أسْدِل السِّتار على محاكمة "مجموعة سُليمان"، التي اتُّهِم أفرادها بمحاولة قلب نظام الحكم. ولم يبق من تلك المحاكمة – حاليا على الأقل - إلا احتجاجات المحامين على الظروف التي حفت بها، والذين اضطروا إلى الاستمرار في المرافعات مدة 24 ساعة دون توقّف، إلى جانب الجهود المستمِرة من أجل إنقاذ الشاب صابر الراقوبي من حبل المشنقة، بعد أن تم تخفيف العقوبة على صديقه.
لكن، إذا كان المِلف القضائي لأخْطر قضِية شهِدها حُكم الرئيس بن علي قد طُوي، فإن المِلف السياسي لا يزال مفتوحا في انتظار الإجابة عن الأسئلة التالية: كيف تحوّلت تونس إلى أرضٍ خصْبة لتفريخ الفِكر السلفي الجهادي؟ وهل الحُلول الأمنية ستكون قادرة على تحجيم هذه الظاهرة والحدّ من تداعِياتها؟ وما الحلول التي يُمكن أن تطرحها النّخبة للوقاية من أحداث أخرى، قد تكون أكثر خطورة واتِّساعا من تلك التي عرفتها البلاد في نهاية السنة قبل الماضية؟
للإجابة على مثل هذه الأسئلة، حاورت سويس أنفو بعض ذوي الرأي في تونس، كلّ من موقِعه واختصاصه.
وإذ لا تزال الجِهات الأمنية تحتكِر جزءً حيويا من المعلومات، خاصة تلك المتعلِّقة بملابسات قضية مجموعة "جند أسد بن الفرات"، إلا أن "الجمعية الدولية للدّفاع عن المساجين السياسيين" قد وفّرت في تقريريها الأخير، جملة من المُعطيات قد تُساعد على الاقتراب من ظاهرة "السلفيين التونسيين"، وذلك انطلاقا من عيِّنة لا بأس بها، شملت أكثر من 1200 حالة.
مع ذلك، هناك سؤال لا مفَرّ من طرحه في هذا السياق. لقد سبَق أن حاولت سلفية الجزيرة العربية، المتأثِرة بدعوة الشيح محمد بن عبد الوهاب، أن تخترق تونس في رسالة شهيرة تَم توجيهها خلال الأربعينات من القرن الماضي إلى أحد "البايات"، تدعُوه إلى تنقِية الإسلام في بلاده من البِدَع التي انتُشرت، مثل الشفَاعة والتوسّل بقبُور الأولياء.
وقد طلب يومها حاكم البلاد من شيخين من شيوخ الزيتونة، بالردّ على تلك الدعوة في رسالة ضعيفة، ذكرها ابن أبي الضياف في كتابه. فما الذي حدث أو تغيّر في تونس، حتى تمكّن الخطاب السلفي من اختراق البلاد التونسية، التي كان يعتبِرها البعض "قلعة حصينة من قِلاع الحداثة"؟
سلفية مُعولَمة
يلاحظ الدكتور أحميدة النّيفر، أستاذ أصول الدِّين، أن السلفية القديمة مُختلفة من حيث طبيعتها عن السلفِية الجديدة، الموصوفة بالجهادية.
فالأولى، كانت مُكتفية بمُقاومة البِدع والرجوع إلى النصوص الدِّينية مُباشرة، دون المرور بالمذاهب الفِقهية بحثا عن حالة الطهورية مع الولاء للسلطة القائمة، في حين أن الثانية، لا تتّخذ من الجانب العقائِدي مدخلها الرئيسي، بقدر ما تحرِص على تغيير الأوضاع برمّتها، وِفق تصوّرها الخاص، بما في ذلك أنظِمة الحُكم التي تقدح في شرعيتها الدِّينية.
فهذا النّمط الجديد من السلفية مُعولَم، انطلاقا من رؤية شمولية، ساعدتها كثيرا وسائل الاتِّصال الحديثة على تجاوُز الحدود التي كانت تشكِّل في الماضي عقَبة أساسية في وجه انتشار الدّعوات والأفكار. لقد تغيّر في هذا العصر مفهوم الحدُود.
كما يلاحظ النّيفر أنه، على الصعيد المحلِّي، يشهد الخطاب الدّيني في تونس منذ الاستقلال حالة ضُعف شديدة، حيث اعتقدت السلطة والنّخبة بأن نمَط التّحديث، الذي تم اختياره، سيكون كفيلا بحَسم المسألة الدِّينية وتجاوزها، ولكن جاءت الأحداث لتُثبت خطأ الرِّهان وهشاشة هذا الاختيار.
عالم الاجتماع مهدي مبروك، يلتقي مع النيفر في أكثر من مَفصل، وهو إذ يُعطي أهمية للعامل الخارجي، حيث لم يعُد من المُمكن تحصين "إسلام قُطْري أو محلّي" وضمان عدم اختراقه من قِبل الشبكات السلفية، وهو يعتقد بأن مرحلة الحركات الإسلامية، التي تنشأ محليا وتبقى محكومة الخصوصيات، قد انتهت بعد أن حصل انتقال اليوم من مفهوم الحركة إلى مفهوم الشبكات العابِرة للقارّات والحدود، وهي شبكات تغذِّيها الأحداث العالمية، خاصة تلك التي لها علاقة بالمسلمين أو بالعالم الإسلامي، وهي أحداث تُقرأ بشِفرة خاصة من قِبل الشبكات السلفية، وتغذّي لدى أعضائها مفهوم المؤامرة.
المهدي أيضا، لا يكتفي بدور العامل الخارجي ويعتبر أن المناخ الدّاخلي قد ساعد كثيرا على تسهيل عملية الاختراق، ويشير بالخصوص إلى عُنصرين يراهما هامّين، إذ يرى بأن اختفاء الزيتونة وتغييب حركة النهضة وسياسة ما سُمي بتجفيف المنابع التي قامت بها السلطة، أدّى كل ذلك إلى "غياب زعماء إسلاميين تونسيين، ممّا فسح المجال لظهور صُوَر "زعاماتية" جديدة من الخارج، أي عَولمة القيادات ونشأة مرجعِيات غير محلية".
ويُلح المهدي على خُطورة الجُمود الثقافي، الذي ولَّد حالة من الفراغ، زادته حِدّة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها قِطاع واسع من الشباب التونسي، الذين يُعانون من فقدان ما يُسميه ب "مشروع حياة" تتوفر فيه موارِد أساسية، مثل العمل والحرية والإنصاف والكرامة.
فراغ جاثم في الحياة الفكرية والروحية والثقافية
أما الصحفي والكاتب رضا الكافي، فيُلفت النظر إلى ما يتعرّض له المجتمع الإسلامي من "هجمة إمبريالية" واعتِداءات متكرِّرة. وعلى الصعيد الداخلي، يحمِّل مسؤولية انتِشار الثقافة السلفية إلى غياب الحُريات والديمقراطية والمشاركة، إلى جانب الأوضاع الاقتصادية الصّعبة، وإن كان لا يُعطي للبُعد الاقتصادي دورا أساسيا في فهم الظاهرة، نظرا لتفشِّيها في دُول نفطية، مثل السعودية وليبيا.
لاحظ الكافي باستغراب في افتتاحية نشرها مؤخرا بمجلة "إكسبرسيون"، التي يتولّى رئاسة تحريها، أن محاكمة مجموعة سُليمان لم تثر نِقاشا على الصعيد الوطني، وعندما سألته سويس انفو كيف يفسِّر غِياب مثل هذا النقاش، أرجع ذلك إلى الثقافة السياسية السائدة في تونس، وهي في الأساس، حسب رأيه، "ثقافة السلطة التي لا ترى أي داعٍ لطرح المشاكل الكُبرى على مائدة الحِوار وبمشاركة الجميع. فالسلطة تعتقد بأنها هي المَعنية فقط بتحديد المشاكل ووضع ما تراه حلولا لها".
فالمثقفون وقِوى المجتمع المدني ليسوا، حسب اعتقاده، مسؤولين عن غياب الجَدل حول قضية السلفية وتداعياتها، وإنما الدولة هي التي "تحتكِر المُبادرة وتعزِّز الثقافة الأحادية".
ويلتقي هؤلاء الثلاثة، رغم اختلاف تخصّصاتهم وتجاربهم، حول القول بأن الفراغ الجاثم على الحياة الفِكرية والروحية والثقافية في تونس، لا يخفِّف منه إلا فتح حِوار وطني حول هذه الظاهرة.
ليست هناك حلول سحرية للمعضلة!
ويُلح النّيفر على ضرورة تنسيب الخطاب التحديثي والعمل على بناء خطاب إسلامي بديل، ويشير إلى أزمة القِيم التي تمُر بها أوروبا والعالم الغربي. فالشباب التونسي كان في مراحل سابقة يذهب للدراسة في العواصمالغربية، فيعود متأثرا بالفِكر الاشتراكي والليبرالي، أما اليوم، فالكثير منهم يعودون محمّلين بالأفكار السلفية؟ ويعلِّل النِّيفر ذلك باعتقاده أن أوروبا تمُر بحالة تعثّر كبير، ولم تعُد قادرة على "تصدير الأفكار"، كما أنه لا يكتفي بالدّعوة إلى حِوار وطني، بل يعتقِد وُجوب توسِيع هذا الحوار ليُصبح عربيا.
فتركيا وماليزيا قد تمكنتا من معالجة المشكلة الدّينية، بعد الشوط الذي تمّ قطعه في سبيل تجسير العلاقة بين الحداثة والإسلام، ولهذا يعتقد بأن مشكلة السلفية هي مشكلة عربية في الأساس.
أما مهدي مبروك، فهو يعترِف بعدم وجود حلول سِحرية، لكنه يعتقد بأنه في الإمكان "تقليص عدد الوافدين على الدائرة السلفية"، وهو يستغرب في مقَالٍ نشره بصحيفة الموقف التونسية "كيف يرفع الخطاب الرسمي شعار 2008، سنة الحوار مع الشباب، ولم تبادر السلطة بمثقّفيها وصحفيِّيها بالتّحاور مع هؤلاء السلفيين"؟ ويختم سؤاله "فهل يُمكن للسِّجن أن يكون معدِّلا لأفكار الشباب أو فرصة للمراجعة"؟
ويشير إلى أن "السلفية الجهادية"، مهما كانت تعبيراتها، "تظل فِكرا عقائديا تعجِز الحلول الأمنية في معالجته في عالم تعَوْلَم فيه الإسلام".
ومما لاحظه في دراسته للظاهرة، أن هؤلاء الشباب ليست لهم علاقة بالمجال الثقافي من مسرح وسينما وموسيقى، ولهذا، يراهن كثيرا على إصلاح مسارات هؤلاء من خِِلال تدعيم الثقافة والمنتديات الثقافية.
ويشاطره في ذلك رضا الكافي، الذي يؤكِّد من جانبه على أن الحلّ الأمني قاصِر عن مُعالجة هذه الظاهرة، ويُلِح على ضرورة فتح مجال المشاركة في الحياة العامة وتوسيع دائرة الحريات، داعيا إلى ضرورة التعجيل بملء الفراغ، حتى لا تتّسع دائرة اليأس، ويقع الانزلاق نحو حركات التطرّف.