لقد مضت أربعة عقود تمكنت خلالها القوى الأوروبية من اختراق النظام السياسي العربي والإسلامي، وتكرَّست داخل عقول ما يُسمى التنويريون والحداثيون فيها ثقافة التجزئة والإقليمية والوطنية العنصرية التي لا يظهرها أبناء الأمة إلاّ تجاه بعضهم البعض، وتبع ذلك مرحلة التحكم الصهيوني الكامل بمصير الأمة العربية ومقدراتها عبر الأنظمة السياسية القُطْرية المثقوبة والنُخب الفكرية والثقافية المصابة بالارتهان الفكري والانبهار الحضاري للغرب و باعتبار تلك الأنظمة السياسية ونخبها الثقافية لم تكن سوى شكلاً أكثر تخلفاً وعفونة في التبعية للغرب وللصهيونية. وهكذا فإن قيام أساس منهجي فكري وثقافي غربي متصهين كان الأرضية والقاعدة لممارسة تلك النخب السياسية والثقافية لشتى صنوف العبث لتبرير الاستبداد، والمفاوضات عديمة الجدوى لتبرير السمسرة على بيع الأوطان، وكذلك التعاون مع العدو لقتل الشقيق، وهذا يدل على أن فقد المناعة الحضاري قد اعترى تلك النخب السياسية، بينما يتمتع جزء كبير من الجماهير العربية بمقدار من الحصانة الفكرية والوقاية الحضارية ذلك بفضل العقيدة الإسلامية والقرآن الكريم، ومن الوقائع الدالة على ذلك استمرار المحافظة على الدين واللغة العربية وتحرير الأرض بعد الحقبة الاستعمارية الاحتلالية البغيضة في المغرب العربي، مثال آخر هو تمكن الحركة الإسلامية الفلسطينية تحديداً من تجديد الخطاب الإسلامي والرقي به إلى مستوى التحدي لأعداء الأمة وهو ما أذهل العالم كله خاصةً أن الصهاينة اعتقدوا أن الأمور قد استقرت لهم بعد أن قاموا بتدجين حركة فتح تماماً وبوجود تنظيمات اليسار الفلسطيني المتصهين أصلاً. إن تراكم المواقف الظلامية والأفكار العبثية التي حددت التوجه السياسي لهذه الطبقة السياسية العربية الحاكمة و الطبقة الفكرية التي تقف ورائها وتقوم بالتنظير لها، قد صبغت النظام السياسي العربي المتصهين بمجموعة من السمات التي باتت أهم معالم ذلك النظام ويمكننا أن نوجزها بالآتي : 1- الانتماء للغرب والصهيونية على حساب الانتماء الإسلامي والعربي والوطني : ويتجلّى ذلك بتمسّك تلك النخب حرفياً بكل ما ورد في اتفاقيات سايكس- بيكو من حدود قُطرية وتجزئة إقليمية للوطن العربي الكبير ومازال هذا الالتزام قائماً حتى يومنا هذا رغم أن الوحدة العربية واجب إسلامي وعربي، وقد أجمعت كل القوى السياسية العربية بشتى أطيافها الليبرالية منها واليسارية على بقاء التجزئة، أما القوى الإسلامية والقومية مازالت تناضل من أجل تحقيق الوحدة العربية وهنا نود أن نذكر تآمر القوى الليبرالية العربية لإفشال الوحدة المصرية السورية، كما نورد مثالاً آخر عن الأحزاب الشيوعية العربية التي كانت رحبت جميعها دون استثناء بقيام دولة للصهاينة في فلسطين . 2- التوجهات الانفصالية ضمن القطر أو الإقليم الواحد :إن الأحزاب الليبرالية أو اليسارية لا فرق ليس لديها أي انتماء وطني، ولدينا أدلة من الجزائر والمغرب حيث تدعو الأحزاب الليبرالية المدعومة من فرنسا إلى إنشاء دولة أمازيغية مستقلة، دون أن ننسى ما ورد في صحيفة الحزب الشيوعي العراقي "القاعدة" العدد (2) الصادر في منتصف آذار 1953م في البرنامج الذي تبناه الحزب الشيوعي نجده يعترف "للشعب الكردي بحقه في تقرير المصير بما في ذلك حق الانفصال"، وأيضاً ما ورد في أدبيات الأحزاب الليبرالية واليسارية السورية المعارضة حالياً ومطالبتها بانفصال الجزء السوري من كردستان، وكذلك الأحزاب الليبرالية الانعزالية الطائفية اللبنانية التي يطالب أحدها بدولة مسيحية والآخر بدولة درزية والثالث بدولة مارونية و يجمعها ناظم واحد هو التصهين والولاء لإسرائيل وليس للبنان. 3- ممارسة التوحش والإجرام ضد الخصوم شعوباً أو تنظيمات : لقد مارس هؤلاء المتصهينون من أنظمة حكم أو أحزاب يمين ويسار عربية في مراحل استقوائهم على الشعوب العربية مختلف صنوف الإجرام والوحشية لأنهم يعيشون حياة تبعية واستلاب فكري للمناهج الغربية لإضاعة الهوية العربية الإسلامية من جهة، بينما ينفذون أجندات الغرب والصهاينة من جهة أخرى، ولعل تلك المجازر التي ارتكبها أعوان أمريكا الجعفري والمالكي وعلاوي ومقتدى الصدر والبشمركة الكردية ضد العرب في الفلوجة والبصرة والموصل وفي تجمعات الفلسطينيين في بغداد إضافة إلى الاعتقالات والتعذيب والقتل لأبناء فلسطين في سجون النظام المصري والحصار الذي يفرضه ذلك النظام على غزة، وزد على ذلك ما تقوم به القوى الانعزالية المتواطئة مع الصهيونية والغرب في لبنان من هدر لكرامة الشعب العربي الفلسطيني وما قامت به من مجازر في صبرا وشاتيلا تماثل ما فعلته إسرائيل وزيادة، ولعلنا نذكر ما صرح به اليساري ياسر عبد ربه أحد أقطاب سلطة رام الله لجريدة الأخبار عدد الاثنين 26 كانون الثاني 2009 ((إن وقف الحرب الإسرائيلية على غزة بهذه الطريقة هو خطأ كبير)) ولدينا الكثير من الشواهد. 4- العداء لممارسة الشعوب حريتها وكرامتها : فما أن تفوز القوى الإسلامية في أي انتخابات فإن هؤلاء العلمانيون ينقضّون عليها ويفترسونها وهذا ما حصل بعد الانتخابات البلدية والنيابية في الجزائر بعد فوز جبهة الإنقاذ وفي فلسطين بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية، إضافة إلى محاولاتهم المستمرة للانقضاض على حزب العدالة في تركيا وقد لاحظنا كيف يقدم العلمانيون شكوى للمحكمة الدستورية التركية ضد مشروع قانون يهدف لتخفيف قبضة المجلس العسكري على الحكم وهذا من المضحكات المبكيات أن يطالب حزب سياسي بإبقاء التسلط العسكري على رقاب الشعب، وإبقاء حرية التعري للنساء ومنع حرية الحجاب، وكما تمارس الأنظمة الحاكمة وفئات العلمانيين العرب الاعتراف بسلطة عباس وحكومته القمعية وعدم الاعتراف بسلطة حكومة غزة المنتخبة والشرعية. 5- القصور الفكري واقتفاء النتاج الثقافي والفكري الغربي والانقياد السياسي : لا أحد ينكر أن تطور المدنية الغربية أوجد حركة فكرية هائلة وآليات للتجديد والتحديث الدائم في مختلف جوانب الحياة وهذه الحركة الفكرية العلمية منتج طبيعي ملائم ومتناسب تماماً مع طبيعة المجتمعات الغربية وعاداتها وظروفها ومنسجم أيضاً مع أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية، وهذه الأنظمة والحركات الفكرية تتنافى مع طبيعة الحياة الاجتماعية العربية الإسلامية، لذلك فإن محاولات الأدلجة وفرض تطبيق الأفكار الغربية الرأسمالية منها أو الاشتراكية على مجتمعاتنا قد باءت بالفشل لأنها تخالف سنن الكون وتسير في اتجاه معاكس لحركة التدافع الحضاري والحراك البشري، فربما تمكن الحداثيون والعلمانيون من استيراد الأفكار لكنهم حتماً لن يتمكّنوا من استحضار الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزت تلك الأفكار، وهذا أحد الأسباب الرئيسة التي حالت دون نجاح الفئات المعتنقة للفكر الليبرالي أو الاشتراكي والمنبهرة بالحضارة الغربية بمعنى أنها غير قادرة على الإنتاج والإبداع بل تقتصر مهمتها على تلقف ما ينتجه الغرب. لعل الأحداث الجسام التي ألمَّت بالأمة أظهرت بتمايز تام أن الفئة العلمانية المُرتهنة تنحاز دائماً إلى جانب الغرب والصهاينة، و تعمل على تجزئة الوطن العربي وتمارس الإجرام والتوحش ضد أبناء الأمة، وتقف حائلاً بين الشعوب العربية وبين حريتها واستعادة كرامتها، وفي كل مواجهات الأمة ضد الأعداء يتبخر هؤلاء ولا يظهرون إلاّ على ظهر دبابة أمريكية أو تحت حراب المحتل الغاصب، ولا يصمد في الساحة غير أبناء العروبة والإسلام فحسب{ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}.