لقد تحوّل مشكل التطبيع مع العدوّ الصهيوني إلى قضيّة يتصاعد نسق الخوض فيها بتصاعد فعل وحركة المطبّعين من مختلف المواقع المهنيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة . فبعد التراجع عن الخطوة الرّسميّة في التطبيع بغلق مكتب الاتّصال الذي فتحه الكيان الصهيوني "لرعاية مصالحه في تونس !!" والذي أعتبر خطوة محمودة سجّلت الإيقاف المعلن لأي خطوة تطبيعية رسميّة وبعد ما أحدثته زيارة الصهيوني التونسي الأصل وزير الخارجيّة الصهيوني لتونس في القمّة العالميّة للمعلومات من ردود فعل رافضة لهذه الخطوة رغم ما تبعها من تبريرات بأنّ اللقاء كان دوليّا ولم يكن بالإمكان رفض هذه الزّيارة وهي تبريرات غير مقنعة باعتبار أن كل بلد يحتفظ بحقّه السيادي في قبول أو رفض من يشاء... بعد كل هذا تجاوز الحديث عن التّطبيع الأوساط الرّسميّة إلى بعض الهيئات المدنيّة والمهنية وكذلك بعض الشّخصيّات إذ شهدت الأوساط النّقابيّة تململا من بعض الأطراف نتيجة تعامل المنظّمة النقابية مع منظّمة فريدريك ايبرت الشريك الأول لاتحاد الشغل في أنشطته الدّراسيّة والتكوينيّة خاصّة بعد أن قامت هذه المنظّمة بتوزيع مطويّات تتحدّث فيها عن أهدافها المرتبطة بالعمل على إحلال السلام بما يخدم ما أسمته السلام في المنطقة والأمن بما في ذلك أمن "إسرائيل". كما بلغت هذه الموجة من الفعل وردّ الفعل أقصاها بانعقاد مؤتمر دولي للجغرافيين بتونس كان فيه للوفد الصهيوني حضور لافت لاقى ردود فعل عنيفة في الأوساط الأكاديميّة والشعبيّة على حدّ سواء خاصّة وأنّ الجغرافيا تكتسي أهمّية خاصّة وحساسيّة استثنائيّة في قضيّة الصراع العربي الصهيوني لعلّ رسم الخرائط ووضع التسميات والحدود عليها هو أوضح وأبسط مظاهر هذه الأهمّية.الاّ أنّه وللأسف ما زلنا نسمع عن إصرار بعض الجغرافيّين على هذا المسار التّطبيعي تحت غطاء عالميّة وإنسانية البحث العلمي وهو غطاء متهرئ لا يستر العورات لأنّ الأهداف الحقيقيّة من وراء هذا المسار واضح ولا تخفى فيه المصالح الشخصيّة ومنها المادية البحتة. المدخل الآخر للتطبيع مع العدوّ الصهيوني فُتح منذ مدّة ليست بعيدة من خلال خطّة وضعتها اليونسكو بالتعاون مع وزارة الخارجيّة الفرنسيّة وأجهزة الكيان الصهيوني وهو المسمّى بمشروع علاء الدين لجلب تعاطف العرب والمسلمين مع اليهود في قضيّة ما يُعرف بالمحارق النازيّة التي أصبح عدم الاعتراف بها والتعاطف معها عنوانا لمعاداة السّاميّة والتّجريم وإلصاق تهمة الإرهاب. وقد سجّل هذا المشروع نشاطا في تونس في مقر الهيئات الدبلوماسيّة الفرنسيّة كما سجّل تفاعل بعض الشّخصيات التونسيّة مع هذا المشروع مثل عفيف لخضر ومحمد حسين فنطر وهو ما كان موضوعا لمقال سابق نشرناه على أعمدة "الوطن". لكن، ورغم علم الجميع بما يجري خلال فترات زيارة اليهود السنويّة إلى جربة من مراسم احتفاليّة فإن آخر ما كان يمكن أن ينتظره مواطن تونسي هو أن يقف شخص يُعرف بأنّه فنان ممثل ومغنّي ليصرخ بكل ما بحنجرته من قوّة "يحيا بيبي ناتنياهو !" وهو ما أثار بمجرّد انتشاره على شبكة الفيسبوك حالة من الاشمئزاز وردّة فعل عنيفة لدى عموم التّونسيين الذين سارعوا إلى فتح بوّابة تطالب بسحب الجنسيّة عن المدعو محسن الشريف الذي لم يكن في الحقيقة وحيدا في هذا الحفل بل كان مصحوبا بآخر هو عبد الوهاب الحنّاشي وكذلك بنور الدين الكحلاوي فنّان "المزود". غير مستبعد أن يكون مثل هذا الحفل قد تمّ إحياؤه داخل الكيان الصهيوني نفسه لأن محسن الشريف كان يخاطب الحاضرين راجيا أن يلقاهم عند قدومهم للغريبة في "ماي المقبل" كما يقول. وبقطع النظر عن التفاصيل، فإنّ ما يمكن استنتاجه هو أنّ مسار التطبيع قد بلغ درجة جعلت دعاة التّطبيع يجاهرون بلا خوف أو حياء من فعلهم الخياني في حقّ شعبهم العربي في تونس وفي حقّ أمتهم العربية وفي حقّ قضيّتهم الأولى قضيّة فلسطين حيث يحاصر المهتوف باسمه (نتنياهو) شعبا ويقتله جوعا وهي مجاهرة ما كانت لتحصل لو تمّ وضع حدّ لهذا المسار من انطلاقته الأولى من خلال تفعيل دور كل القوى الوطنيّة الحيّة التي نراها تهبّ في كلّ مرّة في مسيرات تعد الآلاف مع كل عدوان صهيوني أو استعماري أمريكي على أرض عربيّة لكنّها سرعان ما تركن إلى الخمول جاعلة من فعلها الوطني حركة مناسباتيّة كأنّما لترفع حرجا أمام العالم وأمام التّاريخ لكنها حتما سوف تهتدي إلى أسلوب يضمن لها الاستمرارية والنجاعة . إنّ القوى الوطنيّة المنتصرة لنهج المقاومة والممانعة مدعوّة إلى توحيد صفوفها على قاعدة بعض المهام الوطنيّة المركزيّة التي تقف مهمّة مقاومة كل أشكال التطبيع مع العدوّ في طليعتها إلى العمل المنظّم والمدروس الجامع بين نشر الوعي والمعرفة الضرورييّن لإدراك مخاطر المشروع الصهيوني على الوطن العربي والأمّة والتصدّي بكل الوسائل المتاحة لمثل هذه المسارات التطبيعيّة التي لا تتجاوز دوافعها في غالب الأحيان الدوافع الشخصيّة لبعض ضعاف النّفوس اللاّهثين وراء المال مهما كان مصدره وهي دوافع يفهمها العدوّ جيّدا ويحسن انتقاء أصحابها فيحوّلهم إلى مشروع طابور خامس بدأ يتوسّع خادم لمصالحه وركابه وهو أمر لم يعد يهمّ فقط الجهلة ومحدوديّ المعرفة بل أحيانا حتّى بعض الأكاديميين الذين اختاروا بيع أنفسهم في سوق التّطبيع الصهيونيّة. صحيفة "الوطن" العدد 149 الصادر في 6 أوت 2010 المصدر بريد الفجرنيوز