أسابيع فرح تمرّ بها بلادنا اليوم وتحياها جلّ العائلات التونسية من الباكالوريا إلى "النوفيام" إلى "السيزيام" إلى المتحصّلين على الشهادات الجامعية ...إنها أفراح النجاح وانفتاح فرص الإقتراب من حظوظ ممكنة... ولنا ان نسال إن كانت تلك الفرحة نابعة من رغبة في التحصيل العلمي أم من حرص على تحصيل أداة من أدوات التشغيل؟ ربما يُقالُ بانه لا تناقض بين الرغبتين وان الشهادة العلمية هي في ذات الوقت معيار لمستوى علمي وهي أيضا مفتاح من مفاتيح التشغيل. ثمّة اختلاف جوهري بين اعتبار العلم قيمة بذاته وبين اعتباره وسيلة لتحقيق قيمة وتحصيل مكاسب ... إن وعينا بأن العلم هو العلامة الإنسانية المميزة وبأنه ما تتحقق به إنسانيتنا وتمايزنا عن بقية الكائنات وما نبسط به سيادتنا على الطبيعة وما نذتاق به جمالية الوجود وما نتلقف به أسرار الحياة ... ذاك الوعي يشحن صاحبه برغبة ذاتية في طلب العلم و يجد لذة البذل والجهد في سبيل التحصيل ويجد أنه إنما يحقق ذاته كلما ترقى درجة في درجات العلم.وكلما تحرر من بعض أثقال "الجهل" لا يبحث عما يُقابل معارفه تلك من مكاسب أو مراتب... ذاك الوعي يحقق لصاحبه توازنا في الشخصية واستقامة سلوكية في علاقته بكل عناصر المؤسسة التربوية وبالمجتمع ومؤسسات الدولة ويحرص قدر الإمكان على تمثل علمه ومعارفه وقيمه التي يجد أن ذاته إنما تتحقق بها... تقدير العلم مصدر لتقدير العلماء والمعلمين وهو ما تحتاجه الدولة والمجتمع لتحقيق التمدن والتحضر والتنمية بأبعادها الشاملة... العلم والمعرفة ليسا مجرد أداة للتنمية المعاشية بقدر ما هما عاملان لبناء "الإنسان" في أبعاده الفكرية والجسدية والروحية في توازن واعتدال واستقامة سلوكية. وعلى خلاف تلك النظرة للعلم فإن الذين يعتبرونه مجرد مدخل من مداخل "العيش" لا يجدون لذة في تحصيله ولا يستمدون منه قيمتهم الشخصية وجوهرهم الإنساني ولا يُقيمون علاقاتهم بالمؤسسة العلمية وأهلها إلا على ذاك الأساس وهو ما ستتوالد عنه مظاهر وسلوكات لا تنسجم مع روح العلم ونور المعرفة مما أصبح مشهودا في مؤسساتنا في السنوات الأخيرة وهو في حالة من التزايد والإتساع والإحتداد... مما يدعو إلى ضرورة الإنتباه والبحث في الأسباب العميقة بعيدا عن التهويل أو التبسيط. جاء في حديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم " تواضعوا لمن تتعلمون منه ولمن تعلمونه ولا تكونوا جبابرة العلماء"... طلب العلم يحتاج تواضعا له ولأهله كما إن عملية التعليم تحتاج تواضعا للعلم ولطالبيه حتى لا يكون المتعلم عاقا متهورا ولا يكون المعلم متعاليا متجبرا. هنيئا لكل الناجحين في أي مستوى من مستويات الدراسة ... ولكن لا يكفي الفرح ... إننا بحاجة إلى الوعي بقيمة العلم ومنزلة العلماء والمتعلمين. صحيفة "الوطن" التونسية العدد 145 الصادر بتاريخ 9 جويلية 2010 المصدربريد الفجرنيوز