بقلم د . محمد أركون (كاتب ومفكر جزائري ) ..في القرنين التاسع عشر والعشرين دخل العالم العربي والإسلامي في معظمه في مرحلة الهيمنة الكولونيالية. فهجمة الاستعمار الأوروبي التوسعية لم توفر أحدا تقريبا. وعندئذ فقدت مجتمعاتنا السيطرة على نفسها وأصبحت المبادرة السياسية والاقتصادية في يد المستوطنين الاستعماريين. وعندما حاولت بورجوازية محلية أن تتشكل ضمن نطاق المجتمع الكولونيالي فانها حوصرت من جديد واحتقرت لفترة طويلة أثناء حروب التحرير الوطنية وفيما بعدها. وأكبر مثال على ذلك الحالة الجزائرية. ولكن هناك حالات أخرى حظيت فيها البورجوازية التقليدية بمصير أفضل كما في تونس والمغرب مثلا. فبما انها، أي الطبقة البورجوازية، هي التي أشعلت النضال الوطني ضد الاستعمار فانها حظيت ببعض الاحترام والحظوة إبان السنوات الأولى للاستقلال. ولكن التزايد السكاني السريع والهائل أدى إلى حصول اختلال في التوازنات الاجتماعية وقضى على هذه البورجوازية في مهدها. فلم تستطع عندئذ مواجهة الصعود الذي لا يقاوم للنزعة المغامرة والقسرية للحزب الواحد بكل شعاراته وتكميمه لكل الأفواه الأخرى في المجتمع. وبدا للناس عندئذ ان البورجوازية الليبرالية عاجزة عن تلبية حاجيات الناس وانهم بحاجة إلى قائد جماهيري وحزب واحد. وعندئذ سيطرت الديماغوجية السياسية على الجميع تقريبا، وانتهى العصر الليبرالي العربي وكذلك العهد البرلماني القصير في مصر وسوريا وسواهما. وينبغي العلم بهذا الصدد أن إمكانية الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الخمسينيات من القرن الماضي كانت اكبر مما هي عليه اليوم. بمعنى أننا كنا في وضع أفضل مما نحن عليه الآن. في الواقع ان القادة السياسيين من أمثال الحبيب بورقيبة، وأحمد بن بيلا، وجمال عبد الناصر، وميشيل عفلق، كانوا قد نشأوا وترعرعوا داخل مناخ ايديولوجيا النزعة الطوباوية الاشتراكية العلمانية والثورية. وبما انهم كانوا يمثلون قادة تاريخيين فان هذه المكانة أمنت لهم مشروعية كبيرة ومصداقية كافية لكي يفرضوا اصلاحات جريئة على المجتمع العربي أو الإسلامي التقليدي. بل ووصل الامر ببورقيبة إلى حد تجرأ على المس بقانون الأحوال الشخصية عندما منع تعدد الزوجات والطلاق التعسفي للمرأة من قبل الرجل على طريقة: اذهبي فأنت طالق..بل وتجرأ حتى على المس بالشعائر والطقوس الدينية كشهر رمضان مثلا عندما قال بان الصيام غير ضروري لانه يعيق العمل والانتاج. ولكي يبرهن على ذلك راح يشرب كأسا من العصير على شاشة التلفزيون في عز شهر رمضان. ولكن الفراغ السياسي والثقافي والمؤسساتي الذي اعترى المجتمعات العربية والنخب السياسية المسيطرة كشف بسرعة عن مدى اتساعه وآثاره السلبية. وهكذا تراجعت أسهم الحزب الواحد والايديولوجيا القومية السابقة. وبما أن الساحة لا تحتمل الفراغ فان الإسلام الأصولي راح يحتلها. لقد راح يسيطر على المعارضات الشعبوية الديماغوجية الناتجة عن ثلاثين سنة من سياسات الانظمة السابقة التي حكمت بعد الاستقلال مباشرة. وهي أنظمة الحزب الواحد الاستبدادية التي تحدثنا عنها سابقا والتي كانت تبحث عن مشروعية اصطناعية مفتعلة من خلال سياسة التتريث أو التسنين. انظر ما فعلته الجزائر بعد الاستقلال وما فعلته بقية الانظمة من حيث المزاودة على بناء الجوامع حتى بدون سبب. ومعلوم أنها سلمت نظام التعليم للعناصر التقليدية والتتريثية ذات الايديولوجيا الاخوانية عموما. فكان ان حصدنا جبهة الانقاذ وكل الجماعات الجهادية والاصولية المتزمتة التي تكتسح الشارع حاليا. في الواقع ان التتريث هو عبارة عن تشكيل الوعي الوطني عن طريق أجزاء متبعثرة من الخطاب الاجتماعي القديم الذي تبثه المواعظ وبرامج التعليم المقررة في المدارس الابتدائية والثانوية وكذلك أدبيات الارصفة والشوارع والكتب التراثية الصفراء التي علاها الغبار وعفا عليها الزمن. نقول هذا دون ان ننسى التدجين العقائدي للاطفال والشباب من قبل الشيوخ والمفتين الذين نصّبوا أنفسهم بأنفسهم كسيادات دينية مبجلة وفرضوا أنفسهم على الناس. ولا ينبغي ان ننسى البلاغيات النارية الهائجة للجهاديين الأميين من الناحية الثقافية. وزاد الطين بلة بعض شيوخ الفضائيات القرآنية وغير القرآنية المقطوعين كليا عن الحداثة الفكرية والذين يشبهون المبشرين الانجيليين المتعصبين الذين ينشرون خرافاتهم على شاشات الفضائيات الامريكية.. ثم راح التتريث ينتصر ايضا من خلال إسلام شعائري محض. بمعنى ان الإسلام اختُزل فقط إلى مجرد الالتزام الصارم بتأدية الطقوس، والتقيد بالمحرمات الغذائية واللباسية ، أي المفروض من قبل المجتمع لا من قبل ارادة شخصية حرة، ومنع الزواج من المنحرفين الضالين، إلخ.. أما الفكر الإسلامي العميق أو جوهر الإسلام فلم يعد أحد يعرفه الا من رحم ربك.