التأمت القمة العربية الثانية والعشرون في مدينة سيرت الليبية بمن حضر من القادة والزعماء العرب،وقد بدا من الجلسة الافتتاحية أن الأقصى بلا حراس حقيقيين ،وأن القدس ليس لها إلا الله،وأن فلسطين ستظل واقعًا ثقافيًا وتاريخيًا في ضمائر أهلها،وكان الأولى بالأمين العام للجامعة العربية الدكتور عمرو موسى أن يعلن استحالة عقد القمة العربية قبل عقدها،وذلك عندما تأكد من عدم حضور ثمانية من القادة البارزين للبلاد ذات الوزن والتأثير الكبير في سياق العمل العربي الرسمي،مع احترامنا وتقديرنا لكل من حضر من القادة والزعماء. وكان عليه أن يختار شعارًا لقمة سيرت غير الشعار الخادع المخدر "نصرة الأقصى" الذي بدا وكأنه غلالة يستر بها العرب ضعفهم أمام المرحلة الجديدة من الهجمة الصهيونية لليهود على الأقصى والقدس وما تبقى من فلسطين،ويبدو أن الأمر تمهيد واقعي لقبول النتائج الكارثية التي سيضعها اليهود موضع التنفيذ بعد التمرد الظاهري لنتن ياهو على أوباما،وعودته مصرًا على المضي في سياسته الاستيطانية دون أن يبدو في الأفق بوادر إجراءات أمريكية حقيقية في دعم مسيرة السلام. وبدلاً من تقديم الأمين العام لمشروعٍ لفظي مدبجٍ بعبارات بليغة عن التنمية والإستراتيجية والروابط الإقليمية والأفكار اليويوبية عن الحاضر والمستقبل كان الأنسب له أن يصارح الشعوب العربية بحقيقة واقعها،ويطالبها بأخذ زمام المبادرة للتصدي لعدوها بالطرق التي تبتكرها وتمليها خصائص المرحلة الحالية من الصراع المصيري قبل أن تجد تلك الشعوب نفسها أمام واقع من المستحيل قبوله،كما تستحيل مقاومته. كان دور الأمين العام أشبه بحملة علاقات عامة للتغطية على الوهن القومي الذي يتخبط فيه الوطن العربي في ظل حالة التفكك والتفسخ والصراعات الدامية بين مكونات أقطاره،والتآكل الذاتي للقوى الفاعلة في هذه الشعوب. كان خطاب الأمين العام للجامعة أشبه بوثيقة علمية وعملية في ظاهره،ولكنه في حقيقته شعارات جوفاء صيغت بعبارات بليغة لتزيد المسافة بين الواقع وبين الأماني والتطلعات،ذلك لأن جميع القيادات العربية مرتبطة بالتزامات دولية في الحرب على الإرهاب خضوعًا للتوصيف الصهيوأمريكي للإسلام،ومعظم الأنظمة العربية تعتبر حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله وكل حركات المقاومة وفصائل الممانعة وجبهات مقاومة التطبيع ،وكل معارض يتمسك بالحقوق الوطنية ،أو يخالف سياسات الحكام كلها جماعات إرهابية،وما أسهل ما يحتمي الكثير من القادة ممن حضر أو تغيب بالشعارات والوصيفات والأحكام الجاهزة على المعارضين،وحسب توصيف الأمين العام فإن إيران تمثل مصدر خطر حقيقي يوازي الخطر الصهيوني الذي يتموضع النظام العربي لقبوله،وجرى تدجين وتهجين وترويض الشعوب وإعدادها لقبول اليهود ومعاداة إيران‘حسب خطة أوباما وميتشيل،وقد قطع العرب الرسميون في ذلك شوطًا بعيدًا،والمشكلة الحقيقية في ذلك هي في بعض قطاعات المثقفين والشعوب التي تجذر في عقيدتها الشعبية الرفض الثقافي لليهود المحاربين المتصهينين المحتلين لفلسطين. لقد وجد محمود رضا عباس مرزا على سبيل المثال في مؤتمر سيرت فرصة ثمينة ليمثل ما يسمى السلطة الفلسطينية،وهو في الحقيقة يمثل أسلوبًا من أساليب العمل الوطني الفلسطيني لا يرضى قبولاً،وترفضه غالبية الشعب الفلسطيني،هو وفريقه،ويصر النظام العربي الرسمي على فتح أبواب المؤتمرات والاجتماعات الرسمية أمامه،وهو رئيس قلة قليلة تتستر خلف اسم فتح،وخربت منظمة التحرير وكل التشكيلات الوطنية الرسمية للشعب الفلسطيني ،وشوهت نضاله وسودت صفحته،ولوثت تاريخه،ورغم انتهاء رئاسته رسميًا في يناير 2009م،إلا أن عمرو موسى وجامعته ومؤتمرات القمة ناقصة الأهلية القومية تفرضه على شعب لا يمثله، فيسهمون بذلك في زيادة حدة حالة الاستقطاب والانقسام والتنشتت التي تثبتها الجامعة العربية تنفيذًا للقرار اليهودي الصهيوني بعد عقد المصالحة بين السلطة وحماس،ويلصقون ذلك بحماس وغيرها من الفصائل. إن الخلل الحقيقي في قمة سيرت تجلى في ذلك الحشد من الحضور الدولي بينما بدت القوة العربية باهتة تفتقر إلى القدرة على اتخاذ القرارات المناسبة المكافئة لمواجهة لقوة الهجمة العدوانية الصهيوينة المدعومة من أمركا المتصهينة المتهودة،وكانت كلمات بان كي مون وبرلسكوني وميراتنوس وحتى الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي،كلها أشبه بأساليب التفافية على مطالب الجماهير العربية التي كانت حاضرة حضورًا باهتًا مضيعًا في عبارات الزعيم الليبي المثيرة التي يقذف بها في كل اجتماع عربي عام، وتكون نتيجتها المباشرة تشتيت الانتباه وتفريغ اللقاءات من مضمونها،وشخصنة العلاقات بين القادة،وغياب الموضوعية،وفقدان القدرة على الفعل المدعوم بقرار على مستوى التمثيل الحقيقي لتلك القيادات،وكأن القادة وجدوا ضالتهم للتهرب من المسؤولية القومية والتاريخية في تلك العبارات المستفزة التي عاصرتها الجماهير العربية مدة أربعين سنة منذ غيب الموت قائد الأمة العربية ورائدها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر حسين المري رحمه الله. الظرف الراهن يفرض موقفًا عربيًا قوميًا وإسلاميًا حقيقيًا بحجم التهديد الذي يواجهه المسجد الأقصى والقدس الشريف وما تبقى من القضية الفلسطينية لا يمثله محمود رضا عباس مرزا وسلطة رام الله،ولكن تمثله ثوابت القضية الفلسطينية والمدافعون عن هذه الثوابت،وما دام النظام الرسمي يتجاهل هذه الحقيقة ويتغافل عنها ،ويبتعد قصديًا عن مواجهة استحقاقاتها،فلن تجدي الاجتماعات والمؤتمرات والخطابات والعبارات المثيرة أو الحالمة والمشاريع ذات السقف العالي من التوقعات،والأولى إلغاء القمم العربية واستبدال الروابط التي تمثلها الجامعة العربية والمؤسسات التي تنتسب إليها بروابط أكثر واقعية أصدق تعبيرًا عن الواقع المعاصر للبلاد العربية لقد ملت الشعوب تلك الرتابة والإنجاز المنخفض المستوى قياسًا إلى معطيات الواقع وطموح الجماهير والنخب ،تلك الحالة التي بدأت بنشأة الجامعة،ولن تنته بزوالها،لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا. (... والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.)(يوسف 21) دكتور أحمد محمد المزعنن