يفك فاخر أزرار ذاكرة الصمت فتسقط كلماته مغشيا عليها، وهو يحكي حكاية كالجرح كالتعب كالأرق وكما وجع المسافات الطويلة. فتتهاطل عبر أخاديد التأوهات أحاديث معطوبة خلف جفون الأحلام، ليترك لكاميرا الذاكرة حريّة التجوّل والتقاط ذبذبات زمن الهجر والقيظ والهجير، وهو يضمّ كفّيه على حنايا الأنين، ويربت بأنامله على كتف الحنين، ليسترجع بعض أوراق الوطن المستحيل.. ويعود الإرسال من محطة قطارات ساحة " برشلونة " بتونس العاصمة، حين تركناه في آخر حلقة محاصرا بدورية أمنية، ليكمل معنا مشوار السفر المحتوم فيضيف: حين تقدم مني ضابط الدورية التي كانت تلتفّ بي من كل الجهات، وطلب مني الاستظهار ببطاقة هويتي، فكرت لحظتها في الهرب من بين أيديهم، غير أني تراجعت عن قراري، لأني لاحظت بيقين أن لا منفذ لي في النجاة. فإن أخطئني الرصاص فسوف لن تتوه عني أنياب الكلاب، حيث كانت الدورية الأمنية مدجّجة بالعصي والكلبشات، وأجهزة الإرسال والأسلحة والكلاب، وفي حالة تأهب واستنفار، وكأنهم على أهبة للقتال، واستعداد لحرب شعواء صنعت في مخابر التلفزيون، وطبخت على أعمدة الصحف الرسمية.. تماسكت نفسي وتظاهرت بالهدوء، وأول ما ناولت الضابط شهادة انتهاء الخدمة العسكرية الذي تبرّع لي بها ذاك الشاب، وتباطأت قليلا في إعطائه بطاقة هويتي المزيّفة، التي رغم محاولتي أنا وصديقي في طمس ثغرات الشبهات فيها، إلا أن الصورة بقيت مكشوفة ومثيرة للشكوك، حيث لم نكن محترفين في تزييف الوثائق، ولا تزييف الحقائق، ولكنها الضرورة والحاجة دفعتنا لأن نحاول، مستندين في سعينا إلى إحدى مقاطع ( جبران خليل جبران ) "سأمشي مع جميع الماشين، ولا ولن أقف بلا حراك لأراقب موكب العابرين...". تفحّص الضابط بطاقة إنهاء الخدمة العسكرية ولم يركز كثيرا على بطاقة التعريف، وتنفست ملء ضلوعي حين انفضّت من حولي الدورية دون أن ينتبهوا أني أنا المواطن الكلب ابن الكلب الذي طالب بقليل من الحريات، حيث كان على ما يبدو الاهتمام منصبّا على مطاردة الشباب الذين هم في سن الخدمة العسكرية.. وللوطنية في بلدنا قصص وحكايات دامية، حيث عملية التجنيد تتحول إلى شكل من أشكال العقاب الجماعي، الذي يذبح فيه الوطن في صدور الشباب الذين تطاردهم الدوريات، لإجبارهم على أداء ذاك " العذاب الوطني المقدس " الذي يتمّ عبر المطاردات الأمنية والاعتقالات العشوائية والمهينة، لنقلهم للثكنات لقضاء سنة عسكرية، من أجل إنتاج جيل تصحّ فيه مقولة " الذي لا رأي له، رأسه كمقبض الباب يستطيع أن يديره كل من يشاء"، وهذا " الواجب الوطني " هو حكر على أبناء الفقراء، أبناء البؤساء، أبناء المواطنين البسطاء، فأبناء الولاة والوزراء والكبراء لا يشملهم هذا الإجراء ..وهنا انتفض فاخر من مكانه حين عضته الذكريات، ليتذكر زملائه الطلبة الذين تم اختطافهم من الجامعة سنة 1990، ليقع تجنيدهم غصبا دون الرضاء معاقبة لهم على انتماءهم السياسي، فتبتلعهم صحراء "رجيم معتوق " " وجزيرة زمبرة " هذه المحميّة الطبيعية لحماية الحيوان والنبات، ليكونون في ضيافة الكلاب المدربة والأسلاك، والأوامر العسكرية المشطة التي تمتهن كرامة الانسان، والمعاملة الجافة وقساوة برد الصحراء، في تلك الثكنات التي هي أشبه بالمعتقلات ومخابر للتعذيب.. وهنا تلعثمت الصور في الذهن والفؤاد، حين تذكر فاخر زميله الطالب المجند "الهادي بوطيب " الذي اختفى في ظروف غامضة، وقيل وقتها انه حاول الفرار من أحد ثكنات الملح، فأكلته ذئاب الصحراء المتهمة تاريخيا بأكل الآدميين، كما أكلت يوما النبي يوسف عليه السلام.. تتماوج في ذاكرة فاخر كل هذه المحطات الموجعة، لتختتم بتذكره لمقطع من قصيد أحد الطلبة المشاركين في إحدى مؤتمرات الجامعة الذي قال " الله أكبر الله أكبر جئتكم من بلدتي أنعى لكم وفاة السابع من نوفمبر..." يواصل فاخر سرد الحكاية، ليعود للقول: عدت إلى حيث أنا أترقب مهرّبا طال قدومه، وخيّل لي أن كل العيون ترصدني أو ربما هي كذلك، فمن عاش تلك الفترة يدرك أن دولة الاستقلال المفضلة ابتكرت مصطلح " المواطن الرقيب "، المتواجد في المساجد في المقاهي في الحانات في المزابل، في الحافلات في سيارات الإسعاف في الملاعب، في النقابات في المدارس في الجامعات في الإدارات في المعاهد، في الأسواق في الطرقات في الشوارع، وخلف الأبواب وتحت الشرفات وعبر شقوق النوافذ، في الهواء الملوّث فوق السطوح ووراء المنازل...كنت غير مطمئن من وجودي بهذا المكان، وفجأة لمحت المهرّب التقطته من بعيد حسب ما عندي من مواصفات، وكان هو الآخر قد عرفني فمارس فن التهريب وتحاشى الكلام معي، واكتفى بابتسامة وفي نفس الوقت لوّح لي بإشارة خفية كي اقتفي أثره. كانت تتبعه امرأة تحمل رضيعا بين ذراعيها، ويرافقها عدة أطفال في سن الطفولة تتقارب أعمارهم.. سرنا باتجاه واحد دون أن نشعر العيون التي ربما ترصد العابرين بأننا نفس الموكب، لنركب القطار المتوجه إلى مدينة "غار الدماء " إحدى بلدات الشمال الغربي التي تقترب من الحدود الجزائرية. امتطى المهرّب عربة مجاورة للعربة التي جمعتني مع المرأة وأطفالها احتياطا منه لأي طارئ. وأثناء صعودي في القطار ترددت كثيرا، فقد أحسست بساقيّ مغروستين في أعماق تربة الأرض المحفورة في وجداني، وشعرت بإقدامي مثبتة متشبثة مقيدة تأبى فراق التراب، ولم استطع جرّ ساقيّ إلا حين استحضرت عبارة ( جون وليامز) " ما فائدة الدنيا الواسعة، إذا كان حذائك ضيقا " اتخذت مكانا قصيّا في عربة القطار، يلسعني الحزن وتعتصرني اللوعة، ويلكمني الفراق.. كانت المرأة التي ترافقني هي الأخرى تسبح في غمامة من الحزن، والوجيعة التي تكاد تنسكب لتبلل ثيابها، فهي من الفارّين مثلي للالتحاق بزوجها اللاجئ سياسي بأحد الدول الأوروبية.. تناثرت نظراتي إلى حيث أطفالها، فلاح لي حزنا متربّعا مكدّسا على ملامحهم البريئة، يكاد ينهمر من ضفاف جفونهم، تأملتهم حاولت أن ألاعبهم، أن أمازحهم كي أبدّد هذه اللوعة الجاثمة على صدورهم، فاكتشفت أن هؤلاء الأطفال ما عادوا أطفالا ما عادوا يضحكون، لقد ذبحت على شفاههم الابتسامة، واختلست منهم الطفولة، تأملتهم طويلا فتأملت فيهم (نازك الملائكة ) وهي تنشد " كلما أبصرت عيوني أزهاراً .. تذكرت قاطف الأزهار..." كان القطار يسير ببطء، وكانت الصور تترنّح أمامي، وأنا أتململ تارة وأتحرّك تارة أخرى، وكان بي شوق أن أودّع الشجر والحجر والصوّان والسواقي والجبال والنبات وأن اقبل الأرض والرمل والزرع والقمح والتراب، قبل الرحيل والغربة والفراق.. كانت في داخلي صرخات مكتومة تودّ الانفجار لتنشد مع الشاعر (فاروق جودة) بعض التقاسيم على أوتار الجراح...
"أين وجه بلادي أين النخيل .. و أين دفء الوادي لا شيء يبدو في السماء أمامنا غير الظلام .. وصورة الجلاد "
البقية في الحلقات القادمة...
ملاحظة هامة هذه الشهادات تنطلق من تحقيقات ميدانية حيث أحداثها وتواريخها وإبطالها حقيقيون، ولكل منهم مغامرات مثيرة مع الترحال والتخفي والسجن..طبعا مع الانتباه والتحفظ على بعض الجزئيات، اتقاء للثأر أو التتبعات ضد الذين ساعدوا أو تعاونوا في تهريب هؤلاء.. حاولت أن لا أجعل من هذا العمل شهادات سردية جافة، بل حرصت وأنا أسجّل هذه القصص أن انتبه والتقط وأتعايش مع مشاعر وأحاسيس الرواة في كل ثناياها وتشعباتها، مستخدما بعض تقنيات العمل الصحفي والأدبي، قصد التوغل قدر الإمكان فيها وتصويرها واستنطاقها، وترجمة حالات القلق التي أرصدها وأنا أسجل مرويات هذه التغريبة التونسية. الطاهر العبيدي [email protected]