أعتقد صادقا جازما حازما أن القائد الأعلي لجميع النبوات ومجمل الرسالات صلي الله عليه وسلم قد نصح الأمة وأدي أمانة الكلمة والفعل إزاء الآدميين من النساء والرجال الذين أرشدنا إلي التعويل علي كلامهم بعد كلامه والركون إلي آرائهم في المرسل من المصالح والمستحدث من الوقائع، فما أوسع رحاب الدين الخاتم وما أصدق المؤرخ الألماني الذي رأي في التاريخ حاصل الممكنات التي تحققت ، وما أخطر أن أقول منذ البداية ان الممكنات العربية المستقبلية القابلة للتحقيق علي مستوي الوعي والفعل للشارع العربي والمواطن العربي والقصر العربي تلامس تخوم العدم والمراوحة في الدائرة النارية للعطالة الحضارية الصرفة، والفعل السياسي الارتدادي والمستهلك لحقبة متخلفة من التاريخ العربي، التي بقيت تجتر تجارب تعاطي الحكم وفق ميكانيزمات غير ذات أرحام بواقعنا الأرضي والزمني الراهن إلا من حيث الشكل دون المضامين في إطار شيخوخة فلسفة للحكم تعمل آليا علي تأبيد المسلمات الضامنة لاستمرار رفض التغيير الثقافي والسياسي حتي في حدوده الدنيا الضرورية لحياة الأمير والإمارة خارج المجال الغوانتانامي الذي يطبع العلاقة بين المواطن العربي والقصر العربي. إن طموحات الشارع العربي تتمثل بالتطلع الي سلطة وسطية تتمتع بقدر كاف من الوطنية والحس المدني المرهف والقدرة المادية والأدبية علي توفير الماء والكلأ! بالمشاركة المباشرة والحرة للمواطن في تقاسم المؤاكلة الحسنة والمشاربة الجميلة ، وما أعزهما أيامنا هذه، عبر برلمانات ذات كرامة وسيادة وهيبة تسمح لها بمساءلة حكومة الأمير وإن علي استحياء خاصة فيما يتعلق بالاستلاب السياسي والتبعية المخلة بكرامة الأمير والمأمور. هذه بعض الميكانيزمات التجديدية التي أخشي أن تدخل الرؤوس الكبيرة العربية الخيمة وعودة كل أمير إلي همومه القسرية دون التفكير في مصير القدس عاصمة الدولة البوشية وفي الجولان المغصوبة بقوة السلاح والفرجة الأوروبية وسلام إسرائيل واندماجها في الأسرة الأوسطية. وعند هذا الحد أدرك تماما أنني أمسيت أخرف تخريفا قد يجعلني عرضة للاتهام زورا بأنني أقلب المواجع العربية من أجل التعمية والتعتيم علي مصائر يتامي الفلسطينيين وأرامل الفلسطينيين وتجويع الفلسطينيين عمدا، وكل قمة والموت للفلسطينيين والإسرائيليين وعلينا الفرجة وعليكم ولكن ليس إلي يوم الدين! في مثل هذه الأيام من العام الماضي ارتدت الرياض أبهي حلتها وزينت شوارعها أعلام العواصم العربية بما في ذلك راية الجماهيرية العظمي التي اختار يومها زعيمها المشاكس قمة فضائية شهدها العرب في المشرق والمغرب عامتهم وخاصتهم، وتعانق الملك عبد الله والرئيس الأسد عناقا غنت له الغوطة ونامت له نواطير نجد وبغداد وبيروت هادئة.. ومن الرياض إلي دمشق الزاهية هذه الأيام بالأعلام العربية استعدادا لأول قمة يعتزم زعماء الوطن العربي إقامتها في سورية، حيث جرت مياه كثيرة في نهر العلاقات السعودية السورية الذي كانت مياهه صافية عذبة طوال حكم الأسد الأب وآل سعود، تحول بموجبها لبنان المتعدد المشارب السياسية بكل تلويناتها مستحيلا إلي دولة فاشلة خذلها سبتمبر الأسود وأعجزها عن مجرد انتخاب ربان ينوء بسفينة اللبنانيين عن الارتطام بثلوج النكوصية التي عمل علي إذابتها قبل الأوان غابات العرب المدفونة في تراب الخليج. ولقد حيرني الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطابه عندما أعلن أن 5 سنين من الحكم العسكري الأمريكي في ثاني أكبر دولة عربية في الخليج يعد نجاحا كبيرا للولايات المتحدة. لم أعجب من إعلان سيادة الرئيس عن النصر المبين علي الإرهاب والقاعدة والذي كلف الجيش الأمريكي أربعة آلاف من شهداء الديمقراطية، في حين أن الشعب العراقي نكب في مليون واحد من بني الإنسان حسب بعض التقديرات. ولعل سيدي الرئيس قد نسي وهو يلقي خطابه أن هذا النصر كلف خزينة أمريكا وحدها دون خزائن التحالف الأخري ثلاثة تريليون من الدولارات، وليسمح لي سيادته أن هذا العدد الذي أجهل كم يستلزم من صفر لكي أتمكن شخصيا من قراءته يكفي للقضاء علي الفقر نهائيا في كل الوطن العربي. ولئن كنت في وضع لا يسمح لي بمحاسبة السيد الرئيس الذي جاد علينا بمصالح هذا النصر الوهم والمتلخص في إزاحة صدام حسين عن الحكم وكف أذاه عن الجيران، علما بأن هذين العنصرين لم أسمع لهما ذكرا، مثلي مثل أفراد الشعب الأمريكي وبقية شعوب العالم يوم أن قرر البيت الأبيض الأمريكي شن حرب علي العراق بتعلة وجود أسلحة دمار شامل، التي ما زالت جيوش التحالف تبحث عنها تحت عباءات النساء وجلود الرجال والشيوخ والأطفال. ولقد فعلت بي قنواتنا البريطانية خير ما يفعل الناصح الأمين بمنظوريه حين عرضت علي أبصارنا وعلي قلوبنا وعلي أسماعنا ضابطا أمريكيا يصفي جسديا أسرة تتكون من أطفال وشيوخ ونساء بالرصاص البارد، حيث أعدمهم في أزقة حديثة فقط لأن مقاوما عراقيا قتل جنديا أمريكيا واستطاع أن يفلت، ثم رأينا بعد ذلك هذا الضابط يسبح في بحر دموعه بين زملائه: ويحي ويحي كيف سأكمل مشوار حياتي وأنا في مقتبل العمر وقد صفيت جسديا أطفالا وأباهم الشاب وجدهم وجدتهم ثم مددت يدي لأنتشل الزوجة الشابة وهي تنوح فوق جثة الشهيد الزوج، وهذه إحدي معالم النصر التي حدثنا عنها الرئيس بوش في خطابه الذي لم يخل من نبرات المنتصر.. ولا شك أن الكثيرين من أمثالي سوف تفشل كل محاولاتهم لفهم هذا النصر. هذا عن النصر العسكري الذي تحدث عنه الرئيس جورج بوش، ولكن ما الذي يمنعني من الحديث عن انتصارات حلفاء الإدارة الأمريكية وأقصد بهم الحكومات العربية جملة التي يدور معظمها في فلك الولاياتالمتحدة بل إن بعض أنظمتها قد تتهاوي إلي السقوط لو لم تكن مدعومة بأمريكا التي لم يسفر جميع قادتها منذ الحرب العالمية الثانية عن مثل هذه السياسات الخاطئة وما انطوت عليه من حقد وضغينة؟ وتعال ليس علي الحكام العرب فحسب، ولكن علي الواقع الذي لا يتمتع بواسع من المنطق يسمي بموجبه هزيمة عسكرية وسياسية أثقل من فيتنام، وأكاد أجزم أن الشعب الأمريكي ومن ورائه شعوب العالم سوف تتألم ولأحقاب طويلة من امتدادات هذه الحرب الخاسرة عبر الزمان والمكان. وإني لأتحرق أسفا لأن بعض الساسة في أمريكا وحتي في أوروبا لا يزالون ينظرون إلي هذه الحرب علي أنها حرب شرعية كما لو أنها قامت لترد عدوانا أو تدافع عن شعوب مقهورة بشهادة بوش نفسه، غائلة الجوع البطني منه والروحي والنفسي، حيث أن لا أحد ينكر أن الشعوب العربية محكومة بدول ببساطة لا تؤمن بأن هذه الشعوب تستحق أن تحكم بغير العصي، وإني لأتحدي كل سياسيي العالم أن يتجرأ أحدهم بالشهادة علي غير ما ذهبت إليه. وما يدمي قلوب العرب ويضنيها أن قمة زعمائهم الذين قست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، في مرحلة من التاريخ أهم مميزاتها شيخوخة الأرض وعقمها إذ لم يعد بمقدورها أن تلد من يعقل فينظر إلي ما هو أبعد من الرياض والقاهرة وتل أبيب وعواصم أخري كبيرة مكتنزة لكنها تفتقر إلي أدني ما يتبقي للإنسان من قيم العدل والتراحم، حتي وهو يجدف عوالم التيه والغطرسة والكبرياء والجحود والخلود إلي المصالح الأرضية ليتفرج سبع من البلايين البشرية علي المحارق المصغرة المعاصرة التي يشعلها في غزة أحفاد من نجا من محارق النازيين ليذكرونا بمآسي اليهود في إسبانيا وألمانيا ولكن علي أراضي غزة الفلسطينية بفارق بسيط في عدد من قتلوا وعذبوا وأحرقوا من اليهود وأحسب أنهم بالملايين يقابلهم ملايين من الفلسطينيين قتلوا وشردوا وعذبوا. ويا لها من مفارقة متعجرفة إذ أن المأساة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون ونري فصولها حية علي الشاشات وعبر الهوائيات تعرض يوميا أمام أنظارنا كأفلام العنف الأمريكية لا تطرف لها عين الزعيم ولا تثير في أرباب الديمقراطيات الضاربة جذورها في عمق الأرض حتي مجرد التحرك المصلحي لإنهاء مأساة إنسانية بلا أهل وبلا نصير وبلا نفير، فقد مات أهل الخليج كلهم جميعا أو أميتت قلوبهم واهتزت أركان المشروع الغربي برمته فيما بعد الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) الأليم، فلم يعد لديهم من قيم التمدن ما يكفي للإغراء وسد جوعة الدول الكبري إلا المزيد من السدور في غياهب التسويف والتزييف بل والضحك علي الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي بالتبشير بالسلام علنا في حين يشحن القادة الإسرائيليون بنقيض هذا السلام الموهوم والذي أساسه التقسيم وتقسيم التقسيم والتجويع والقتل والتدمير والعزل، وباختصار شديد إعادة الهولوكست بالتقسيط، والغريب في صنعها هذه المرة أن الصانع ما زال يحمل في الجسد والنفس آثار ما يمارس علي الغزاويين العزل. وعلي الغرب أن يتحمل مسؤولية إصلاح ما أفسد بتدخله في الشرق الأوسط لما يزيد عن قرن، وأحسب أنه لن يتسني له ذلك ما لم يبلغ زعماء العرب هذه المرة درجة معقولة من العفة السياسية والتخلي عن الاتكال علي العمود الأبيض وتصحيح مفهوم الاعتدال علي أنه لا يعني الفرجة علي جريان الدماء الفلسطينية والعراقية كما لو أنهم أيتام. كاتب وإعلامي تونسي مقيم في بريطانيا 29/03/2008 القدس العربي