية او حقوق المواطنية. والواقع ان مفهوم المواطنية بالمعني الحديث للكلمة غير موجود عندنا حتي الآن. الشيء الموجود هو شخص ينتمي غصبا عنه الي هذه الطائفة او تلك، او هذا المذهب او ذاك، او تلك القبيلة او العشيرة. وبالتالي فلا يوجد شخص فرد عندنا كما هو عليه الحال في الغرب. والانسان لا يقيم من خلال ميزاته الشخصية بقدر ما يقيم من خلال هذه الانتماءات السابقة عليه والتي لا حيلة له بها. ولذلك يقول العلماء باننا ننتمي الي مجتمعات ما قبل الحداثة لا الي مجتمعات الحداثة وذلك علي عكس دول اوروبا الغربية المتطورة.
ولكن اركون يعيب علي الغرب، وبشدة، انه تنكر لهذه المباديء التنويرية اثناء المرحلة الاستعمارية عندما عامل أبناء المستعمرات كوسيلة لا كغاية بحد ذاتها. بل واحتقر أديانهم وثقافاتهم ولغاتهم وعاملهم كأناس بدائيين واحتقر كرامتهم الانسانية في عمق أعماقهم. وارتكب مجازر اجرامية ايضا. وهي المجازر التي اعتذر عنها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مؤخرا. ولكن ليس بالشكل الكافي فيما يخص الجزائر. وهكذا خرج الغرب علي المباديء الاخلاقية الكانطية وانتهكها صراحة. ونحن اذ نقول ذلك لانحاكم الغرب من خلال معايير عربية او اسلامية وانما من خلال معاييره الخاصة بالذات.
ولكن اركون لا ينتقد الغرب فقط وانما ينتقد ايضا التصلب العقائدي السائد عندنا من خلال تيارين أساسيين: التيار القومجي المتعصب شوفينيا والتيار الاصولي المتعصب دينيا. ثم يطرح هذا السؤال: أين هو العربي او المسلم القادر علي قبول الآخر في المطلق: أي الغرب المتجسد بدولة اسرائيل وحليفها الامريكي غير المشروط؟ بالطبع فانه يعترف بان الحق يقع اولا علي اسرائيل التي تمارس قمعا غير مسبوق علي شعب فلسطين. كما ويقع الحق علي ادارة بوش والمحافظين الجدد ومغامراتهم الحربية وحلولهم العسكرية المتطرفة لمشاكل تتطلب حلولا أخري اكثر انسانية وتفهما. ولكن المسؤولية تقع ايضا علي التيار الشعبوي الديماغوجي المسيطر عندنا والذي يشيطن الآخر الي أقصي حد ممكن ولا يعترف به كانسان. انظر مصطلح الشيطان الأكبر عند الخمينيين او الاصوليين عموما. فالآخر يتحول ضمن هذا المنظور الي وحش لا انساني بالمرة. انه الشر المطلق. وأعتقد ان محمود درويش طرح مرة مصطلحا هاما هو: أنسنة العدو، فأقاموا عليه الدنيا وأقعدوها وقالوا بانه يجامل اليهود من اجل نيل جائزة نوبل! ينبغي الاعتراف بانه يصعب جدا أنسنة اسرائيل في الوقت الذي ترتكب فيه كل هذه الفظائع في غزة..
وبالتالي فكيف يمكن لحوار الاديان او الحضارات ان ينهض في مثل هذا الجو؟ كيف يمكن الا تتسع الشقة بيننا وبين الغرب ويصبح أي تفاهم أمرا صعبا جدا ان لم يكن مستحيلا؟ ونحن المثقفين العرب او المسلمين سجناء هذا الوضع ولا نستطيع منه فكاكا. ولهذا السبب لا يمكن للفكر النقدي الحر ان ينتشر في العالم العربي كما ينبغي. ما دام جرح فلسطين نازفا وقضيتها لم تحل فلا أمل في ظهور فكر عربي جديد عندنا.
وفيما يخص اليهود يدعوهم اركون الي الخروج من السجن اليهودي علي حد تعبير المفكر المستنير جان دانييل. كما ويدعوهم الي الخروج من عقلية الضحية وعدم استغلال المحرقة الشهيرة لأغراض انتهازية او سياسية وبشكل مبالغ فيه ومفرط ومزعج. انظر بهذا الصدد تصرفات المثقفين اليهود في الساحة الباريسية من أمثال الان فنكيلكروت او برنار هنري ليفي او اندريه غلوكسمان او سواهم..ويري اركون ان اللاهوت اليهودي مدعو اليوم، تماما كاللاهوت المسيحي او الإسلامي، الي اعادة النظر بجميع عقائده الموروثة عن العصور الوسطي: كعقيدة الاصطفاء التي تقول بانهم شعب الله المختار وانهم من طينة وبقية البشر من طينة أخري. وكذلك ينبغي ان يتخلوا عن اعتقادهم باحتكار الوحي الصحيح لانفسهم فقط او الاعتقاد بان دينهم هو وحده الصحيح وكل الاديان الأخري علي ضلال. وينبغي ان يعترفوا ايضا بانهم استخدموا الدين لأغراض سياسية تماما كما تفعل الحركات الاصولية الاسلامية حاليا. نعم لقد استخدموا النصوص التوراتية لخلع المشروعية الالهية علي مشروع سياسي محض بل وكولونيالي: هو احتلال فلسطين وانشاء دولة علي أرضها وطرد شعبها. هذه الافكار وردت في دراسة للباحث تحمل العنوان التالي: الاديان التوحيدية علي أفق 2010
ويري اركون ان المقدس اليهودي استخدم من اجل ارتكاب العنف او تبريره تماما كالمقدس الإسلامي او المسيحي ابان الحروب الصليبية. وبالتالي فكفانا تنديدا بالاصولية الاسلامية ونسيان الاصوليات الأخري. هذا موقف غير متوازن ويعني الكيل بمكيالين. وهنا يركز صاحب نقد العقل الإسلامي علي العلاقة الكائنة بين ثلاثة اشياء: الحقيقة والمقدس والعنف. كل الاديان ارتكبت في لحظة ما من تاريخها العنف باسم المقدس وامتلاك الحقيقة المطلقة. فاذا كنت أمتلك الحقيقة المطلقة المقدسة المتعالية فانه يحق لي ان أقتلك اذا لم تعتنقها فورا. وبالتالي فهناك دائما علاقة بين المقدس والعنف. وقد استخدم الدين علي مدار التاريخ لتبرير العنف. انظر مثلا حروب المذاهب المسيحية في اوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت. نقول ذلك علي الرغم من انهم ينتمون الي نفس الدين. ويمكن ان نقول الشيئ ذاته عن الحروب التي جرت بين المذاهب الاسلامية، او بين الاسلام والمسيحية، او بين اليهود والمسيحيين الخ..وحدهم المسيحيون في اوروبا الغربية المتقدمة تجاوزوا الاصولية العنيفة الي غير رجعة. وذلك بفضل التقدم العلمي والصناعي والفلسفي والاقتصادي الذي تحقق في بلادهم علي مدار القرون الثلاثة المنصرمة. ثم بفضل النقد الجذري للدين علي يد فلاسفة التنوير ومن تلاهم حتي يومنا هذا. ولكن ليست هذه هي حالة المسيحية الشرقية او اليهودية او الاسلام. فهنا يمنع نقد العقائد الدينية منعا باتا. ولذلك يبقي المقدس عندنا مفعما احيانا بشحنة التعصب والعنف والانغلاق الشديد.
من هنا ضرورة فهم الدين بشكل نقدي حر ومع اتخاذ مسافة عن عقائدنا الاكثر حميمية لكي نتحاشي كل ذلك: أي لكي نتحاشي التعصب والاكراه في الدين. ينبغي علينا ان نفهم الدين بشكل وسطي، عقلاني،لا يخلو من النزعة الانسانية والرحمة والمحبة. وهذا افضل علاج ضد الاصوليات من كل الانواع والأصناف.

الإثنين3/3/2008
الراية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.