نشطرت أمريكا، أغنى وأقوى دولة في العالم، ولا تزال، إلى أمريكيتين حِيال ما يجِب فِعله في الحرب مع أفقَر دولة على وجه البسيطة، وهذا الإنقسام شمل الإدارة الديمقراطية والكونغرس بمجلسيه والأمّة الأمريكية نفسها. ففي جانبٍ، يقِف الجمهوريون في الكونغرس بقِيادة مرشح الرئاسة السابق جون ماكين، (ومعهم بعض الشيوخ الديمقراطيين)، الذين يدعَمون "حسْم المعركة، عسكرياً، مع طالبان والقاعدة"، مهْما كلّف الأمر. وفي الجانب الآخر، يتخنْدق نائِب الرئيس بايدن وإلى جانبه عدد لا بأس به من الشيوخ الديمقراطيِّين، الذين يرفضون الغوْص في وُحول أفغانستان، ويفِّضلون قصر الحرب على الطائرات بدون طيار وعلى عمَل وحدات الاستخبارات على الحدود الأفغانية - الباكستانية. وفي منتَصف الطريق بين الجانِبين، يبرز موقِف وزير الدفاع غيتس، الذي يُريد أن يشقّ طريقاً ثالثاً بين ماكين وبايْدن، قِوامه عَدم قصر الحرب على "أجهزة التحكّم عن بُعد" (كما يُطالب بايدن)، وفي الوقت نفسه، عدم دفع عشرات آلالف الجنود إلى المعمعة (كما يريد ماكين). أما الشعب الأمريكي، فقد دلّت كل الاستطلاعات الأخيرة على أنه منقسِم هو الآخر حول هذه القضية، مع وجُود غالبية تَعتبِر أن هذه الحرب ليست ضرورية للحِفاظ على الأمن القومي الأمريكي. حيرة "أوبامية" أيْن الرئيس أوباما من هذه الفوْضى الأمريكية، التي تذكّر الكثيرين بالنِّقاشات الحامية حول جدوى حرْب فيتنام في ستينيات القرن الماضي؟ إنه في حيْرة كاملة من أمره. ولا عجب. فحرب أفغانستان ستكون هي الحدَث الذي سيحدِّد، ليس فقط وضعِيته في التاريخ، بل أيضاً(وهذا الأهَم بالنسبة إليه)، مصير ولايته الثانية في البيت الأبيض. فهو، إذا ما قَبِل منطق نائِبه بايدن ثمّ اندلعت أعمال إرهابية جديدة في الأرض الأمريكية، فإن كِيانه سيتزلْزل بفعل الحمَلات الواسِعة التي ستُشنّ ضدّه وتتّهمه بأنه هو المسؤول عن انكشاف الأمن القومي الأمريكي عبْر تهاوُنه في الحرب ضدّ القاعدة وطالبان. وهو (أوباما)، إذا ما رضخ لمطالب ماكين والعسكر، فسيغرق في مُستنقع حرب لا نهاية لها تؤدّي بدوْرها إلى إفقاده الولاية الثانية، خاصة إذا ما بدأت أكياس جُثث الجنود الأمريكيين تتدفّق على المطارات الأمريكية. ماذا إذن؟ ماذا سيفعَل؟ كل الدّلائل خلال الأشهر القليلة الماضية، كانت تّشي بأن أفغانستان ستتحوّل بالفعل إلى بُؤرة الصِّراع الرئيسية في الشرق الأوسط الكبير وقارّة أوراسيا، خاصة في حالِ نفّذ أوباما وعوده بسَحب القوات الأمريكية بسُرعة في العراق، "للتركيز على حرب أفغانستان"، كما قال مِراراً خلال حملاته الانتخابية. وكل الدّلائل كانت تُشير أيضاً إلى أن الإستراتيجية الأمريكيةالجديدة في أفغانستان، ستكون محفُوفة بالمخاطر، لسببيْن إثنين: الأول، التعقيدات الإقليمية والدولية الضّخمة التي تحيط بالأزمة الأفغانية، والتي حوّلت هذه البلاد المنكُوبة إلى ساحة قتْل وصِراع مفتوحين بين العديد من القِوى الخارجية. والثاني، استِمرار تردّد الولاياتالمتحدة، حتى في ظِلّ الإدارة الأمريكيةالجديدة، حِيال الأسلوب الأمثل لتحقيق "النّصر" في أفغانستان، على رغم قَرار أوباما الأخير بإرسال 30 ألف جندي أمريكي إضافي إلى هناك. بالطبع، كِلاَ السّببان مُترابطان في شكلٍ وثيق وكلاهما يستدْعي وجود إستراتيجية أمريكية عُليا قادِرة وحْدها على الإحاطة بكلّ جوانب الأزمة، كي تتمكّن من توفير حلٍّ شاملٍ هناك. فهل سيكون أوباما في وارِد بلْورة مثل هذه الإستراتيجية؟ "اللّعبة الكبرى" سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل، لكن قبل ذلك، فلنستعْرض معاً طبيعة الصِّراعات الخارجية المُحرِّكة للأزمات الداخلية في أفغانستان. إرتبط اسم أفغانستان في التاريخ بتعبير "اللّعبة الكبرى"، التي استخدمها الإمبرياليون البريطانيون لوصْف التنافُس الروسي - الإنجليزي في القرن التاسع عشر على لوحة شطرنج أفغانستان وآسيا الوسطى. بيْد أن هذه "اللّعبة الكبرى" آنذاك، تضمّنت أساليب صغيرة، اقتَصرت على عمليات استخبارية محدودة وحروب قصيرة شُنَّت بالبنادق ومن على ظهور الخيْل بين الرّوس والبريطانيين، ووقَف خلالها الشعب الأفغاني في صفوف المتفرِّجين. والآن، وبعد أكثر من قرن، لا تزال هذه اللّعبة مستمرّة، لكن عدد اللاّعبين هذه المرّة شهِد انفجاراً كبيراً وأصبحت بيادِق اللّعبة (الشعب الأفغاني)، مُنغمسة في الصِّراع وبات لهيب المعارِك في هذه البلاد العصِية على السيْطرة، يُهدَِّد بمُضاعفاتٍ تمَسّ كل قارّات العالم، كما أثبتت ذلك بوضوح أحداث 11 سبتمبر 2001 في واشنطن ونيويورك. باكستان تُعتبر اللاّعب الإقليمي الرئيسي في أفغانستان، والرئيس برويز مشرّف دعَم الغزْو الأمريكي لأفغانتسان عام 2001، لأنه رأى أن مِن مصلحته الاشتراك في الحرب ضدّ تنظيم القاعدة، مع مُواصلة دعْم حركة طالبان كورقة ضغْط على أفغانستان. وقد استمرّ هذا الوضْع لخمْس سنوات، إلى أن شهِد صيف عام 2006 تصاعُداً كبيراً في عمليات طالِبان، بعد أن فسَّرت إسلام أباد وطالبان قرار واشنطن بنقْل القيادة العسكرية إلى حِلف الأطلسي، على أنه تمهيدٌ لسحْب القوات الأمريكية، هذا يوضِّح أسباب تصاعُد أعمال العُنف الطالباني في المناطق القبلية الباكستانية على الحدود، وما تبِعها من عمليات كوماندوس أمريكية في هذه المناطق. بالطبع، هذا لا يعني أن طالبان مجرّد دُمْية في يَد إسلام أباد ولا يعني أن هذه الأخيرة لها الكلمة العُليا الأخيرة على الأولى. كل ما في الأمر، أن أجهزة الأمن الباكستانية تعيش هاجِس وجود مؤامَرة هندية - أمريكية للسيْطرة على أفغانستان، تمْهيداً لتقسيم باكستان نفسها إلى دُويلات مُتصارعة، ولذا، فهي تدعَم طالبان سرّاً لعرْقلة هذه المخطّطات. أما الهند، فهي الطرف الثاني المُهِم في اللّعبة. فهي افتتحت قُنصليات في مُعظم المدن الأفغانية كغطاء تعمَل تحته مُخابراتها العسكرية (التي يُطلق عليها اسم "جناح التحليل والابحاث")، لإضعاف النفوذ الباكستاني في البلاد، وهي تنفق الأموال بغزارة لدعْم حكومة قرضاي وتشجيعها على التصدّي لإسلام أباد. إيران، هي القوة الإقليمية الثالثة التي تنشُط في أفغانستان على جبهتيْن متناقضتيْن. فهي من جهة تدْعم واشنطن في حربها ضدّ القاعدة وطالبان، وهي من جِهة أخرى، تدعم القاعدة لمنْع واشنطن من التّمركز العسكري بشكل دائم في البلاد، خوفاً من أن يلِي ذلك إجتياح أمريكي لاحق لأراضيها. ثم هناك المملكة السعودية، التي تلعب هي الأخرى لُعبة مُزدوجة مُماثلة مع كل من باكستان - طالبان ومع أمريكا - حلف الأطلسي. وعلى الصعيد الدولي، ثمّة ثلاث قِوى رئيسية ناشطة في أفغانستان. فإلى جانب الولاياتالمتحدة، هناك الصين، التي تملك نفوذاً هائلاً على باكستان (على مستويَيْ التّسليح العسكري والدعم السياسي) وتقف معها، لمُوازنة القوة الهندية الصاعدة. ثم هناك روسيا، التي تعتَبِر الوجود العسكري الأمريكي الدائم في أفغانستان، تهديداً مُباشراً لأمنها القومي ولمناطق نُفوذها في آسيا الوسطى، في الوقت ذاته، الذي تدعَم فيه جهود ضرْب الأصولية الإسلامية في البلاد. لوحة معقّدة للغاية، أليس كذلك؟ حتماً، وهي تزداد تعقيداً حين نضَع في الاعتبار الانقِسامات الإثنية في أفغانستان، حيث نِصْف السكّان (في الجنوب والغرب) من الباشتون، والنِّصف الآخر، خليطٌ من الإثنيات الناطقة باللّغتين الفارسية والتركية، بيْد أن هذه الانقِسامات على خُطورتها، لم تمنَع الأفغان على مدار التاريخ من رفض كلّ المحاولات الأجنبية لاحتلال بلادهم. ففي عام 1838، حاول البريطانيون غزْو أفغانستان لضمِّها إلى إمبراطوريتهم، لكن الأفغان العاديِّين (وليس الأمراء الإقطاعيين) تصَدّوا لهم وذبحوا كل الجيش البريطاني الغازي، فإضطرّت لندن إلى وقْف الغزو. وفي عام 1878، غزا الإنجليز مجدّداً، ومجدّدا جاءت المُقاومة من الأفغان العاديِّين، فاضطر البريطانيون إلى الانسحاب، ولكنهم سيْطروا على المناطِق الحدودية وعلى السياسة الخارجية للبِلاد. في عام 1919، نشبت الحرب الأفغانية الثالثة، حين تقدّم الجيش الأفغاني نحو المواقِع الإمبراطورية البريطانية في الهِند، ممّا أجبر واشنطن على الاعتِراف باستقلال أفغانستان. وفي عام 1979، نشبَت الحرب الأفغانية الرّابعة بعدَ الغزْو الرّوسي، ممّا أدّى إلى قتل وجرْح وتشريد رُبع الشعب الأفغاني. وقد إنتهت الحرب بانسحاب الرّوس وبدَء انهيار إمبراطوريتهم. والآن، تستمِر الحرب الأفغانية الخامِسة، التي شنّتها الولاياتالمتحدة. فهل سيكون مصيرها أفضل من سابِقاتها؟ شروط الحلّ نعود الآن إلى سؤالنا الأول: هل سيكون الرئيس أوباما قادِراً على صياغة إستراتيجية عُليا جديدة للخروج من نفَق الحرب الأفغانية؟ الأمر سيعتمد على الطّرف الذي سينتصِر في الجدل الداخلي، الدائر الآن بين دوائر صُنع القرار الأمريكي. فإذا ما انتصر الجناح المتصلّب الذي يرى الحلّ في مُواصلة الصِّراع حتى الثَّمالة، ستكون أفغانستان ومعها باكستان وكلّ منطقة أوراسيا، على موعِد مع إنفجار كبير جديد. أما إذا ما انتصَر الجناح المُعتدل، فسنشهَد تحرّكاً دبلوماسياً ضخْماً يتمحْوَر حول مجلس الأمن ويكون هدفه الرئيسي: طمأنة الباكستانيين على أمْنهم الداخلي ومصالِحهم في أفغانستان، والعمل في الوقت ذاته على حلّ مشكلة كشمير، لنزْع فتيل التّفجير مع الهند، تمهيداً لتحيِيد أفغانستان عن صراعات نيودلهي - إسلام أباد. القِيام بخُطوات مُماثلة مع إيرانوروسيا عبْر التّأكيد لهما بأن واشنطن لا تخطِّط لإقامة قواعِد عسكرية دائمة في أفغانستان. تشجيع الصِّين والسعودية على لعِب أدوار اقتصادية أكبَر في آسيا الوُسطى، في إطار خطّة نُهوضٍ اقتصادي شامِلة في المنطقة. إجراء مُصالحات داخلية في أفغانستان، يتِم خلالَها دمْج طالبان في نظامٍ سياسي جديد، يُفترَض أن ينشَأ بعدَ انسحاب القوات الأطلسية من البلاد. قد تبدو هذه التوجّهات طوباوية أو مِثالية، لكنها في الواقع، المدخَل الوحيد للخروج من المأزَق الأفغاني، وهو بالمناسبة، مأزَق قد ينقلِب قريباً إلى ورْطة إستراتيجية كُبرى لكلّ الأطراف المنغمِسة حالياً في هذه "اللّعبة الكُبرى" الجديدة، أو هذا على الأقل، ما يراه الكاتب البريطاني تشارلز فيرنديل، الذي كتَب في صحيفة "الغارديان": "يقول لنا الجنرال بيرايوس، مكرِّراً ادِّعاءات أوباما وبراوْن، إن حرب أفغانستان هي حرْب ضرورية وأن هدفها تجنُّب العمليات الإرهابية، انطلاقاً من تلك البلاد، لكن هذه مبرِّرات زائفة كُلِياً". فيرنديل على حقّ بالطبع. فقوات حِلف شمال الأطلسي تقتُل اليوم عشرات آلاف الأفغان، بذريعة حِماية أرواح عشرات الغربيين الذين "قد" يُقتَلون غداً أو بعد عشرين سنة على يَد إرهابيين، يُفترَض أنهم يخطِّطون لهجماتهم في أفغانستان، لكن، هل التّخطيط في عصْر الإنترنت والهاتف النقال (الجوّال، المحمول) والنقل الجوّي السريع، يجعل المرء في حاجة إلى اللّجوء إلى الجِبال كالنساك أو الرّهبان، للقيام بالمهمة؟ أليست "السي. أي. إي" (التي تتعرّض الآن إلى المُساءلة في أمريكا حوْل ممارساتها التّعذيبية)، هي التي أقامت مدارِس التّدريب الجوّي في فلوريدا، التي تخرّج منها منفِّذو عملية 11 سبتمبر؟ ثم، حرب الضرورة هذه تخُاض ضدّ مَن؟ الأطلسيون يقولون إنها ضدّ تنظيم طالبان، الذي يعيش من وراء زراعة الأفيون وتمنح "القاعدة" الملاذ الآمن، لكن هذا أيضاً تبرير واهٍ، إذ ليس هناك في الواقِع تنظيمٌ طالباني واحد، بل 14 تنظيماً مُختلفاً يحمِلون الإسم نفسَه من دون أن تتوافَر لهُم هيْكلية تنظيمية مركزية واحدة، كل ما يجمعهم هو العداء للاحتلال الأجنبي ولحكومة قرضاي التابعة له. أما زراعة الأفيون، فالوقائع تُشير إلى أن طالبان قضت عملياً على هذه الزراعة في مِنطقة هيلماند في الفترة ما بين 1996 و2001 وأن مَن يقوم بالتّرويج لهذه الزراعة الآن (كما يؤكِّد فيرنديل)، هي حكومة قرضاي نفسها، التي اتّهمها المُعارضون الأفغان، بالقِيام بأكبر عملية تزْوير في التاريخ في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وماذا عن احتضان "القاعدة"؟ الأدقّ أن يُقال هنا، أن هذا التنظيم يُمكن أن يتواجد في أفغانستان بسبب الحرب الأطلسية فيه، لا العكس، وأن انتهاء هذه الحرب، سيُلغي فُرص وجوده فيها. فأفغانستان المستقِرة والمُسالِمة والمستقلّة، والتي تُصَبّ فيها الأموال الغربية (وغير الغربية!) الهائلة لخِدمة المجهود الحربي، لا يمكن أن تكون ملاذاً للقاعدة، فيما حكومتها الوطنية مُنهمِكة في إخراج البلاد من لَعنة كونها أفقر دولة في العالم، وهذا ما استنتجه التقرير الشّجاع الذي بثّته "البي.بي. سي" الأسبوع الماضي، وقالت فيه، إنه لو خصّص الغرب بلايين الدولارات التي ينفِقها لتمويل "حرب الضرورة" على حلّ مشكلة الفقر والفقراء في أفغانستان، لَمَا كانت ثمّة حرب هناك. بيْد أن الغرب لن يفعل ذلك، وهو إذا ما قرّر الإنفاق، فسيُخصصه للمَجهود الحربي الذي تتغذّى منه صناعاته العسكرية الضّخمة. ولأن الأمر على هذا النّحو، لن يتمكّن أوباما، حتى لو أراد، من طَيِّ صفحة الحرب الأفغانية بهدوء، بل هو سيكون مُضطراً إلى زيادة عديد القوات الأمريكية هناك أكثر ممّا فعل مؤخراً، وهذا ما سيجعله يغرق، وبالتدريج، في الفخّ الأفغاني الذي بات يُشبِه إلى حدٍّ بعيد ما كانه الفخّ الفيتنامي للرئيسيْن كينيدي وجونسون، وهذان الأخيران، للتذكير، كانا ديمقراطيين أيضاً. سعد محيو – بيروت – swissinfo.ch