قال خطيب المسجد في خطبة الجمعة لهذا الأسبوع: إنّ إخوتنا في الله اليهود، (وهو الإمام الخطيب الوحيد الذي سمعته يستعمل هذا التعبير في عصرنا)، يحسنون الذّبح لأنّهم يحدّون جيّدا مُديتهم ويذبحون ذبيحتهم في جرّة واحدة كي لا تشعر بالألم إلاّ بعد الذّبح. وقال: إن النّصارى يخنقون الحيوان خنقا. وأضاف أن الحيوان المفترس لا يفترس إلاّ إذا جاع ولا يسفك دما وهو شبعان، واستند إلى دراسة مفادها أنّ الحيوانات المفترسة تقدّم خدمة للطبيعة إذ إنّها تسهم في الحفاظ على التوازن الإيكولوجي بتخليص البيئة من الحيوانات المريضة والمصابة التي يمكن أن تتسبّب في إنتاج المكروبات ونشر الأوبئة. في نفس اليوم الذي ألقى فيه الإمام خطبته طالعتنا الأنباء بخبر اغتيال محمود المبحوح أحد قادة الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس في أحد الفنادق بإمارة دُبي، بطريقة تحمل كلّ علامات الاحتراف في القتل، ويرجّح المختصّون في قضايا الشّرق الأوسط والصّراع العربي الإسرائيلي والقضايا الأمنيّة وقضايا الاغتيال السياسي أن يكون جهاز الموساد الإسرائيلي وراء تدبير وتنفيذ هذه الجريمة. فشخصيّة في مثل قامة الشّهيد محمود المبحوح لو دهستها سيّارة في الطّريق العامّ أو ضربتها صاعقة لاستدعى الأمر التّثبّت إن كان وراء الحادثة تدبير عمليّة اغتيال، فما بالك والزّمان والمكان والسّياق والأسلوب والفاعلون والهدف والغايات.. كلّها تشير وتصرّح بأنّ ما حدث جريمة منظّمة تقف وراءها أجهزة متطوّرة وإمكانات دولة إن لم يكن أكثر. إنّ المقاومة الفلسطينيّة النّظيفة وشعبها الفلسطيني المجاهد هدف مفضّل لمن يتقنون القتل ويحكمون الخنق والحصار ويوقعون الألم بالنّساء والأطفال والمستضعفين وليس من وراء ذلك توازن بيئي ولا إقليمي بل هي شهوة القتل أحيانا لسلب حقّ واستمرار مظلمة وأحيانا أخرى لأجل القتل. إنّي أقدّر حجم الحرج الذي تشعر به إمارة دبي ومدى الألم والصّدمة اللذين أصابا قلوب ونفوس الإماراتيين. لأنّنا عشنا في تونس قبل عشرين عاما حدثا مشابها تمثّل في اغتيال الشّهيد خليل الوزير (أبوجهاد) على يد عصابة من الموساد تسلّلت إلى مقرّ سكناه بإحدى ضواحي العاصمة تحت جنح الظّلام فخرّبت جسده الطّاهر بعشرات الرّصاصات قبل أن تلوذ بالفرار في زوارق بحريّة سريعة. فقد كانت الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة، في أوج تفجّرها وتأثيرها، إذ أوجدت حالة فلسطينية وإسلاميّة وعربية غير مسبوقة من التّأهّب لإحياء القضيّة الفلسطينيّة واقتلاع وجود وشرعيّة الكيان الصهيوني المحتلّ. وكان أبوجهاد أبرز مهندسي الانتفاضة وملهميها فكان الإرهاب الصّهيوني العابر للقارّات له بالمرصاد، فتحيّن ظرفيّة ملائمة وغفلة ما ليوقع إحدى أشهر جرائمه ليصيبنا بالذّهول ويشعرنا بالعجز ويصيب الانتفاضة وأبطال المقاومة بالإحباط، وهو اليوم إذ يكرّر نفس السيناريو عدا بعض التّفاصيل يثبت أنّ سياسة القتل الانتقائي ما تزال نهجا قائما عند خلف شارون وأولمرت، كما أنّ تألّق المقاومة الفلسطينية بفصائلها المختلفة ميدانيّا وسياسيّا رغم الحصار والمؤامرات يؤكّد أنّ الإحباط واليأس لا يجدان طريقهما إلى الشّعب الأعزل الذي يكسب كلّ يوم أصدقاء جددا يمدّونه بشريان الحياة ويكسبون الكيان الصهيوني وحلفاءه أعداء جُددا ينقمون على سياسته ويدينون جرائمه. ليس صحيحا أنّ إسرائيل تثأر ممّن قتل وأسر جنودها رغم أنّ الانتقام عقيدة عند قادة الكيان المحتلّ وقائمة الشّهداء طويلة جدّا والموساد يلاحق الثّوّار والمقاومين وحتّى العلماء والمثقّفين الملتزمين في كلّ مكان.. لكنّ استهداف المقاومين ليس فقط انتقاما بدائيّا بل هو رهان سياسيّ وعسكري ويجوز أن نطلق على التّصفية الجسديّة لقادة المقاومة أنّه قتل استراتيجي أي يُراد منه تحقيق أهداف استراتيجية تتعلّق بمجرى الصّراع وبموازين القوى، بل يمكن أن تتعدّى ذلك إلى استهداف الحالة المعنويّة والتّكوين النّفسي والثّقافة السّياسيّة السّائدة في ساحة النّضال الفلسطيني. ولتحقيق مثل هذه الأهداف أو التّمهيد لها يقبل جهاز الموساد والحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة المجازفة بالضّرب خارج فلسطين متحمّلا تبعات ذلك أو غير عابئ بها خاصّة وأنّ الرّأي العامّ الإسرائيلي يدعم تلك العمليّات الخاصّة لأنّها تعيد له بعض التّوازن بعد مرحلة من الشّكّ بدت له فيها الحكومة الصّهيونيّة متردّدة والقادة العسكريّون يخبطون خبط عشواء أمام المقاومة الباسلة، في لبنان وفلسطين، الواثقة من عدالة قضيّتها ومن انتصار أصحاب الحقّ وعودة الحقّ إلى أصحابه. إنّ إمارة دبيّ إمارة آمنة وليست قاعدة خلفيّة للمقاومة وهي منطقة تجاريّة وخدماتيّة حرّة ومفتوحة، والمعروف عنها أنّ أجهزتها الأمنيّة على درجة عالية من الكفاءة والدّراية الدّقيقة بكلّ ما يجري على ترابها، وقد تكون مستهدفة كمركز تجاري عالمي خاصّة بعد أن بدأت تتعافى من أزمتها الماليّة الأخيرة، لكنّ النشاط الاستخباري الصّهيوني قائم، على الأرجح، في كامل المنطقة وهو مستمرّ رغم تفكيك العديد من شبكات العملاء الذين يعملون لحساب إسرائيل داخل فلسطين وخارجها في بقية البلدان العربيّة، لذلك نبّه الكاتب الصحافي عبدالباري عطوان إلى أنّ عمليّة اغتيال الشّهيد محمود المبحوح بمثابة "قرع جرس إنذار لإيقاظ العرب جميعا من سباتهم العميق؛ فلا حرمة لدولة عربية في المنظور الإسرائيلي ولا حصانة لترابها وأمنها". إنّ الاغتيال السياسي كمعطى في السياسة الدولية، علامة على استمرار المظالم والاستهتار بحياة النّاس وبحقوق الإنسان وحقوق الشّعوب، وإذا أخذنا بقاعدة "إنّ من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعا"؛ فإنّه من الإنصاف أن نضع في نفس القفص مرتكب الجرائم الجماعيّة ومدبّر ومنفّذ التّصفية الجسديّة لشخص واحد. فأنظمة شموليّة وعنصريّة ومارقة إذا لم توجد عدالة دوليّة تحاسبها على جرائمها فسيستمرّ القتل على الهويّة والانتماء والقتل الانتقائي الذي تنفّذه الأيادي الخفيّة ويفلت مدبّروه من العقاب. إنّ الاغتيال السياسي جزء من التاريخ السياسي المعاصر، بل إن بعض المنعرجات التاريخية منذ القرن السّادس قبل الميلاد ارتبطت بالاغتيال السياسي ويُخشى أن يكون قرننا هذا أكثر القرون دمويّة من حيث عدد المقتولين غيلة من الثّوّار والسياسيين والحقوقيّين والصّحافيّين.. كما يُخشى أن تكون السّاحة العربيّة مسرحا لأكثر الاغتيالات رمزيّة وتراجيديّة. وإذا كان القارئ يريد إطلالة على أكثر الاغتيالات تأثيرا في أحداث القرن الماضي فإنّنا نحيله إلى كتاب صدر مؤخّرا للكاتبين الفرنسيّين جون كلود غويو وجون لاكوتير بعنوان "هل ماتوا بلا سبب؟.. نصف قرن من الاغتيالات السياسية"، وقد سلّطا فيه الأضواء على ستّ عشرة عمليّة اغتيال سياسيّة بدءا من جون كندي وصولا إلى بنازير بوتو مرورا بأنديرا غاندي ومارتن لوثر كنغ وسانكارا وألدومورو والسادات.. وبما أنّ مسلسل الاغتيالات لا يزال مستمرّا فإنّ الخلل في النّظام الدولي والطّرق الخاطئة في حلّ النّزاعات القائمة ما زالت هي سيّدة الموقف بما يطرح السّؤال عن فُرص تجاوز المخاطر المحدقة بإنسان الألفيّة الثّالثة وريث أزمات القرن الماضي وصانع أزمات الحاضر وعن قدرته على صنع الحلول التي تنفي نهائيّا القتل كحلّ للخلافات وكوسيلة لتحقيق المصالح بين البشر. لقد ذكر جون كلود غويو في حديث للإذاعة السويسريّة أنّ كتابه عن الاغتيالات السياسية هو "طريقة في سرد أحداث النّصف الأخير من القرن الماضي"، ونظنّ أنّه لا يقدّم وصفة للقتل بل يفتح أعيننا على الخطر المحدق بنا. 2010-02-02 العرب القطرية