توصُّل البرازيل وتركيا وإيران إلى اتفاق حول دورة تخصيب اليورانيوم الإيراني يحمل عدّة أبعاد ومعانٍ. في المقدّمة نجاح الدول الثلاث في إيجاد حل لمعضلة حوّلتها أميركا إلى دولية تتجّه نحو العقوبات وصولاً إلى الحرب. وقد شاركت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانياوروسيا والصين في تأزيمها بالاتجاه نفسه الذي أرادته أميركا، ولو معدّلاً نسبياً من جانب الروس والصينيين. وبالطبع وقف الكيان الصهيوني والحركة الصهيونية العالمية وراء هذا التوجّه وقد راحا يصبّان الزيت على ناره. علماً بأن الدول الخمس زائد واحدة (الدول الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن زائد ألمانيا) صنعوا مشكلة دولية من تخصيب إيران لليورانيوم للأغراض السلمية. علماً أنه حق لها كفلته الاتفاقية الدولية للطاقة النووية. منذ قيام الكيان الصهيوني تبنّت استراتيجية الدول الكبرى تثبيت ميزان قوى عسكري يتفوّق فيه الجيش الصهيوني على كل الدول العربية مجتمعة. وهو الذي يفسّر المحافظة على هذا التفوّق طوال مرحلة الحرب الباردة، كما تعدّيه إلى امتلاك الكيان الصهيوني للقنبلة النووية وإنتاجها على نطاق واسع. أما من جهة أخرى فإن الاستراتيجية الدولية التي حافظت عليها الدول الإمبريالية منذ عدة قرون تمثلت في احتكار التكنولوجيا والصناعة ومنع تمكين الدول التي خرجت من عهود الاستعمار المباشر من الوصول إلى العلوم والتكنولوجيا وكسر حاجز التصنيع. وقد خصّت هذه الاستراتيجية الدول العربية والإسلامية بتركيز أكبر من خلال إبقائها مجزأة، متعادية، ممنوعة من دخول عالم التصنيع أو السير في طريق النهضة العلمية. ثمة دلائل واقعية كثيرة على استخدام القوّة العسكرية أو الحصار أو العقوبات على الدول التي حاولت الخروج على هذه الاستراتيجية. فهذا ما حدث مع مصر في الحربيْن اللتيْن شُنتا لإجهاض تجربة النهوض في مرحلتيْ محمد علي في القرن التاسع عشر، وجمال عبدالناصر في القرن العشرين. وطبّق الأمر نفسه على العراق وتركيا وإيران. ولم يشذ في مرحلة الحرب الباردة غير ماليزيا وإندونيسيا لأسباب تتعلق بمواجهة الشيوعية في جنوب شرقي آسيا. فأميركا تعمّدت دعمهما لتصبحا من النمور الاقتصادية ردّاً على ما كان يسمّى الزحف الشيوعي في آسيا. وهو ما سبق أن طبّق مع اليابان كذلك. فالمراحل التي شهدت محاولات ناجحة من قِبَل بعض الدول العربية والإسلامية في كسر الحصار الصناعي والعلمي والتكنولوجي اتّسمت إما باتباع سياسات مناهضة الإمبريالية وانتهاج خط الممانعة، وإما في ظروف دولية أمكن فيها اختراق الحصار وهو ما يحدث الآن مع تركيا وإيران في ما يتعلق بكسر الحصار الصناعي والعلمي والتكنولوجي والسير باتجاه نهضة اقتصادية وعلمية، وإما من خلال قوّة أمّة كبيرة موحدّة مثل حالتيْ الصين والهند. من هنا يجب أن يُفهم التركيز الخاص الذي يوضع ضد امتلاك إيران القدرة على التخصيب النووي. ولو في الحدود السلمية الصارمة، كما يجب أن يُفهم لماذا يُصار من جانب أميركا وهي في مرحلة انحسار نفوذها إلى المساومة مع روسيا والصين لفرض عقوبات على إيران. وقد أثبتت التجربة الإيرانية أن هاتيْن الدولتيْن تبيعان مواقفهما مقابل صفقات تعقد مع أميركا والغرب، ولكن بقي الأمر حتى الآن ضمن حدود لا تصل إلى التوافق التام ضدّ إيران. المعادلة العسكرية والسياسية والاقتصادية التي تشكلت في العشر سنوات الأخيرة أخذت توسّع الآفاق أمام دول ناهضة من العالم الثالث لتطوّر قدراتها وأدوارها السياسية الإقليمية. وقد وقفت في مقدّمة هذه الظاهرة كل من البرازيل وفنزويلا وجنوب إفريقيا كما تركيا وإيران وسوريا. وبهذا يكون الاتفاق الذي توصلت إليه كل من تركيا والبرازيل وإيران معبِّراً عن خروج هذه الدول المهمة من إطار الهيمنة الأميركية-الدولية التي أرادت أن تحتكر من خلال مجموعة 5+1 (أميركا وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا، زائد ألمانيا) معالجة موضوع اليورانيوم الإيراني. ففي الوقت الذي تريد فيه كل من أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا انتزاع اليورانيوم كلياً من يد إيران ووضعه تحت رحمتها، وفي الوقت الذي سعت فيه كل من روسيا والصين إبقاء المشكلة بعيدة من الحل لتبقى بقرة حلوباً بالنسبة إليهما، تقدّمت كل من تركيا والبرازيل وبمبادرة إيرانية ذكية لإيجاد حل للمشكلة يقطع الطريق على التأزيم الذي تسعى إليه بصورة خاصة إدارة أوباما ومن ورائها اللوبي اليهودي الأميركي وحكومة نتنياهو، ويجهض ما عقد من صفقات من تحت الطاولة، أو من وراء الظهر، بين أميركا وكل من روسيا والصين. كان من المفترض أن ترحب الوكالة الدولية للطاقة النووية بهذا الاتفاق، وكان من المفترض للدول ال5+1 أن تقبل به، ولو على مضض، إلاّ أن المجموعة الأخيرة وبتواطؤ مع الوكالة الدولية للطاقة النووية ومع الأمانة العامة لهيئة الأممالمتحدة راحت تناور وتضع العصي في دواليب الاتفاق لأن الهدف الحقيقي ليس حل المشكلة، وإنما التأزيم وكل طرف لأسباب تتعلق به فالبعض يريده تأزيماً لخنق إيران وفرض التناولات السياسية عليها ليس في موضوع اليورانيوم فحسب وإنما أيضاً في موضوع سلاحها التقليدي ومواقفها من دعم سوريا والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية. وهذا البعض بالطبع هو أميركا والكيان الصهيوني والدول الغربية بعامّة. أما أمانتا الوكالة الدولية وهيئة الأمم فتمثلان التبعية بأحقر صورها. ولكن المفاجئ فهو قبول روسيا والصين أن يُرّد على الاتفاق بإرسال مشروع عقوبات ضدّ إيران إلى مجلس الأمن، إذ كان من المفترض تأييد الاتفاق ودعمه ولو للإبقاء على ماء الوجه واحترام النفس. على أن ما فعله الاتفاق التركي-البرازيلي-الإيراني، ورغم طرح الموضوع على مجلس الأمن سيراً في طريق العقوبات، كان ضربة جديدة للسياسات الأميركية-الصهيونية، وإحراجاً شديداً لكل من سيوافق على العقوبات ولا يقبل بهذا الحل الذي قدّمه الاتفاق. باختصار، لقد أصبح موقف إيران الآن أقوى بهذا الاتفاق وغدا الدور التركي والبرازيلي أكثر فاعلية في السياسات الدولية والإقليمية به، وبه دخل العالم مرحلة جديدة بغض النظر عما سيقوله مجلس الأمن، الذي راحت سمعته تسوء أكثر فأكثر. إنه قفزة عالم ثالثية ذات أبعاد استراتيجية تاريخية إذا ما صار نهجاً عالمياً. *منسق عام المؤتمر القومي الإسلامي العرب القطرية 2010-05-21