تونس:لطالما كان كانون الثاني (يناير) شهر الدراما السياسية في تونس فقد شهد هذا الشهر إضرابا عاما في سنة 1978، وثورة دعمتها ليبيا عام 1984. أما هذا العام فإن كانون الثاني سيضاف إلى كانون الأول (ديسمبر) الذي سبقه.فقد شهد الأسبوعان الآخيران من عام 2010 أكبر موجة من الاحتجاجات الاجتماعية في تونس منذ الثمانينيات. وما بدأ باحتجاج شاب يائس ضد البطالة في سيدي بوزيد وسط تونس، امتد سريعا إلى مناطق وقضايا أخرى. وخلال أيام قليلة من محاولة الشاب محمد بوعزيزي الانتحار أمام مكتب الحكومة المحلية، اتجه الطلاب والمعلمون والمحامون والصحافيون، وناشطو حقوق الإنسان والنقابيون والسياسيون المعارضون إلى الشوارع في مدن عديدة، بما فيها العاصمة تونس، لإدانة السياسات الاقتصادية للحكومة، وقمعها لكل منتقديها، وفسادها الشبيه بنمط عصابات المافيا، الذي يجعل أفراد عائلة الرئيس من الأثرياء. ويتابع تحليل نشرته "فورين بوليسي" الثلاثاء قائلا: "في دولة معروفة باستقرارها الاستبدادي، من السهل أن تعتبر هذه الاحتجاجات مؤشرا الى تغيير دراماتيكي. وفي الواقع، فإن الاحتجاجات كانت تتراكم منذ عامين. الاحباط متعمق في تاريخ طويل من انعدام التوازن في النمو الاقتصادي. وقد ساعدت منظمات عديدة في تحويل هذا الاحباط إلى مظاهرات جماعية. وحتى اللحظة، فقد أسفرت الاحتجاجات عن إعادة تشكيل الحكومة، وطرد أحد حاكمي المناطق، وتجديد الالتزام بإيجاد وظائف في الأقاليم المحرومة. ولكن من غير المعروف ما إذا كانت ستؤدي إلى المزيد من التغيرات الدراماتيكية. وإذا لم يكن حكم بن علي في خطر، فإن هذه المظاهرات تشير على الأقل إلى أن استراتيجيته في الحكم في مشكلة كبيرة. لقد اعتمد حكم بن علي على مزج بارع بين الاستقطاب والقمع. فمن خلال إظهار إخلاصه للديموقراطية وحقوق الإنسان في وقت مبكر من حكمه، اختطف بذكاء جوهر رسالة المعارضة الليبرالية. وفي الوقت نفسه، فقد استخدم أساليب التلاعب في الانتخابات، والتهديد، وتقديم الامتيازات من اجل استقطاب قادة أجهزة الحزب الحاكم و منظمات المجتمع المدني. أما أولئك الذين بقوا خارج نطاق هذه الأدوات فقد شعروا بقوة الأجهزة الأمنية الداخلية التي تنامت بصورة دراماتيكية خلال التسعينيات. وقد تقبل التونسيون يد بن علي الثقيلة بمرارة خلال التسعينيات. وكان الحكم الاستبدادي هو الثمن الذي دفعوه للاستقرار الذي تمكن من جذب السياح والمستثمرين. وكان بن علي تكنوقراطيا فعالا، وإن لم يكن كاريزماتيا، استطاع هزيمة الإسلاميين، وتحقيق النمو، وأنقذ البلاد من الاضطرابات التي اجتاحت الجزائر. لكن خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، بدأ نسيج حكم بن علي الاستبدادي بالاهتراء. وحين أصبح من الواضح أن الإسلاميين لم يعودوا يشكلون أي تهديد، لم يعد الكثير من التونسيين يريدون تحمل ثقل الحكومة. كما فقد النظام بعضا من مهاراته السابقة. وأصبحت أساليبه أقل ابتكارا وبدت وحشيته أكثر وضوحا. وغدت الحكومة أقل استعدادا للحوار ولو شكليا مع المنتقدين أو الأحزاب المعارضة. وقد أصبح من المعتاد حدوث الاعتقالات التعسفية، والتحكم في الصحافة المطبوعة والوصول إلى الانترنت، والاعتداءات الجسدية على الصحافيين وناشطي حقوق الإنسان والمعارضين. كما ازداد الفساد- وليس بصورة الرشا والامتيازات التي قد يتوقعها المرء، لكنها جرائم حقيقية شبيهة بما تقوم به العصابات أدت إلى امتلاء جيوب زوجة بن علي وعائلتها. وقد جعل نمو مواقع فيسبوك وتويتر وفضاء التدوين التونسي من السهل على التونسيين أن يعلموا بشأن الاعتقالات الأخيرة، أو الاعتداءات والصفقات الاقتصادية غير القانونية التي تورطت فيها عائلة الرئيس. وبعد فترة قصيرة من اندلاع احتجاجات كانون الأول (ديسمبر)، نشر موقع "ويكيليكس" رسائل اتصالات داخلية في وزارة الخارجية الأميركية حيث وصف السفير الأميركي بن علي بأنه كبير في السن، بعيد عن الأنظار ومحاط بالفساد. ومع العلم أن بن علي يملك سمعة بأنه حليف قوي للولايات المتحدة، فقد عنى كثيرا للتونسيين (خصوصاً منهم المهتمين بالإعلام الاجتماعي) أن مسؤولين أميركيين يقولون عن بن علي نفس الأمور التي يقولونها هم. وقد أضاف ذلك إلى البيئة التي كانت ناضجة ومستعدة لموجة من الاحتجاج الذي حصل على دعم خارجي. وقد حصلت تونس على سمعة بأنها أغنى الدول في المغرب العربي منذ تسلم بن علي للسلطة، وقد فتحت الإصلاحات الدولة للاستثمار الخاص ودمجتها بشكل أعمق في الاقتصاد الإقليمي. وسجل الناتج القومي نموا بنسبة 5 بالمئة. لكن سياسات الحكومة لم تساعد في التعامل مع الشؤون قديمة العهد المتعلقة بتوزيع النمو على كافة المناطق في البلاد. فمنذ الفترة الاستعمارية، تركز النشاط الاقتصادي في الشمال وعلى طول الساحل الشرقي. وكانت كل مشاريع التطوير الاقتصادي منذ الاستقلال عام 1956 تلزم الحكومة بجلب الاستثمارات التي من شأنها خلق فرص عمل وتحسين ظروف الحياة في الوسط والجنوب والغرب. وقد أدى الاستثمار الحكومي إلى تزويد المناطق الريفية بالمياه والكهرباء والتعليم والرعاية الصحية والمواصلات. لكن الحكومة لم تنجح في خلق فرص عمل كافية في الداخل حيث يتزايد السكان بسرعة. وأدى بعض السياسات الحكومية إلى زيادة صعوبة إيجاد فرص العمل، فالاستراتيجية التنموية التونسية تعتمد منذ السبعينيات على الصادرات والاستثمار الخاص. وقد سببت هذه الاستراتيجية في دولة صغيرة محدودة الموارد الاعتماد على السياحة والمنتجات السهلة التصنيع (كالملابس والمنتجات الزراعية) التي تصدر إلى الأسواق الأوروبية. وأدت عوامل عديدة إلى جذب المستثمرين والمصدرين إلى السواحل، حيث يتركز 80 في المئة من الإنتاج القومي في المناطق الساحلية. وتزيد القضايا التعليمية من تعقيد الأمور. فالتعليم الجامعي رغم انتشاره لا ينتج شبابا يتمتع بالتدريب اللازم لاحتيجات اقتصاد يعتمد على الوظائف المنخفضة المهارات في السياحة وتصنيع الملابس. ويسبب عدم التوافق بين التعليم والتوقعات وواقع السوق الإحباط للشباب الذي استثمر في التعليم الجامعي ولا يمكن أن يجد عملا ملائما. ويعتبر هذا التحدي أكبر لسكان المناطق الداخلية، حيث تبلغ نسبة البطالة بين خريجي الجامعات بين 25 و30 بالمئة. ويعتبر دور النقابات أحد أكثر الجوانب اثارة للدهشة في احتجاجات الشهر الماضي. فقد عملت الحكومة بجد ونجاح لترويض الاتحاد العام للعمال في تونس في تسعينات القرن الماضي. لكن الناشطين في بعض النقابات اتخذوا مواقف أكثر استقلالية ومجابهة في الآونة الاخيرة، وقد نظموا احتجاجات في مناجم قفصة جنوبا. ولعبت نقابات التعليم دورا حاسما في تنظيم العاطلين عن العمل، ومنهم العديد من خريجي الجامعات، الذين احتجوا على فشل الحكومة في توفير فرص العمل، وفسادها ورفضها الحوار. كما احتج الصحافيون والمحامون والناشطون ضد تقييد الحكومة للتغطية الإعلامية للأحداث والاعتقال والتعذيب. وبالتالي فقد نشأ تحالف بين منظمات المجتمع المدني والعديد من فئات الشعب عبر المدن التونسية. ما زال من المبكر معرفة ما إذا كانت هذا الاحتجاجات مؤشرا الى نهاية عهد بن علي. لكن المشهد السياسي التونسي يبدو كما كان في 1975 و1976، وهي بداية انحدار سلف بن علي، الحبيب بورقيبة. فنحن نرى الآن ظروفا مشابهة لذلك العهد، الرئيس المتقدم في العمر الذي فقد القدرة على استخدام أساليب الترغيب والترهيب، والنظام الذي يفتقد للخلافة القوية أو أي آلية واضحة لانتخابها. وهناك مجموعة من الشكاوى الاقتصادية والسياسية التي تتمتع بدعم منظمات المجتمع المدني، ومنها ما يملك القدرة على تحريك أعداد كبيرة من المتظاهرين. وعلى المدى المتوسط والطويل، فإن هذا من أهم جوانب الاحتجاجات الأخيرة. ذلك ان تبني هذه المنظمات لقضية البطالة أهم من نزول العاطلين عن العمل إلى الشوارع لأن هذه المنظمات كانت تحت سيطرة بن علي معظم فترة حكمه أو عاجزة عن التصرف بسبب التهديد والخوف. وعلى الرغم من كل ذلك، فيجب أن نتذكر أن بورقيبة لم يسقط فجأة بعد تحركات جماهيرية حصلت على الدعم الشعبي. فقد تدهورت حكومته بتؤدة لأكثر من عقد. كما ان انقلاب بن علي البارد وحكمه التالي استغل انعدام التنظيم في الطبقة السياسية التونسية. اذ كان من السهل تطبيق مبدأ "فرق تسد" على المجتمع المدني ومن ضمنه أحزاب المعارضة. ورغم أن قدرة بن علي على القمع قد تراجعت فإنها لم تختفِ. قد تكون تونس قد وصلت إلى منعطف هام في احتجاجات كانون الأول (ديسمبر) المنصرم، لكن ليس من السهل الاعتقاد أن المظاهرات ستؤدي إلى حركة معارضة منظمة موحدة مع رسالة واضحة. كما أن الانحدار تجاه الفوضى قد يؤدي إلى ظهور بن علي آخر، رئيس آخر غير منتخب يستولي على السلطة عند القمة ولا يغير شيئا في ما دون ذلك".