يوم الجمعة الماضي كنت مع الصديقة ليلى العبيدي مؤلفة كتاب ( الفكه في الاسلام ) حين أعلمنا الصديق عبد الرحمن مجيد الربيعي عن وفاة الأديب الجزائري الطاهر وطار، وكان متأثرا جدا فهو صديقه ويحمل له الكثير من الود، وانفتحت السيرة مع ليلى عن الكتب والكتاب الذين أثروا فينا، فذكرت أنها تأثرت بغازي القصيبي بعد قراءته للمرة الأولى في روايته (سبعة) وأخبرتها أنني عرفت الدكتور غازي القصيبي شخصيا، عرفني عليه الأديب عبد الرحمن منيف في المنامة، وتواصلت علاقتنا عبر لقاءات ثقافية عبر الوطن العربي وفي لندن، وأنه شخص رائع وأديب متميز، قابلته آخر مرة صدفة في بيروت أثناء حفلة فيروز في بيت الدين سنة 2004، وهو من عشاق فيروز، ولسوء الصدف، اتصلت بي ليلى بعد يومين لتعلمني أن الدكتور غازي القصيبي توفي. هل هو موسم الرحيل؟ رحل عبد الله العروي، عابد الجابري، فاروق عبد القادر، محمد عفيفي مطر، الطاهر وطار، نصر حامد أبو زيد ، غازي القصيبي، ومن بيتنا، محجوب العياري، الجيلاني بالحاج يحيى، محمد صالح الجابري. ورضوان الكوني. هل فقدوا الأمل بأن الابداع لم يعد قادرا على سطوة الأحلام، فاختاروا الرحيل. لكنهم بالنسبة لنا ليسوا غرباء، ولا مجرد أسماء، سيبقون شخصيات رمزية، كتاباتهم تبحر في مخيلتنا، وتسكن قلوبنا، وترسم الكثير مما نكتبه من كلمات، فكتبهم باتت طيوفا تسكننا. كل من الراحلين وراءه حكاية أو حكايات، غازي القصيبي عانى من الغربة والمنع والنشر والتواصل مع قرائه، البعض اتهمه في دينه بالعلمانية، وآخرون في مواقفه السياسية الحرة، واتجاهاته الشعرية المعبرة، طرح رؤاه عبر القصيدة منذ الستينات، وصلت مؤلفاته الى أكثر من ستين مؤلفا، هو يعتبر نفسه قبل كل شيء شاعرا لكنه كتب أجمل روايات القرن العشرين حتى الواحد والعشرين، آخر كتبه صدر يوم وفاته، في حوار تلفزي أجريته معه في التسعينات سألته عن سر نجاحه أدبيا، ديبلوماسيا، واجتماعيا، فأجابني : «اذا كان ثمة سر فهو أنني كنت دوما أعرف مواطن ضعفي بقدر ما أعرف مواطن قوتي. كنت ولا أزال أؤمن بسياسة الباب المفتوح ولكني لا أؤمن قط بسياسة الباب المخلوع». استطاع القصيبي أن ينتقد أحوال هذا العالم ويسخر منه بكوميديا سوداء هدامة بعنوان ( العصفورية )، من خلال التوحد مع الشاعر أبو الطيب المتنبي ( أبوحسيد) كما يحلو للقصيبي أن يسميه. وهذا التوحد بين القصيبي والمتنبي له ما يبرره، فالمتنبي كان كثير الشكوى والسخرية من عصره، وأحوال الناس فيه، فأراد القصيبي أن يستعير صوته ليسخر من وضعه الراهن. والبطل هو «البروفيسور» الذي يسرد تاريخ الأمة العربية في جلسة علاج سريرية الى الدكتور النفسي الذي يصبح هو أيضا مجنونا في الآخر، وهنا أراد القصيبي أن يقول : ان مستشفى المجانين هو المكان الوحيد الذي يستطيع أن يتكلم فيه العقلاء في هذا العالم العربستاني . روايته «سبعة» ترسم صورة ساخرة للواقع العربي ممثلة في سبع شخصيات، يختلفون في أفكارهم وأعمالهم، ويتشابهون في الركض خلف سيدة واحدة تعمل مقدمة لبرنامج تلفزيوني، و يقعون ضحية لها في نهاية المطاف. حيث جاء في نهاية الرواية «أوضح تقرير الطبيب الشرعي أن الرجال السبعة ماتوا غرقا، وقد تبين من التحليل أنهم تعاطوا كميات كبيرة من المخدرات والكحول. أما المرأة التي وجدت على الشاطئ عارية، فلم يتضح للطبيب الشرعي بعد سبب موتها، ولم يعثر في دمها على أي آثار لمخدرات أو كحول، ولم تظهر بجسمها أي اصابات. كما ظهر من الفحص أنها عذراء.... من أوائل الكتب التي قرأتها للقصيبي كانت رواية (أبو شلاخ البرمائي) عندما كانت كتبه ممنوعة في السعودية، ثم قرأت له روايات أخرى على فترات متقطعة، قرأت كتابه الأكثر شهرة «حياة في ادارة» فيه الكثير من الطرافة، الكثير من المتعة، الكثير من الحقيقة الغائبة، الكثير من الفائدة الادارية، الكثير من تاريخ تلك الحقبة من الزمن، والكثير من أسرار الشخصيات السياسية، الملك فيصل والأمير خالد والأمير فهد وولي العهد عبد الله (الملك حاليا) والكثير... الكثير من الصراحة. أما روايته الأخيرة «الزهايمر» التي ظهرت مع وفاته لتختم رحلته مع الكتابة، والتي من المنتظر أن تصدر هذا الأسبوع، تدور أحداثها حول شخصية (يعقوب العريان) الذي ينسى اسم زجاجة العطر التي اعتاد اهداءها لزوجته التي تصغره بربع قرن، ليدرك اصابته بمرض الزهايمر، ويقرر السفر متذرعا برحلة عمل، بينما كانت وجهته الى طبيب متخصص في معالجة الزهايمر. و القصة في شكل رسائل يبعث بها السيد العريان الى زوجته التي لا تتسلمها الا بعد وفاته بنوبة قلبية مفاجئة. من قصائده : أتأبّطُ كل دواويني / وأسير على الأرصفة المغسولة / بالمطر الدامع / أنشد أجمل أشعاري / أتأبط حرقة ستيني / وأطارد طيفك ما بين جدار وجدار / يا امرأة لا تقرأ شعرا / يا امرأة لا تقرأ شيئا / ياامرأة لا تعرف عمق جنوني / لا تعرف أبسط أسراري / أعطيني سببا لدواري / للشبق الفظ .. كسكين / تتسكع عبر شراييني / ياامرأة لم تقرأ بيتا / من أبياتي/ لم تبصر شكل معاناتي / أكتب عنك / ويقرأ غيرك غزيلاتي / أتأبط كل دواويني / وأصيح بحرقة ستيني / ما أشقى أن أعشق جسدا حلوا / لا يسكنه عقل / أجمل منه مرارا / يا مولاتي / يا مأساتي ...