إذا كانت وقائع التاريخ السياسي الأميركي تشير إلى دور مؤسسة الرئاسة على صعيد صنع السياسة الخارجية الأميركية، فإن عوامل كثيرة لعبت دورا مهما في منح تلك المؤسسة ذلك الدور المميز. ولعل العوامل التاريخية، وملابسات النشأة، وظروف الثورة الأميركية، وإعلان الاستقلال، ودور القادة العسكريين هي العوامل الأبرز في منح الرئاسة سلطات كبيرة، خوفا على الدولة الوليدة من التفتت. وبعد مرور أكثر من قرنين على ولادة الدولة الأميركية، يتساءل الكتاب عن دور مؤسسة الرئاسة في صنع السياسة الخارجية. النظام السياسي الأميركي.. دراسة تاريخية ونظرية شهدت أوائل الستينيات من القرن ال17 بداية هجرة كبيرة من أوروبا إلى أميركا الشمالية، وتصاعدت وتيرتها مع توافد الآلاف من المستعمرين الإنجليز. - الكتاب: دور مؤسسة الرئاسة في صنع الإستراتيجية الأميركية الشاملة بعد الحرب الباردة - المؤلف: د. عامر هاشم عواد - عدد الصفحات: 430 - الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية - الطبعة الأولى/2010 ونمت المستعمرات نموا محسوسا من الناحيتين الاقتصادية والثقافية، وتمتعت بحكم ذاتي، على الرغم من تبعيتها للتاج البريطاني. غير أن مشكلة التبعية لاسيما الاقتصادية أثقلت كاهل المستعمرات الجديدة، حيث بدأت بريطانيا بفرض الضرائب لتغطية النفقات المتزايدة، وبسبب خشيتها من تطلعات الأميركيين إلى الاستيطان غرب الميسيسيبي أصدرت قانونا يعد الهنود ملاكا للأراضي التي يشغلونها. ونتيجة لهذه المواقف قررت المجالس التشريعية المنتخبة في المستعمرات مواجهة القوانين البريطانية بالوسائل السياسية، وهو ما رفضته الحكومة البريطانية، الأمر الذي دفع المستعمرات إلى توحيد صفوفها لمواجهة الموقف البريطاني، وسرعان ما اندلعت المعارك بين الطرفين، وكانت الغلبة للمستعمرات بسبب الدعم الذي تلقوه من بعض الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا. وقد ترافق مع العمل العسكري عمل سياسي داخلي كان هدفه الوصول إلى بناء سلطة للحكم الذاتي، حيث أقرت المستعمرات في مؤتمر شامل عام 1777 اقتراحا يرمي إلى إقامة اتحاد فيدرالي مرن تم إقراره نهائيا عام 1781. ويرى المؤلف أن انتصار المستعمرات شكل نهاية مرحلة وبداية أخرى، إذ انتقلت القضية من محاربة الإنجليز إلى ضبط أوضاع المستعمرات بعد مواجهة الأميركيين مسألة حكم أنفسهم والمحافظة على الاتحاد، على خلفية ازدياد الشكاوى ضد المجالس التشريعية التي أصبحت تحكم المستعمرات في ظل غياب سلطات تنفيذية. ويرى المؤلف أن هذا الوضع دفع واضعي الدستور الأميركي فيما بعد إلى ضمان إنشاء كونغرس اتحادي قوي، وبدأ الحديث عن إقامة حكومة قوية مع الإبقاء على التمثيل الشعبي، ولحل هذه المسألة عقد مؤتمر شامل عام 1787 كتب فيه الدستور الذي حدد شكل النظام السياسي الأميركي حتى اليوم. ويؤكد المؤلف أن واضعي الدستور عمدوا منذ البداية إلى استخدام مبدأ فصل السلطات وعدم تركيز السلطة في جهة واحدة، ففيما يتعلق بالسلطة التشريعية، فقد خولت للكونغرس سلطة فرض الضرائب، والسلطة التجارية، وسلطة سك العملة، وسلطة الاقتراض، وانتخاب الرئيس ونائب الرئيس، وتوجيه التهم للرئيس. أما فيما يتعلق بالسلطة التنفيذية، فقد أكد المؤلف أن واضعي الدستور صاغوا عباراتهم حول الرئيس ببعض الغموض لإعطائه مساحة من الحرية كي يتجاوب مع المتغيرات الداخلية والخارجية، وعدم التحديد هنا هو امتياز للرئيس للتصرف بهامش من الحرية، الأمر الذي سمح للرؤساء بتفسير الدستور وفق رؤيتهم. وقد أعطى الدستور ميزات للسلطة التنفيذية: - رئيس الجمهورية غير مسؤول سياسيا أمام الكونغرس. - سكرتيرو الرئيس غير مسؤولين أمام الكونغرس. - تشرف السلطة التنفيذية على سير الجهاز الحكومي وإدارته. - الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وله حق العفو. وإبرام المعاهدات شرط موافقة مجلس الشيوخ بأغلبية الثلثين. أما السلطة القضائية فتمارس بموجب المحكمة العليا والمحاكم الفدرالية، وتتألف المحكمة العليا من رئيس وثمانية قضاة يعينهم الرئيس بعد موافقة مجلس الشيوخ، وتنظر المحكمة العليا في النزاعات التي تنشأ بين الولايات، وكذلك في الدعاوى المرفوعة ضد الحكومة الاتحادية. ومن أهم صلاحيات المحكمة العليا التأكد من دستورية القوانين الصادرة عن الكونغرس أو مجالس الولايات. مؤسسات الرئاسة ودورها في صنع الإستراتيجية الأميركية يبدأ المؤلف في هذا القسم بمؤسسات الرئاسة، والتي تتألف من: 1- نائب الرئيس، الذي تكمن مهمته في ضمان انتقال سلمي للسلطة في حال فراغ منصب الرئاسة. 2- المكتب التنفيذي للرئيس، ويقوم بتزويد الرئيس بهيئة عامة لمساعدته في إدارة النشاطات المتنوعة، ويتألف من: - مكتب البيت الأبيض، ويضم المساعدين للرئيس ونوابهم ومعاونين إداريين، وكتّاب خُطب الرئيس، والمتحدث باسم البيت الأبيض، وتقوم مهمة المكتب على إبلاغ الرئيس بأنشطة الوزارات والهيئات التنفيذية، ومراجعة نصائح الخبراء والبيروقراطيين، والعمل كرابطة بين الفرع التنفيذي والفرع التشريعي. - مكتب الإدارة والخزانة، وتقوم مهمته على إعداد مقترحات الرئيس المالية، ورسم برامج الرئيس ومراجعة الميزانية. مجلس الأمن القومي، ويقوم بعملية التنسيق بين السياسات الداخلية والخارجية ذات العلاقة بمجالات الأمن القومي، ويرى المؤلف أن المعلومات الجاري تداولها في هذا المجلس والخيارات التي يقترحها، تعد عنصرا مؤثرا في إستراتيجية الولاياتالمتحدة. وكالة المخابرات المركزية، وتعد الحلقة الأهم في عملية صنع قرارات الإدارة الأميركية، ويأتي تأثيرها من أن اجتماعات مجلس الأمن القومي تبدأ بملخص تقرير الوكالة الاستخباري، وما يعطي للوكالة مكانتها هو كثرة مصادر معلوماتها، فضلا عن مراكز الأبحاث التابعة لها. 3- الوزارات التنفيذية: - وزارة الخارجية، حيث يعد وزير الخارجية المستشار الأول للرئيس، فيما يتعلق بأمور السياسة الخارجية، والمسؤول عن إجراء المفاوضات الدولية. - وزارة الدفاع، حيث تعد من الحلقات المهمة في صناعة إستراتيجيات الولاياتالمتحدة، وهذه الوزارة هي المسؤولة عن التدخل العسكري دوليا، والإشراف على الوجود العسكري الأميركي في الخارج. - وزارة الأمن الداخلي، حيث نشأت بعد أحداث سبتمبر/أيلول عام 2001 نتيجة ضعف التنسيق بين أجهزة الاستخبارات، فجاء تشكيل الوزارة ليُدمج في داخلها مختلف عناصر الوكالات الفدرالية. وتنبع أهمية هذه الوزارة من التقارير التي تقدمها للرئيس حول مصادر التهديدات الخارجية، وأيها أكثر إلحاحا. مؤسسات الرئاسة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة يحصر المؤلف توجهات الفكر الإستراتيجي الأميركي في ثلاثة توجهات: - التيار المثالي: ودعاته يدعون إلى تبني سياسة تقوم على تعميم نموذج الأميركي في الحرية والديمقراطية، وإلى إقرار منهج متعدد الأطراف في الساحة الدولية. - التيار الواقعي: ودعاته يؤكدون ضرورة اللجوء للقوة، ورفع شأن المصلحة القومية في تسيير العلاقات الدولية. - تيار الواقعية الجديدة: وتقوم فلسفته على كون الساحة الدولية بعد الحرب الباردة تتيح للولايات المتحدة فرصة فرض هيمنتها وسياستها واعتماد التدخل بالقوة العسكرية. هذه التيارات الثلاثة يناقشها الكتاب عبر ثلاث مراحل: المرحلة الأولى في عهد الرئيس بوش الأب بين عامي 1989 و1992، حيث كان تركيز الإستراتيجية الأميركية على الدفاع عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة بالترادف مع استعداد عسكري عال، جعل من العامل العسكري الحكم الرئيس في حسم المنازعات بين الدول. ويرى المؤلف أن بوش الأب حاول الربط بين هذا الفكر الإستراتيجي والدعوة إلى نظام عالمي جديد يسوده السلام، لكنه لم يستطع حسم العلاقة بينهما بصورة واضحة. ويشدد المؤلف على أن إستراتيجية بوش الأب تعد عموما استكمالا لإستراتيجية رونالد ريغان، وما يميزها فقط هو ظهور نظام عالمي جديد، أدى إلى بروز أطروحة نهاية التاريخ وفلسفتها أن العالم الغربي انتصر، والنظام الدولي انقسم بين عالم غارق في الاضطرابات والحروب، وآخر ديمقراطي يتمثل في النموذج الأميركي. إن هذا الواقع الجديد، وما طرحه من مخاوف أميركية من هيمنة أي قوة على أوروبا أو على آسيا/الباسيفيك، دفع إدارة بوش إلى تغيير بعض عناصر الإستراتيجية الأميركية للحيلولة دون ظهور أي تحديات للتفوق الأميركي العالمي، غير أن المواجهة التي جرت مع الكونغرس أدت في نهاية المطاف إلى تعديل تلك المؤشرات مرة أخرى ليتم إقرار المزيد من التركيز على العمل مع الحلفاء الإقليميين للحفاظ على نظام ما بعد الحرب الباردة. المرحلة الثانية: وكانت بين 1993 و2000 واقتربت من الاتجاه الواقعي في إدارة النظام الدولي، وبسبب عدم تبلور إجماع حقيقي حول السياسة الخارجية الأميركية، فضلت إدارة كلينتون نهجا متعدد الأطراف في التعامل مع الاضطرابات الدولية. ويؤكد المؤلف أن توجهات إدارة كلينتون تحددت بثلاثة محددات: سياسيا عبر التوجه نحو قبول الإطار المتعدد الأطراف للتعامل مع القضايا الدولية، واقتصاديا، عبر توجيه المصادر المالية نحو مناطق الأزمات الاقتصادية الداخلية، فعالجت العجز المالي ووسعت الاستثمارات، وعسكريا، عبر خفض الإنفاق الدفاعي من 4،8 إلى 3% من إجمالي الناتج القومي. أما المرحلة الثالثة، فكانت بين عامي 2001 و2008، حيث شهدت ظهور إستراتيجية جديدة تعتمد الأسلوب الوقائي في التعامل مع القضايا الدولية، وحملت شعارا "من ليس معنا فهو ضدنا". الإستراتيجية الأميركية بين الصلاحيات والأدوار الفعلية في هذا القسم يطرح المؤلف سؤالين: هل تتقيد مؤسسة الرئاسة بالنصوص الدستورية أثناء صياغتها الإستراتيجية الأميركية؟ وكيف تصنع هذه المؤسسة تلك الإستراتيجية؟. بالنسبة للسؤال الأول، يجيب المؤلف بأن الدستور حرر الرئيس من قيود قانونية قد تربك أداءه في التعامل مع الأطراف الأخرى، ولاسيما عندما يكون الكونغرس غير منعقد، ولا يعني ذلك أن الصلة بين الرئاسة والكونغرس منقطعة، فالرؤساء غالبا ما يستشيرون الكونغرس. لكن تعدي الرئيس على سلطات الكونغرس الدستورية في مجال العلاقات الخارجية والسلطات الحزبية، ليس إلا مظهرا من مظاهر الأثرة التي يمارسها الرئيس، وهذا ما يؤدي في الغالب إلى نزاعات سياسية بين الطرفين وليس إلى نزاعات دستورية، بسبب عدم وجود خط دستوري واضح بين سلطات الرئيس وسلطات الكونغرس. ويرى المؤلف أن هناك ثلاثة عوامل تلعب دورا رئيسيا في قدرة الرئيس على رسم الإستراتيجيات: الأغلبية في الكونغرس، وشخصية الرئيس، والمناخ السياسي الدولي. ويؤكد المؤلف أن هذه الأخيرة، أي تعقيدات الشأن الدولي إذا ما دعمت بوجود تهديد يكون لها الأثر في زيادة سلطات الرئيس، وهذا ما برع فيه بوش الابن. أما بالنسبة إلى السؤال الثاني المتعلق بكيفية صنع مؤسسة الرئاسة للإستراتيجية الأميركية، فيبين الكتاب -عبر دراسة التفاعلات الداخلية والخارجية التي واجهت الولاياتالمتحدة خلال عقود- أن الإستراتيجية الأميركية محكومة بمتغيرات ذات تماس مع المصالح الخارجية. يقوم المؤلف هنا ببناء نموذج تحليلي لدور مؤسسة الرئاسة في صنع الإستراتيجيات الأميركية، ويبين خلال هذه الدراسة أن التفاعل بين الرئاسة والكونغرس لا يأخذ خطا ثابتا في التأثير في مختلف المراحل الزمنية، الأمر الذي يقود حسب المؤلف إلى نتائج يصعب قياسها، وعلى هذا فكل ما يمكن عمله هو تقدير مدى مراعاة الإستراتيجية لمطالب القوى المؤثرة في صنعها، ومدى قدرة مؤسسة الرئاسة على إقناع المؤسسات الأخرى بمبررات اعتمادها. وهذا وفقا للمؤلف يتطلب تحديدا للقوى والمتغيرات المؤثرة في صنع الإستراتيجية الأميركية، ومن ثم بيان العلاقات المتبادلة فيما بينها، وصولا إلى تحديد القوى والمتغيرات المركزية المتحكمة في تحديد الاتجاهات العلمية للإستراتيجية الولاياتالمتحدة. وتوصل المؤلف إلى وجود قوى عديدة تؤدي أدوارا متباينة في التأثير في صنع إستراتيجية الولاياتالمتحدة الدولية، بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي، ويبين التاريخ السياسي للولايات المتحدة أن مركز القوة السياسية فيها غير مستقر. المصدر: الجزيرة الأحد 21/3/1431 ه - الموافق6/3/2010