يبدو الشعب التونسي مصمما على تحدي القهر وتكسير قيود الظلم لانتزاع المزيد من الحقوق وبجميع بالطرق التي تناضل بها الشعوب الحرة.. تلك حقيقة ناصعة. وشخصيا لم تفاجئني انتفاضة تونس، ولم تعجبني يوما مقارنة الشعب هناك ببعض الأشقاء العرب الذين أسلموا الروح لباريها منذ زمن بعيد وألفوا حياة الهوان.. إن جذوة الكبرياء لم تخب في تونس الخضراء لحظة.. كان تشويها فقط لشعب لم يألف الخنوع يوما ولم يجنح في تاريخه المجيد للذل والاستكانة ففي كل عام يفجر التونسيون معجزة في ميادين النضال ويحرقون بأجسادهم الطاهرة قيم الفساد والحيف.. هذه هي حقيقة التونسيين.. وليست الأحداث التي شهدتها البلاد مؤخرا إلا تجليا لقيم التحرر التي يؤمن بها الشعب التونسي ويعبر أكثر من مرة عن تشبثه بها حتى إن سامه الجلادون سوء العذاب.. القيروان إذ تنتفض لتوبخ الجلادين وترفع الأذان لفجر جديد.. فجر من الحرية تسطع بعده شمس الكرامة لتونس التي يغني أبناؤها في كل صباح: نموت.. نموت.. ويحيا الوطن. الدرس الذي يلقنه الأشقاء في تونس للنظام هناك يثلج صدور كل المتابعين ويجعلنا جميعا ندعو بالعاقبة لباقي شعوب الأمة المجيدة.. لا أحد يمكنه التقليل من ثورة شعب ولا يحق لكاتب أن يبخس نضال أمة.. لكن من حق القراء تبين الحقيقة "غير معلبة" باستقطاب الإعلام وأهواء السياسة. ومن الحكمة أيضا أن نبعد العاطفة قليلا عند الحديث عن تأثير الأحداث التونسية على المحيط العربي. يجب أن نتذكر أن المظاهرات تجوب شوارع باريس يوميا وتحول ضباب لندن إلى دخان، وفي اليونان وأيرلندا وبلجيكا يغلق الناس الطرق العامة ويضرمون النار في الممتلكات.. لم يكن هذا أمرا سيئا في التاريخ الحديث على الأقل ولم يستنتج منه عباقرة التحليل غيابا للقانون أو تهميشا للمجتمعات، لأن المظاهرات والاحتجاجات حتى لو شابها بعض العنف تظل تعبيرا راقيا عن مطالب الشعوب وتطلعها لمزيد من التحرر والرفاه، ورفض خطط وبرامج الحكومات التي تمس مصالح العمال أو يرى الناس فيها تحجيما لمساحات الحرية. وليست التظاهرات والاعتصامات مؤشرا واضحا على وعي الشعوب فحسب بل هي قرينة لا تقبل النفي على وجود دولة القانون، لذلك بقدر ما يجب علينا أن نبارك للشعب التونسي تطلعه لمزيد من التحرر والرفاه يجدر بنا ألا نقزم التجربة التونسية التي تجاوزت معظم بلدان العالم الثالث في خدمات الصحة والتعليم وتستثمر في الإنسان ونجحت في تقليص معدلات البطالة والقضاء على الأمية وتنفيذ العديد من المشاريع الطموحة إلى جانب الخطوات الملموسة التي قطعتها في مجال الحريات العامة. إنه ليس من النزاهة أن نتخذ من عشق الشعب التونسي للتضحية وتطلعه لانتزاع المزيد من الحقوق سبيلا للعن تجربة تملك العديد من مقومات النجاح. وهذه رسالة أرجو أن يتفهمها القائمون على الإعلام. وغير بعيد عن الملاحظة الأولى أنصح المحللين العرب بعدم التعويل كثيرا على تأثر دول المنطقة بما يحصل في تونس.. كذب المحللون ثلاثا فالثورات التي يتكلمون عنها صنعوها من وهمهم فقط. لقد غاب عن هؤلاء وأولئك أن الحالة التونسية لها خصوصيتها فلم تولد من فراغ ولم يحركها الظلم والفساد فقط. إن أحداث تونس يحركها وعي متجذر وتتحرك ضمن أطر نقابية أسست على هدي من القانون منذ ستينيات القرن الماضي، وفي تونس توجد أحزاب سياسية وإعلام مستقل وكثير من دعائم التحرر وهذا يفسر أن المظاهرات تحصل في العاصمة وفي مدن الريف، بينما الناس في معظم الأوطان العربية لا ترى إلا مساكنهم، فالمظاهرات في المشرق وفي المغرب شر مستطير وذنب لا تكفره التوبة النصوح، وكثير من الأنظمة العربية تعتمد المذهب القائل بأن الجمع يصدق على أكثر من واحد فلا يجوز أن يلتقي اثنان، وليس أدبا مع القارئ أن نتكلم عن الانتخابات والنقابات فذلك مضيعة للوقت.. فالمهم هنا أن نعلم جميعا أن تونس لن تمسنا بخير ولن تكون ثورةٌ في العرب!! 2011-01-14 العرب القطرية