أكَّد فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (المشرف العام على مؤسسة "الإسلام اليوم") أنّ ما حدث بينه وبين الدكتور غازي القصيبي، وزير العمل السعودي، والذي وافته المنيَّة الأحد، كان خلافًا طبيعيًّا، ولم يكن تصادمًا. وقال الشيخ سلمان- تعقيبًا على ما نشرتْه جريدة الشرق الأوسط من أنّ الشيخ العودة نعى الدكتور القصيبي على الرغم مما بينهما من مصادماتٍ في التسعينيات تحوَّلت في الفترة الأخيرة إلى اللقاء وتبادل القصائد: كل ما في الأمر أن الدكتور غازي ألَّف كتابًا تحت عنوان "حتى لا تكون فتنة "، وألقيت محاضرة عن "الشريط الإسلامي ما له وما عليه"، وكل ما قلتُه هو أن الدكتور يتكلم في قضايا كثيرة جدًّا، والآخرون يراد منهم أن يكونوا متخصصين ليس فيه أكثر من ذلك. وأضاف فضيلته: إنّ البعض ربما يحملون على أساس أنها كانت مصادمةً تصل إلى النهاية، وقد أعجبني أن الدكتور القصيبي سئل ذات مرة فقال: إن الأخ سلمان استعدى علينا الناس ونحن استعدينا عليه السلطة! مشيرًا إلى أن هذا كان فيه قدرٌ من الإنصاف. صاحب مروءَة وأردفَ الدكتور العودة أنه في مرَّة أخرى سُئِل عنِّي وأنا كنت في الحائر ورفض أن يقول شيئًا، وهذا موقف مروءة في الوقت الذي ربما كان كثيرون يجدونها فرصةً لكتابة التقارير أو التشفِّي، وعندما لاقيناه قال لي: أنت شاعر، فقلت له شعري من شعر الفقهاء قال: أنا قرأتُ قصيدتك في ابنك عبد الرحمن التي مطلعها:
وداعًا حبيبي لا لقاء إلى الحشر *** وإن كان في قلبي عليك لظى الجمر
قلت له: هذا من شعر الفقهاء، قال: أبدًا ليس فيها من شعر الفقهاء إلا قولك: جلست بحجري والسرور يلفُّني *** وشنفت سمعي تاليًا سورة العصر!
وفي تصريح لقناة العربية قال الشيخ سلمان العودة: إنّ "قراءة روايات الدكتور غازي توحِّي بأن الرجل موسوعي في معارفه واطلاعه"، معتبرًا أن جدله مع بعض مُخالِفيه أمر طبيعي؛ لأنه "كان مجموعة من النجاحات، والنجاح دائمًا يكون مصحوبًا بقدر من الرضا كبير وقدر آخر من النَّقْد، وهذا من طبيعة الحياة فالناس يختلفون، وما يضير فعلًا هو أن يكون الإنسان عاديًا نكرة لا يلتفت إليه الناس". وذكر أن الواقع يشهد للراحل بأن الإخلاص والقصد الحسن كانا عنوانيْن في أعماله، مبينًا أنه كان "شفافًا بعيدًا عن المصالح الذاتية، فهو تقلب في العديد من المناصب ومع ذلك كان كلُّ ما يهمه هو أن يقدِّم الشيء الجميل والشيء الجيد". وكشف العودة عن حرص صديقه الراحل على البقاء مع نفسه، واستغلال أوقات فراغه بعيدًا عن الناس، ولم يكن حريصًا "على العلاقات مع الناس؛ لأنه يرى أنها مقتلة للوقت"، مشيرًا إلى أنه قام بعدة مداخلات في برنامجه "حجر الزاوية" مبديًا تشجيعه لأفكار البرنامج. وروى العودة قصّة زيارة الراحل له في منزله بِمَعِيّة نائبه في وزارة العمل السعودية د.عبد الواحد الحميد، وذكر أن من الأشياء الجميلة أنه سأل القصيبي عن مدى تفاؤله على أرض الواقع، فأجاب وهو مشارف على السبعين حِينها، بأن عنده أمل كبير، وخطر في بال الدكتور سلمان حينها مازحًا أن يكون القصيبي وزيرًا للأمل، بدلًا من وزارة العمل التي يتسنّمها. وعن علاقاته ببعض أهل العلم الشرعي والفقه الإسلامي، سأله العودة ذات مرة عن الشيخ الدكتور محمد أبو زهرة، والذي ذكره في روايته شقة الحرية، وقال: إنه فعلًا تعلم على يديه الشريعة والقانون وجلس إليه واستفاد منه. وقال العودة: إن الأديب الكبير حكى له عن محمد أسد المستشرق النمساوي الذي أسلم، وكيف التقى به الراحل مع مجموعة من الشباب في المدينةالمنورة، وسألوه عن كتابه (الطريق إلى المدينة)، وكيف كان محمد أسد في غاية البهجة والسرور أن يجد شبابًا من الجزيرة العربية يقرأون كتبه بلغتها الأصلية. مراسلات شعرية ومن آخر ذكريات العودة مع القصيبي حين مرض، والأيام التي سبقت مرضه بفترة قصيرة، حيث بدأ القصيبي مراسلات بينهما بعدد من الأبيات، وفي أحد الأعياد أرسل الراحل تهنئة تعبِّر عن طبيعته كشاعر قال فيها: وإن كنت أظهر بعض الوداد.. فما لست أظهره أكثر.. وإني عجزت فما أقدر وفي رسالة أخرى قال: أغالب الليل الطويل الطويل.. أغالب الداء الدوي الوبيل.. أغالب الآلام مهما طغت.. بحسبي الله ونعم الوكيل.. وعلق العودة "بأن هذه روح المؤمن، وهذا واضح في قصيدته حديقة الغروب، وفي عدد من النصوص الأخرى التي تنضح بإيمان عميق وإنسانية صادقة". وكانت آخر المراسلات بينهما قصيدة قبل أن يعود إلى بلده، قال فيها: أسائل الركب قبل الفجر هل آبوا.. الركب عاد وما في الركب أحباب .. وكأنه يعتب على أناس في مقام الأصدقاء يشعر أنهم قد تخلوا عنه، وأيضًا كان يتحدث عن الأيام الأخيرة، يقول: بعض الدروب إلى الأوطان سالكة.. وبعضها في فضاء الله ينساب.. فكتب له العودة جوابًا على هذه القصيدة محاولًا أن يقدم له الدعاء والتصبير: ضياء عينيك عبر الأفق ينساب.. تئن من حزنه المكظوم أهداب.. طابت لياليك والرحمن ينعشها.. وجاد بالروح والتسكاب وهاب.. فرحمة الله تعالى عليه، كان عند الرجل إيمان بالله- سبحانه وتعالى- وخوف من الآخرة، نحسبه كذلك والله حسيبه، وقصيدته التي هي حديقة الغروب-كما العديد من القصائد والنصوص- تُوحِي بهذا المعنى.
حلمٌ.. وإطاحة بالذات وعلى جانب آخر أكّد الشيخ سلمان- في حلقة الاثنين من برنامج "حجر الزاوية"، والذي يبثّ على فضائية mbc ، والتي جاءت تحت عنوان "تغيير الذات"- على أهمية التفاؤل والسعي لتحقيق الطموحات، مشيرًا إلى أنّه عندما كان في الحائر جاءه شخص، وقال: لقد رأيتُك البارحة في المنام، فقلت: خيرًا! فقال: لقد رأيتك في التلفاز تتكلم مع الناس، فقلت في داخل نفسي: يحلم هذا الإنسان حلمًا في المنام. وأضاف الشيخ سلمان: إنّ الأمل في الله كبير والثقة موجودة، ولكن أيضًا أحيانًا الإنسان عندما تُعطي له خبرًا ولا يوجد أي مقوّم لهذا الخبر في الواقع الذي يعيشه، فإنه ربما يكون عند الإنسان نوع من الشعور مثلما جاء في قول الله سبحانه وتعالى: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:20]. {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8]، فبعض الأخبار تكون مفاجئةً بشكل يجعل الإنسان ربما يتوقف فيها. ولفت فضيلته إلى أن معرفة الذات هي ضرورة، لكن من الممكن أن تكون أحيانًا بنوع من الازدراء، حيث تجدُ أن كثيرًا من الناس ينظرُ إلى ذاتِه نظرة ازدراء، ويرى أنه لا يستحقُّ شيئًا ولا يصلح لشيء، وفي اعتقاده أنه يتقبَّل كل المشاعر السلبية تجاه الذات، مشيرًا إلى أن هذا معنى سلبيّ، وفيه نوع من الإطاحة بالذات وبكفاءتها وقدرتها، وأنها لا تصلح لشيء، موضحًا أن هذا ليس معرفةً حقيقية للذات. الإسلام اليوم/ أيمن بريك الثلاثاء 07 رمضان 1431 الموافق 17 أغسطس 2010