يصرّ الساسة الأكرد وحدهم على إجراء التعداد السكاني في العراق بالشروط والمواصفات التي تحلوا لهم والتي بذلوا كل جهد من أجل فرضها على الآخرين, وما عدا ذلك فهو حسب زعمهم خرق فاضح للدستور وتجاوز خطير على الحقوق وما شاكل ذلك. وكدأبهم في التعامل مع العراقيين, بما فيهم عصابة المنطقة الخضراء, يُبالغ القادة الأكراد في دلالهم الغير مبرّر ومطالبتهم الغير واقعية بما يعتقدون, زورا وبهتانا بانه حقّهم المسلوب الذي يعتبرونه خطاّ أحمر غير قابل للمناقشةأو التفاوض حتى مع أقرب الحلفاء اليهم. ويستخدمون بضعة مواد دستورية, تخصّهم ولا تخصّ سواهم من العراقيين, وكأنها سيفا مسلطا على رقاب الآخرين, تُطرح في كل لقاء أو إجتماع أو جلسة خاصّة. ومن تابع ويُتابع ما جرى من أهوال ومآسي وجرائم الغزو والاحتلال في العراق يقتنع فورا ودون كثير عناء بأن التعداد السُكاني المزمع إجراؤه هو آخر ما يُفكّر به العراقيون ولا يُشكّل بالنسبة لهم أية أهميّة لا في هذا العام ولا في الأعوام التالية. فهل يُعقل أن يجري تعداد في بلد أكثر من ثلث أبنائه مشرّدين ومهجّرين ومختفين لأكثر من سبب, بل فقد الكثير منهم أوراقهم الثبونية بعد أن دخلت جحافل مغول العصر ومعها علاقمة - نسبة الى العلقمي - من كل قجٍّ عميق؟ فضلا عن أن التغيير الديمقرافي في العديد من المدن والذي جرى بقوة السلاح, خصوصا من قبل العصابات الكردية, جعل من المستحيل على أكثر الناس خبرة ومهارة إجراء تعداد سُكاني شرعي ومعترف به. يتجاهل بعض الساسة "العراقيين"عمدا بأن التعداد السكاني هو موضوع في غاية الأهمية في جميع بلدان العلم, باستثناء العراق الجديد, لأنه أولا لا يجري في كل عام ثمّ إن الأعداء له وتنفيذه يتطّلب موارد مالية وبشرية كبيرة, فضلا عن وجود الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي ناهيك عن وجود حكومة فعلية تتمتع بشرعية برلمانية وشعبية ومُعترف بها من قبل الجميع. فأين كل هذا من عراقهم الجديد الذي أصبح بفضل رداءة حكّامه وإنحطاط مستواهم على كل الأصعدة, مثالا نادرا للفشل الذريع كدولة وكحكومة وكأحزاب سياسية؟ إن ثمّة أمورا كثيرة, بل كثيرة جدا في عراق اليوم, غير التعداد السكاني, بحاجة الى معالجة سريعة وجدّية لأنها تتعلّق بحياة المواطن العراقي بشكل مباشر وملح. فالعراقي الذي لا يحصل على الكهرباء والماء الصالح للشرب ويعيش وسط كوابيس"ديمقراطية" كالبطالة وعدم الاستقرار وفساد الدوائر الحكومية بدون إستثناء, والخوف الدائم من سطوة وهيمنة الميليشيات الحزبية, لا يجد في ذهنه ولو زاوية صغيرة لموضوع التعداد السكاني تشغله عن همومه ومشاكله ومعاناته اليومية. وما يثير أكثر من شبهة وألف علامة إستفهام هو أن القادة الأكراد, وأغلبهم عنصريون وحاقدون, يصرّون على إضافة فقرة "القومية"في إستمارة التعداد. وأظنُّ, وإن كان بعض الظنّ إثمٌ, أنهم يريدون البرهنة للعالم باننهم عنصر راقي تجري في عروقهم دماء زرقاء, أو أنهم شعب الله المختار بعد اليهود. فعلى سبيل المثال يقول أحدهم, وهو عضو في مجلس محافظة ديالى وقيادي في"التحالف الكردستاني" وإسمه زياد أحمد, في معرض حديثه عن التأجيل المؤقت لعملية التعداد, يقول هذا العبقري: "إن عملية التعداد يجب أن تضمّ جميع الفقرات المهمّة بينها القومية والطائفة وذلك للحد من التصريحات المثيرة للجدل التي يصدرها بعض الساسة في العراق بشأن القومية أو الطائفة الأكبر عددا في بعض المناطق, لا سيما المتنازع عليها". وفي رأيي المتواضع جدا إن هذا التافه معه حق لكنه نسيَ أن يضيف الى إستمارة التعداد, ليكون ناجحا ونزيها وشرعيا, اللحية والشارب والعمامة والسروال وربطة العنق, أن وجدت, فضلا عن طول وعرض الشخص ووزنه الصافي! ثمّ يتابع جناب عضو مجلس محافظة ديالى الغير موقّر حديثه الفلسفي عن التعداد فيقول " إن هناك حقيقة مهمّة - في عقله المريض طبعا - مفادها إن غالبية سكان المناطق المتنازع عليها في خانقين وجبارة وجلولاء من القومية الكردية الاّ أن بعض الساسة يطلقون تصريحات عكس ذلك لذا أصبح لِزاما إضافة فقرة القومية". طيب, فإذا كان القادة الأكراد مؤمنين تماما بان غالبية سكان ما يُسمى بالمناطق المتنازع عليها هم من القومية الكردية فهذا يعني إن أي تعداد مهما كان نزيها وشرعيا سوف لا يغيّر شيئا من"الحقيقة الباطلة" الراسخة في أذهانهم رسوخ "الهولوكوست" في أذهان الصهاينة. وحتى لو تمّ تأجيل التعداد لسنة أوأكثر فانه في المحصّلة سيبقى, خصوصا في ظل شروط ومواصفات وأهواء حفنة من العنصريين والحاقدين والمنتفعين من خراب بيوت الآخرين, سيفا مسلولا جاهزا في أية لحظة لتقطيع أوصال العراق وشرذمة شعبه الواحد المتآخي, وتحويل مدنه وبلداته الى دويلات وإمارات شخصية وعائلية وعشائرية لكلّ خائن وعميل ومرتزق.