شاكر الجوهري - الفجرنيوز:الإضراب المتكرر عن تناول الطعام مثل السبب المباشر لقرار الأجهزة الأمنية الأردنية الإفراج عن عصام البرقاوي (أبو محمد المقدسي) يوم الإربعاء، بعد أن أمضى في السجون ثلاثة وثلاثين شهرا دون توجيه أي اتهام له، أو احالته للقضاء. هذا ما يقوله المحامي عبد الكريم الشريدة عن اطلاق سراح المنظر الروحي الأول للفكر السلفي الجهادي في الأردن. لقد تم اعادة اعتقال المقدسي بعد اسبوع واحد من اطلاق سراحه نظرا لإنتهاء محكوميته في قضية بيعة الإمام، وذلك على خلفية مقابلة اجراها مع قناة الجزيرة، وتصريحات صحافية كان قد ادلى بها إلى صحف اردنية خلافا لقرار أمني يحظر عليه النشاط الإعلامي. ويضيف الشريدة أن المقدسي وعد السلطات الأمنية بالبقاء في منزله، وعدم الإدلاء بأي تصريحات صحافية. وعزا قرار الافراج إلى "تدهور" الوضع الصحي للمقدسي بعد أن "نفذ عدة اضرابات مفتوحة عن الطعام في سجنه احتجاجا على استمرار اعتقاله، دون محاكمه او توجيه تهمة محددة له". وقال الشريدة ان المقدسي نفذ اضرابا مفتوحا عن الطعام في شهر أيلول/ سبتمبر العام الماضي، ووعدته حينها الجهات الأمنية بالإفراج عنه في مطلع شهر رمضان الماضي، وعاد ونفذ اضرابا مفتوحا عن الطعام مرة ثانية الشهر الماضي ولم ينهه الا يوم الأحد الماضي. وأفاد الشريدة أنه تلقى رسالة من المقدسي أثناء فترة اعتقاله ذكر فيها أنه محروم من حق توكيل محام، وممنوع من الزيارة، وطلب منه الدفاع عنه امام الجهات القضائية. وكان المقدسي اعتقل في شهر تموز/مارس من عام 2005 اثناء بث مقابلة مسجلة اجرتها معه قناة الجزيرة تحدث فيها عن تيار السلفية الجهادية. ويعد المقدسي بمثابه الاب الروحي للزعيم السابق لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين "العراق" احمد فضيل نزال الخلايلة الملقب "ابو مصعب الزرقاوي " الذي قتل في غارة جوية أميركية في العراق في شهر حزيران من عام 2006. ويذكر أن المقدسي كان قد اعتقل مع زعيم تنظيم القاعدة في العراق أبو مصعب الزرقاوي عام 1994 على خلفية قضية "بيعة الإمام" وأفرج عنهما عام 1999 بعد تولي جلالة الملك عبدالله الثاني سلطاته الدستورية. وتنقل المقدسي بين باكستانوافغانستان قبل ان يستقر في عام 1992 في الاردن حيث سجن عدة مرات كان اخرها في السادس من شهر حزيران من عام 2005 اثر ادلائه بتصريحات صحافية . والتقى الزرقاوي بالمقدسي مؤسس المجموعة الاسلامية المعروفة باسم "التوحيد والهجرة-الموحدون" وتأثر بتعاليمه وبافكاره حول الجهاد ضد الكفرة، وبعد عده سنوات افترق الرجلان اثر "خلافات ايديولوجية". وكانت محكمة امن الدولة برأت ساحة المقدسي من تهم تتعلق بضرب مصالح اجنبية على ارض المملكة، مثل القضية التي اتهم فيها مع 13 من التيار السلفي الجهادي بالتخطيط لضرب القوات الأميركية. كما بُرئ من قبل في القضية التي عرفت بتفجيرات الألفية، والقضية الوحيدة التي حكم فيها كانت في قضية "بيعة الامام"، مع مجموعة من السلفية الجهادية. محمد أبو رمان، الكاتب المتخصص في قضايا التنظيمات الإسلامية نشر أمس تحليلا لقرار اطلاق المقدسي، وتطوراته المتوقعة قال فيه: أخيرا تم الإفراج عن عصام البرقاوي، الملقب بأبي محمد المقدسي، وهو من أبرز المنظرين للتيار السلفي الجهادي في العالم، ومن مؤسسيه في الأردن. المقدسي لعب دورا كبيرا في تدشين المنهج "السلفي الجهادي" الذي يقوم على تبني تكفير النظم والحكومات والدساتير العربية، ورفض العمل السياسي القانوني (كتابه ملة إبراهيم وأساليب الطغاة في تمييعها)، واتخاذ مواقف حادة أيضا من مناهج التربية والتعليم والتدريس (كتابه إعداد القادة الفوارس في هجر المدارس)، ورفض الديمقراطية والتعددية الحزبية والسياسية (كتابه الديمقراطية دين). بعد عودته من باكستان/ أفغانستان بداية التسعينيات الماضية أسس المقدسي نواة دعوته الجديدة على الساحة الأردنية متأثرا بأفكار ما يسمى "مدرسة فقهاء نجد" وبكل من سيد قطب والمودودي "مدرسة الحاكمية"، وانتشرت أفكاره بصورة سريعة بين فئات من الشباب بفعل الظروف السياسية والإقتصادية. ولم تكن مرحلة السجن بالنسبة إليه (19941999) سوى انطلاقة جديدة، سواء داخل السجون (التنظيم والترتيب الداخلي للحركة الجديدة، والتأثير على أفراد المهاجع الأخرى) أو خارج السجون (انتشار الأنصار والفتاوى والكتب التي تطبع بصورة سرية). كان خروج المقدسي من السجن عام 1999 نقطة تحول في مسار "السلفية الجهادية" في الأردن، إذ قرر قرينه وصديقه أبو مصعب الزرقاوي الخروج إلى افغانستان، حيث تحكم طالبان، وأخذ معه عددا من مفاتيح الحركة، وهي الخطوة التي عارضها المقدسي في حينه، وقد شعر أن الزرقاوي اختطف الحركة أو المشروع الذي نظر له واعتقل من أجله سنوات طويلة. الزرقاوي لم يكن يمتلك الخلفية المعرفية والفكرية مثل المقدسي، إلا أن الزرقاوي كان أقرب في طبيعته النفسية القاسية والحادة إلى أبناء الحركة من المقدسي الأميل إلى الدرس والخطاب والمطالعة. ولعل هذا الفارق الشاسع بين الشخصين كان المسمار الأول في شق العلاقة بينهما، إذ قام أفراد الحركة داخل السجن بعزل المقدسي عن الإمارة وتعيين الزرقاوي بدلا منه، واعتبروا المقدسي معلما ومرشدا فكريا، لكن خارج القيادة الحركية. بينما كان نجم الزرقاوي يلمع في عالم المجموعات "السلفية المتشددة"، بخاصة بعد احتلال العراق وانضمام صديق المقدسي "ابو أنس الشامي" إلى الزرقاوي في العراق، فإن المقدسي كان يتردد بين السجن والرقابة الأمنية خارجه، والصراع مع أفراد الحركة التي بناها، والذين اصبحوا أقرب إلى "خط الزرقاوي الجديد" من المقدسي. بدأ المقدسي بمراجعاته في مرحلة متأخرة من سجنه عندما أعد كتاب "الرسالة الثلاثينية في التحذير من الغلو في الكفر". ينتقد فيه أخطاء فكرية وسلوكية يقع فيها أبناء حركته. لكنه بلغ مرحلة متقدمة وحساسة في النقد عندما بدأ بالحديث عن أخطاء الزرقاوي وجماعته وعن الإختلافات المنهاجية بينه وبين الزرقاوي. يلخص المقدسي ملاحظاته النقدية الحادة، تجاه منهج الزرقاوي، في رسالته المشهورة "الزرقاوي.. مناصرة ومناصحة"، وهي الرسالة التي أثارت جدلا واسعا داخل صفوف حركته، ودفعت افرادا منها إلى تهديده داخل سجن "قفقفا" قبل أن يتم إطلاق سراحه بعد شهور عديدة من قرار محكمة أمن الدولة بعدم مسؤوليته في قضية أحد التنظيمات المسلحة. أبرز ملامح مراجعات المقدسي تتمثل في انتقاده لتوسع مجموعة الزرقاوي (سابقا) في العمليات الإنتحارية وفي استهداف المدنيين، وفي نزعة العداء الحادة تجاه الشيعة، وكذلك في الخطاب الإعلامي للزرقاوي الذي تعمد في البداية الخروج بأشرطة مصورة يقطع رؤوس الناس. وينتقد المقدسي كذلك انخراط الزرقاوي في التخطيط للعمليات المسلحة في الأردن، ويؤكد المقدسي أن منهجه وإن كان يسوغ العمل السياسي والقبول بشرعية الحكومات العربية إلا أنه يرفض اعتماد مبدأ العمل المسلح في الأردن، لانعدام شروطه، ولأنه بمثابة محرقة لأبناء حركته. المقدسي قطع نصف الطريق في المراجعات، وامتلك شجاعة النقد اتجاه خط الزرقاوي الفكري والحركي، والمشهد المأزوم لأبناء الحركة التي اسسها بنفسه، لكنها انقلبت عليه، تدريجيا، حتى أضحى، واقعيا، معزولا عنها، مشككا فيه، على الرغم أن أبناء هذه الحركة لا يزالون يستقون من كتبه وأدبياته..! التقيت بالمقدسي عام 2002، قبل أيام من إعادة اعتقاله، وإجريت معه حوارا مطولا، وتواصلت معه قليلا عبر الإنترنت، وأعتقد أنه يمتلك في داخله قناعات ورؤية أكثر تطورا وأفضل مما ينشره، ربما تحت ضغط وتأثير أفراد الحركة حيث ينظر اتجاه منهم، إلى كل ملاحظة نقدية، حتى لو كانت من معلمهم الأول، باعتبارها تراجعا وتخليا عن النهج ورضوخا للضغوط. ولعل هذه البيئة الداخلية السائدة هي أبرز العثرات أمام مراجعات حقيقية جذرية جادة يجريها المقدسي. المقدسي اليوم خارج القضبان، بيده أن يقطع النصف الآخر من الطريق، وينقذ عددا كبيرا من الشباب الذين تأثروا بأفكاره سابقا، ويأخذ بيدهم نحو طريق أقرب إلى الإعتدال والبعد عن العنف والمنطق العدمي الكارثي الذي دشنه الخط "السلفي الجهادي" (الوعاء الفكري والحركي لشبكة القاعدة) خلال السنوات الماضية. الفرصة سانحة حاليا بعد مقتل الزرقاوي وتراجع القاعدة في العراق إلى مرحلة شديدة الحرج والضعف بخاصة أن أبناء هذا النهج يفتقدون إلى قيادة أو منهج. وينهي أبو رمان متسائلا هل يقود المقدسي مراجعات حقيقية يكمل فيها ما بدأ به سيد إمام شريف (أمير جماعة الجهاد سابقا)، وقبله قادة الجماعة الإسلامية في مصر أو "كتاب القاعدة" في السعودية، فتكتمل حلقة من المراجعات العالمية للسلفية الجهادية، أم أن المقدسي سيقف عند حدود ما يقرره له الإتجاه المتشدد من أبناء حركته، ويبقى يدور في حلقة مفرغة تاركا اتباعه في فوضى نفسية وفكرية..؟! ويجيب: ما يزال أمام المقدسي مهمة حقيقية يمكن أن يؤديها، وهو مرتاح الضمير، إذ ينقذ عددا كبيرا من أتباع "السلفية الجهادية"، وهو يحمل اليوم شعور الأب بمرارة وجود ابنه في أحد السجون الأميركية، ما يشطر فؤاده في كل لحظة.