مازالت نتائج استفتاء حظر المآذن في سويسرا تتفاعل، فبعد أن خفت الجدل على مستوى الساحة السياسية، انتقل إلى الدوائر العلمية، وإلى مراكز البحث المعنية بشؤون الأقليات، وسبل اندماجها. ما دلالات حظر المآذن؟ وأي اندماج مطلوب من المسلمين في أوروبا بعد هذا التصويت؟ وهل ستثبت الحضارة الأوروبية أمام تحدي الأقليات الدينية؟ هذه بعض الأسئلة التي طرحتها ندوة علمية نظّمها منتدى دراسات الهجرة بجامعة نوشاتيل السويسرية يوم الأربعاء 10 مارس 2010، وبحضور نخبة من الباحثين من سويسرا وخارجها. ماتيو جيانّي أحد المشاركين في هذه الندوة، وأستاذُ العلوم السياسية بجامعة جنيف والخبير في شؤون التعدد الثقافي، أكد في مفتتح الندوة أنه لا يرى أهمية في التوقف عند الاستفتاء في حد ذاته، أو نتائجه المفاجئة، فهذا قد تكفلت به وسائل الإعلام ودوائر القرار، بل المطلوب الآن "البحث في سبل إيقاف هذا التراجع عن مقومات المجتمع المتعدد ثقافيا، والتساؤل حول إمكانية العيش في مجتمع ليبرالي من دون فرض قيود على الأقليات". يري جياني أن "اقتراع المآذن كان في الحقيقة استفتاءً أوروبيا وليس سويسريا فقط". وهذا يضفي على الموضوع بعدا أوسع وأشمل. عودة الأديان كذلك يتفق المشاركون على ان مبادرة حظر المآذن تطرح في الأساس قضية اندماج الأديان والرموز الثقافية الجديدة على المستوى الأوروبي. وتقول جانين داهيندن، خبيرة سويسرية متخصصة في الدراسات الدولية: " يحدث هذا في وقت كان الجميع ينتظر فيه انتهاء الحديث عن الأديان، والأقليات الدينية في البحوث الاجتماعية والسياسية". فحظر المآذن في سويسرا، فرض تضييقا على أقلية بعينها، وحوّل الإنتماء الديني إلى معيار لتحديد المحلي والأجنبي، وجعل من الاختلافات الثقافية الرمزية معايير لمنح حقوق للبعض وحجبها عن آخرين، ووضع الدولة، التي من المفترض ان تكون راعية محايدة لشؤون المجتمع، في صف نمط معين للحياة دون آخر. والسؤال الذي تحاول اليوم هذه النخبة المشاركة في الندوة الإجابة عنه هو كيفية التصدي إلى هذا التوجّه السياسي الذي يجعل من التمييز ضد أقلية بعينها قانونا دستوريا، والرد الأوّلي بالنسبة لهم هو إدماج العنصر الديني داخل النظريات السياسية والاجتماعية كمكوّن أساسي لحياة الأفراد والجماعات حتى لا يؤدي إستبعاده على المستوى النظري إلى إقصاء معتنقيه على المستوى الاجتماعي العملي. دلالات الإقتراع بدورها حاولت الباحثة بيانكا روسولوت من معهد فوكسVOX بجامعة برن، المتخصص في تحليل نتائج التصويت في سويسرا بعد كل اقتراع، حصر الدلالات والأسباب التي قادت إلى فوز تلك المبادرة بأغلبية الأصوات. وتقول روسولوت: "يمكن ان ينظر إلى التصويت ضد المآذن على انه تعبير عن معارضة الناخبين لتوسع وانتشار الإسلام في سويسرا". اما كراهية الأجانب، "فلا يمكن ان تكون السبب وراء فوز هذه المبادرة بأصوات 57.5% من المقترعين، خاصة وأن تحليل المعطيات الإحصائية يثبت أن 40% من المؤيّدين في العادة لحقوق الأجانب قد صوّتوا أيضا لحظر المآذن"، بحسب هذه الباحثة. ومن هنا تخلصروسولوت إلى أن هذا التصويت "لم يكن موجها ضد المسلمين في سويسرا". استنتاج لا يتفق معه الخبير البريطاني الدكتور هشام هاليير، والذي علّق على ذلك في حديث إلى swissinfo.ch بالقول: "لمعرفة ذلك، علينا أن نسال أبناء الأقلية المسلمة عن شعورهم بعد صدور تلك النتائج". وواصل القول: "أكدت كل التقارير أن الأقلية المسلمة في سويسرا كانت مستهدفة، وعلينا ان نتأمل الجهود التي بذلتها هذه الأقلية للرد على حملات التشويه التي وجهت لها خلال تلك الحملة". ويتجاوز الامر بالنسبة لهذا الباحث الدولي مجرد الخوف من الإسلام وقيمه في مجتمع أوروبي، ويضيف: "أعتقد أن هناك الكثير الذي يجب قوله حول ما يعنيه هذا الاقتراع بالنسبة للإفراد الذين اقترعوا. والكرة في مرمى السويسريين غير المسلمين، وليس لدى المسلمين السويسريين". نتيجة الإقتراع بهذا المعنى هي تعبير منطقي عن التحوّلات العميقة والمتسارعة التي تمر بها المجتمعات الغربية، ومن ضمنها سويسرا "نتيجة ثورة وسائل الإتصال التي يسرت التواصل بين مناطق العالم المختلفة، وحتى لو لم تحدث أي هجرة نحو سويسرا، فإن البلاد سوف تواجه هذا التحدي لا محالة، لأن المجتمع عندما تواجهه تغيرات عميقة ومتسارعة، يحتاج إلى فترة لإعادة بناء هويته. وبهذا المعنى تحميل الأقلية المسلمة وزر أزمة الهوية هذه، هي محاولة للهروب من استحقاقاتها: تحديد من نحن، عبر قول ما ليس نحن". المسلمون "نحن" وليس "هم" ثم بغض النظر عن الاقتراع ونتيجته، التحدي الحقيقي الذي يطرحه هذا النوع من الاستفتاءات على المجتمعات الأوروبية هو- بحسب الدكتور هاليير- مسائلة قدرة هذه المجتمعات على التحوّل إلى مجتمعات متعددة الثقافات منسجمة ومتعايشة تجد فيها جميع المكوّنات الاعتراف المشترك وتتمتع فيه بالقدرة على الحصول على الحقوق بالتساوي. ولا يتعلّق الأمر هنا بحسب هذا الخبير بقضية او رؤية فلسفية طوباوية، بل بنمط اجتماعي قابل للتحقق في الزمان والمكان. ويجب ان "ندفع النقاش إلى نهاياته لاختبار حدود هذا التعدد وهذا التسامح الذي تتغنى به أوروبا في العقود الأخيرة: هل هذا التعدد فعلا في مستوى التحدي الذي يطرحه اليوم الوجود الإسلامي المتنامي في بلدان أوروبية كبرى مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا؟ وإلى أي حد تتمتع هذه البلدان بهوية مرنة قابلة للتوسع لتشمل هويات ثقافية ودينية جديدة؟!". الارتفاع إلى مستوى هذا التحدي بحسب الخبير البريطاني يظل مشكوكا فيه في لحظة لا يزال فيها الملف الإسلامي "حكرا على الدوائر الأمنية في الغرب، ولا تزال فيه وسائل الإعلام تغمز في ولاء المسلمين إلى بلدانهم، وتركز اهتمامها عما يفرّق أفراد هذه الأقليات عن بقية فئات المجتمع لا ما يقربهم منها"، على حد قوله. الأمر واضح بالنسبة لهذا المفكّر: "على سويسرا وأوروبا ان تفهما ان المسلمين الذين يعيشون فيها هم الآن "نحن"، وليس "الآخر". وبإمكان الحكومات تيسير عملية الانتقال هذه لو أرادت. ومن دون شك وسائل الإعلام أيضا لها دور حيوي في هذا المجال. وفي النهاية كل مكوّنات المجتمع المدني، بما في ذلك المسلمون، يجب ان تؤدي دورها". يعتقد البروفسور هشام هاليير أن المسلمين قد اصبحوا جزءً لا يتجزأ من المجتمعات التي يعيشون فيها. يعتقد البروفسور هشام هاليير أن المسلمين قد اصبحوا جزءً لا يتجزأ من المجتمعات التي يعيشون فيها. (warwick.ac.uk) أي اندماج بعد الحظر؟ يتعلق الأمر هنا بالآثار والانعكاسات المتوقّعة لاستفتاء 29 نوفمبر 2009 على عملية اندماج الأقليات المسلمة في سويسرا وفي البلدان الأوروبية المجاورة. ومن دون أي تردد ترى جانين داهيندن أنه "لابد في ضوء ما حدث إعادة التفكير في عملية الاندماج من أساسها، وأن ينظر إليها كعملية شاملة لا تتعلّق بفئة دون أخرى أكانت أغلبية أم أقلية". هذا الأمر مطلوب أيضا بحسب ماتيو جيانّي: "لأن الجدل الذي شاهدناه خلال حملة المآذن يجعل من الصعب الحديث عن الاندماج من دون تحديد هوية المجتمع الذي ُنطالب بالاندماج فيه، أو المعايير التي في ضوئها يقاس النجاح والفشل". ويتهم جياني وسائل الإعلام والأحزاب السياسية السويسرية بتعمّد إبقاء الغموض على هذا المفهوم كقولهم مثلا الإندماج هو "التكيّف مع القيم السويسرية المحلية"، او "سعي الأجانب للاندماج، وإستعداد الأغلبية المحلية للانفتاح"، لكن دون اعتبار الحقوق الدستورية الأساسية والمساواة أمام المواطنة والدولة أساسا لقياس هذا الاندماج. وحتى هذا الأمر قد لا يحل المشكلة بعد أن أصبحت القيم والحقوق الدستورية تقف على ارض متحركة يمكن ان تتسع لفئة وتضيق على أخرى بحسب هوى الناخب. إجراءات مطلوبة في ضوء ما سبق يفضَل كل من الدكتور هشام هاليير، والخبير السويسري ماتيو جياني النظر إلى الإندماج من حيث هو عملية متدرجة وتاريخية تتم عبر مبادرات سياسية عملية تتقدّم بها الدول والحكومات لتعزيز حقوق الاقليات وحمايتها، وكذلك عبر إجراءات متعددة وشاملة تلعب فيها كل مكوّنات المجتمع دورا فاعلا وحاسما. بالنسبة للنقطة الأولى يتساءل البروفسور ماتيو جياني: "لماذا لم تستخدم الحكومة السويسرية نماذج من الاندماج أثبتت فعاليتها ونجاعتها مع أقليات أخرى، لماذا لم تستخدم تلك الآليات في حالة الأقلية المسلمة؟". ويضيف: "ألم يكن بإمكان الحكومة الفدرالية او الكنتونات النسج على منوال كانتون نوشاتيل او جنيف اللذيْن استطاعا من خلال حوار هادئ بعيدا عن الإثارة والإعلام حل مشكلة المقابر بالنسبة للمسلمين؟ او (منح) حقوق التصويت في الإنتخابات بالنسبة للأجانب في كانتون فو؟". اما بالنسبة لهاليير،مدير مؤسسة فراسة للإستشارات بالمملكة المتحدة، فإن إنجاح عملية الإندماج تتطلب من الأغلبية الإقرار بحقوق الأقلية في الاحتفاظ بخصوصياتها، ومن الأقلية بذل الوسع في تمثّل قيم المجتمع الأهلي. على مستوى الإعلام والبحوث، تشمل هذه العملية تدخل الدولة للحفاظ على لغات الأقلية وحمايتها من الاندثار، وتدريس تاريخها في المؤسسات التعليمية، والاخذ في الإعتبار خصوصيات كل المجموعات البشرية. أما على المستوى السياسي، يدعو الكاتب البريطاني إلى محاربة اليمين المتطرف، ويرى أنه "من الخطأ تجاهل هذا اليمين المتشدد، او اعتباره طرفا هامشيا، ولا يجب ان يهوّن احد من خطورة هذا الخطاب والعنف الذي يبشر به، وهناك فرصة اليوم للقيام بهذا وقد لا يكون ممكنا بعد فوات الأوان". وهكذا، ربما يكون حظر المآذن قد إستقر نصه في الدستور السويسري، وقد يستغرق بت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في مشروعيته زمنا طويلا، لكنه فتح بلا شك بابا واسعا لبحوث علمية متعددة الاختصاصات، لن تزيدها الأيام حتما إلا توسعا وثراءً. عبد الحفيظ العبدلي - نوشاتيل - swissinfo.ch