لعلني كالعشرات ، كالمئات ، كالآلاف من المواطنين والمواطنات ، من المتابعين والمتابعات ، من المعارضين والمعارضات ، من المستيقظين والمستيقظات ، من الصاحين والصاحيات ، تعطلت لدينا كل الصور البلاغية والصور المجازية والصور الذهنية ، ونحن نقرأ رسالة الانصراف لفريق تونس نيوز* بعد سبع سنوات وسبع شهور من العطاء والانجاز ، رغم رداءة الأحوال الجوية وانعدام الرؤيا ، رغم غضب السماء ، وشدّة البلاء ، ضلت تونس نيوز شمعة تضيء ليالي السواد ، وخلاصة الفعل المهجري بامتياز ، وناطقاً رسمياً باسم المضطهدين وكل المسكونين بالبحث عن الغد التصاعدي الذي لا يأتي من فراغ ، وعن ذيّاك الوطن الذي لا يولد عبر السعال والسبات ، ولا يورق عبر التثاؤب والسهاد ، وتعبيرا مشعاّ في عوالم الفعل والعطاء ، وبلاغا باسم المضطهدين والواقفين دون انحناء ، وبيانا رسميا باسم المنتفضين ضد القهر التناسلي ، واستفزازا من أجل تحريض المواطن ضد نفسه للانتقال من سكونية الحجر ، إلى حركية النار وجدلية الأسئلة... الواقفون على حدود التماس قد أكون كما يكون غيري الذين قرؤوا كما قرأت رسالة الفراق ، أحسّوا بلوعة الاغتراب ، وشعروا بمرارة القرار ، فلا أحد كان يتصور أن هذا الموقع الذي يحمل أحلام المنفيين والمهجّرين والمشرّدين ، وبوّابة مفتوحة على هموم المسجونين والمعتقلين والمقهورين والمضربين ، وتجتمع حوله مختلف الأطياف ومختلف الرؤى ومختلف الألوان ، وبات خيمة يستظل تحت أشرعتها كل المكتوين بلهيب الاضطهاد ، والواقفين على حدود التماس ، وصار وطنا نجتمع فيه لمعرفة أخبار العالم والبلاد ، وأخبار الأصدقاء والأحباب ، وكل تفاصيل القهر والاستبداد... لا أحد منا كان يتصوّر أن هذا الموقع الذي صاحبنا طيلة سنوات القحط وسنوات الجدب وسنوات السجن وسنوات القهر وسنوات الرفض ، والذي كان مفتوحا على المنقبين عن الماء في النصوص الذي نشفت منها المياه...لا أحد كان يتوقع أن هذه النافذة ستوصد دون أن يكتمل وجه القمر ، دون أن يتحرّر الوطن، ودون أن تغلق ملفات المحن... تونس نيوز .. أيها الباقون كالدمع في مآقينا نيابة عن نفسي الممزّقة بين هنا وهناك في هذا العصر العربي المهدّد بالذبح من الوريد إلى الوريد ، وفي هذا الزمن الذي طعن فيه المنطق الجمالي للأشياء ، فرغم كثرة السيوف وقلة الرؤوس الباقية، أجدني وأنا أتأمل بيان الاعتذار والاستسماح بالانصراف ، تستيقظ في أعماقي كل الأسئلة الهوجاء ، حول وضع هؤلاء كيف استطاعوا الاستمرار والظهور يوميا دون استثناء ، دون عطل دون أعياد دون راحة على حساب الأهل والأبناء ، سبع سنين وسبع شهور من التعب والسهر والشقاء ، سبع سنوات بحساب أعوام الأرق ، بحساب الأشهر العجاف ، بحساب عشريتي الأذى والخلاصة نهر من العطاء، من أجل معركة عنوانها الكرامة وتحرير الآراء ، من أجل أن تصبح الكتابة تفعل ذات الفعل الذي تفعله الرياح والزلازل والأمطار ... فهناك من يشقون من أجل الآخرين وهناك من يطفون على حساب الآخرين تماما كما هناك كتابة من أجل الآخرين، وكتابة لتعذيب الآخرين ، ومثلما هناك كتاّب أصابعهم من نار يحترقون مع الحروف والكلمات ، هناك كتّاب الأنابيب الاصطناعية يترعرعون في مختبرات وزارات الداخلية ، يولدون بمرسوم عسكري ، ويتهاون متى تهاوت القصور... إعلام يخاطب العقول وآخر يعقّم الفكر ويمجّد البطون وحيث هؤلاء الفريق الذي انحاز إلى هموم الناس ، واختار الاستقلالية والحياد ، وقدّم تضحيات جسام ، وأسّس مدرسة إعلامية عنوانها التضحية وعشق الوطن وانتفاء الذات ، فلم يسندوا لأنفسهم مناصب ولا مراتب ولا ألقاب ، يشتغلون في صمت دون ثرثرة وفوضى كلام ، متطوعون دون راتب دون أجر وبالمجان ، وغيرهم دون حسد يبني القصور والمسابح ويكدّس الأموال ، ويسافر في العالم ويذبح الكباش ويقضي عطل النقاهة ويتثاءب بالنضال ، ولا يحسّون أن هذا الربان يدفعون من جيوبهم من راحة نسائهم من وقت أطفالهم الساعات الطوال ، وبيوتهم صارت مخبرا لعشق الأوطان ، ومحطة تاريخية فاصلة بين إعلام مستنير يسعى أن يكون فعل رقيّ حضاري ، وبين إعلام يخاطب الفراغ... تونس نيوز.. أيها الحالمون بذيّاك الوطن... لا يمكننا هنا أن نقول لهؤلاء لماذا انتم متعسّفون ، لأنكم أقفلتم أو تنوون إقفال موقع الأحلام ، مع سابق الترصّد والإصرار ، وأنكم بقراركم قد تقدّمون هدية مجانية للسلطة والنظام ، قبل أن نقول لأنفسنا ماذا فعلنا نحن لهؤلاء ، سوى بعض الاعتراف اللفظي الذي لا يحول دون تدفق فواتير الحرمان ، ولا يعوّض نساء وأطفال شاركوا بالسهر والتعب والصبر وتحمّل مهمة تأثيث الأوطان ، ماذا قدمنا لهؤلاء الذين يوميا يضعون أمامنا أطباقا جاهزة من التحاليل والنصوص والبيانات والعرائض والحوارات والنقاشات والأخبار ، ليعفونا من عناء البحث والتجميع واللهث من مكان لمكان ، ليختصروا لنا المسافات ويريحونا من الدق على الأزرار... لقد كانت رسالة الاستئذان بالانصراف نزيفاً راحلاً بلا دماء ، وقلقا بحجم غضب الانتظار ، ولحظة تمرّد وعصيان ، وهمساً محجّباً لمعاناة لا يفقهها إلا من كان في الصفوف الأمامية على خط النار ، وتطوّعاً موجعاً تحوّل إلى انشطار ، وصبرا تجاوز حدود الزمن والمكان... وطن الكتروني تلتقي فيه الأضداد وإن كان هذا الموقع الذي يحترمه الكثير من القرّاء من مختلف الأطياف والأفكار والرؤى ، لأنه أتاح الفرصة للجميع للتناظر والتحاور والتبارز والتخاطب وطرح الآراء ، فلأنه اختار أن لا يكون إكسسوارا للطغاة والعملاء ، وفضّل الاستقلالية والحياد ، ورغم تشابك الحروف بالنصوص وبالعديد من المقاربات المتنافرة والمتشاجرة والمتقابلة والمتناطحة والمتعانقة ، إلا أن هذا الموقع ظل محافظا على حسن الاستماع ، وترك للقارئ حرية الحركة وحرية الاختيار ، ورغم العديد من الضغوطات وحرارة المعارك بين مختلف الفرقاء ، إلا أن المسئولين على هذا الموقع حافظوا على برودة الأعصاب ، وتركوا الفضاء رحبا وكانت النتيجة تأسيس أرض تجتمع فوقها مختلف الأضداد ، لينجح الموقع في تجسيد وطن الكتروني تلتقي فيه مختلف الآراء ، وينجح من حيث فشلت معارضة وأحزاب في الجمع بين مختلف الفئات... .. يسافر فينا كما اللحن يسافر مع الأمواج يتساءل البعض ويتساءل الكثير من هؤلاء؟ الذين عبروا حواسيبنا وبريدنا الالكتروني دون صور ودون أسماء ، وكانوا محل تقدير وترحاب ، وباتوا يسكنونا كما يسكننا الشوق والحنين إلى الأيام الخوالي ، إلى حيث تلك المدن والأرياف والفيافي والسباسب والتلال ، والجبال والروابي وغابات الزيتون والليمون والبرتقال ، والشواطئ والرمال إلى حيث ذكريات الطفولة والصبا والشباب ، إلى حيث دفيء الأهل والعشيرة ونسائم الأوطان التي تسافر فينا كما يسافر اللحن مع نشيد الأمواج... فلا أحد منا وأنا أولهم يعرف المشرفين على هذا الموقع الذين اختاروا الفعل دون ضجيج بعيدا عن الأضواء وفضلوا الانجاز بدل الخطب الجوفاء ، غير أن آثارهم ستبقى علامة ضياء وسيذكرهم التاريخ كما يذكر إخوان الصفاء... الطاهر العبيدي صحفي وكاتب تونسي مقيم في باريس [email protected] * تونس نيوز : نشرة تونسية يومية تهتم بأوضاع حقوق الإنسان في تونس والعالم العربي ، وهي موقع الكتروني يمتاز بفضاء رحب ، مفتوحاً على كل الحساسيات السياسية والفكرية ، ومساحة شاسعة من الحرية السياسية ، لها آلاف المشتركين في الداخل والخارج، وتحظى باحترام العديد من الأطياف السياسية ومختلف الفرقاء ، بما فيهم جزء من السلطة التونسية ، الذين ينشرون آرائهم في صفحاتها، نظرا لكسبها للمصداقية والحياد خلال سبع سنوات وسبع شهور من الصدور اليومي دون انقطاع ، والمشرفين عليها هم نخبة من المتطوعين ، الذين لم يعلنوا على أسمائهم طيلة كل هذه الأعوام ، وهذه الأيام نشر الموقع رسالة استئذان بالانصراف ، فانهالت عليهم الرسائل والطلبات الاحتجاجية من مختلف القراء ، مما اضطرهم للعودة للصدور ، تحت إلحاح المشتركين في كل أنحاء أوربا ومختلف المناضلين في الداخل التونسي ، فقرروا العودة حتى موفى شهر ابريل القادم تحت ضغط القرّاء...