تقديم خلال الأسابيع الأولى من عام 2011 سقط آلاف الضحايا قتلى برصاص قوات الأمن أو الجيش، في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، خلال الكفاح الجاري في هذه الدول، من أجل الإطاحة بالنظم الاستبدادية. خلف هذا المشهد الدامي كانت تسقط على التوازي مقولات ونظريات لعبت دورا حيويا في إطالة عمر الأنظمة المتهاوية، وبالتالي في زيادة عدد ضحاياها ومعاناة شعوبها. إن كفاح الشعوب في هذه المنطقة من العالم لم ينحصر فقط بأعدائها المباشرين، بل كانت –دون أن تعي أو تقصد- تكافح في مواجهة هذه النظريات التي كانت تؤدي عمليا إلى تكريس الاستبداد. وبهذا المعنى، فإن الشهداء الذين ذهبوا، كانوا أيضا ضحية نظريات لم يصنعوها، ولكنها أدت إما إلى إطالة عمر النظم الاستبدادية في المنطقة، أو إلى عدم تقديم الدعم والمساندة لكفاح هذه الشعوب. النظرية الأولى، كانت تزعم أن النظم التسلطية هى ضمان استقرار هذه الدول في المنطقة. لقد أوضحت التطورات التي جرت في المنطقة خلال الأسابيع الأولى من عام 2011، كيف أدى التقويض المنهجي المتواصل لعدة عقود، لركائز حكم القانون في تونس ومصر، إلى تعميق جذور الفوضى في هذه الدول، حتى أنه بمجرد أن سقطت رؤوس هذه النظم، انبعثت الفوضى من أعماق هذه المجتمعات. في الوقت الذي كان يجري فيه التحذير من اندلاع الفوضى في هذه المنطقة إذا اهتزت النظم التسلطية فيها، فإن هذه الأنظمة كانت تسهر بنفسها على زرع بذور الفوضى ورعايتها، بل ومأسستها. وذلك من خلال مسارين: الأول هو إغلاق كل سبل الإصلاح المنظم والتدريجي من داخل هذه النظم ذاتها، مهما يكن تواضع المطالب الإصلاحية. الثاني، من خلال إنشاء وتنظيم عصابات الأعوان المدربة على السلاح، والبلطجية المستعدين للتحرك من خلال آليات غير مؤسسية وخارج أي أطر قانونية، ضد أي بادرة للاحتجاج. خلال السنوات الست السابقة، تلقت هذه العصابات في مصر تدريبها ميدانيا في مواجهة هذه الاحتجاجات، وخاصة خلال الانتخابات والاستفتاءات العامة. النظرية الثانية، كانت تقول إن الإسلاميين هم البديل الوحيد للنظم التسلطية في هذه المنطقة. ولكن ثورتي مصر وتونس، فضلا عن الانتفاضات الجارية في بلدان أخرى برهنت على خطأ هذه النظرية. فقد هيمنت الشعارات الليبرالية المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة على الثورات والانتفاضات في هذه الدول. هذا لا يعني أن الإسلاميين لم يشاركوا، ولكنه من المؤكد أنهم لم يبرزوا في هذه الثورات "كبديل"، ولا يملكون في المدى المنظور على الأقل الطاقات الكافية ليكونوا هذا البديل. كم خدمت هذه النظرية الأنظمة التسلطية وأطالت في عمرها! بل كيف سعى بعضها لدعم هذه النظرية، عندما صارت مهددة بالذبول، بسبب مشروع الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش لنشر الديمقراطية. حينذاك قام نظام مبارك بعقد صفقة مع الإخوان المسلمين قبل الانتخابات البرلمانية 2005، فازوا خلالها ب20% من مقاعد البرلمان، ولكن مبارك كان الفائز الأكبر، حينما اضطر بوش بعد الانتخابات المصرية للتخلي عمليا عن مشروعه. النظرية الثالثة، هى القائلة إن الديمقراطية والحقوق المدنية والسياسية لا تشكل أولوية لدى الشعوب في العالم العربي، وأن اهتمامها الأساسي هو بالتنمية وبحقوقها الاقتصادية والاجتماعية! وجدت هذه النظرية رواجا بشكل خاص لدى بعض حكومات دول جنوب أوروبا، وخاصة فرنسا التي وجدت فيها تبريرا لمواقفها المخجلة في دعم وحشية النظم التسلطية، وخاصة في شمال أفريقيا. كما تبنتها أيضا مؤسسات تمويل دولية كبرى. إنها مقولة تنطوي على نظرة عنصرية إزاء شعوب المنطقة، باعتبارها من "طينة" مختلفة عن بقية الشعوب! وربما أقرب للحيوانات التي تحركها فقط غريزة الجوع. ورغم الهزيمة الكبرى التي لحقت بهذه المقولة، فإن بعض هذه المؤسسات مازالت عاجزة عن الاعتراف بذلك، لأنه سيترتب عليه تعديل جذري في برامج وسياسات تكلف إعدادها مئات الآلاف من الدولارات. ولكن بالنسبة لبعض مؤسسات التمويل، كان تبنيها لأولوية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية –وأحيانا حقوق المرأة- ليس عن قناعة، بل قناع، لأنه يساعدها على تجنب المشاكل مع الحكومات في المنطقة. البعض الآخر انطلق من هذا الدافع "السياسي"، لدعم منظمات حكومية أو شبه حكومية معروفة، أو قصر دعمه عليها. بدأت انتفاضة تونس بانتحار الشاب بوعزيزي احتجاجا على تدهور الأحوال الاجتماعية، ولكن سرعان ما رفعت الثورة التونسية شعارات سياسية صريحة ضد العائلة الحاكمة، وانتهت بالإطاحة بها. في مصر لم تبدأ الثورة أو تنته بمطلب اجتماعي، بل بدأت بنداء مشترك من عدة جماعات سياسية شابة لاعتبار العيد السنوي للشرطة في 25 يناير "يوما للغضب العام". كانت مناسبة سياسية بامتياز والهدف سياسي واضح كما الشمس، إنه "الدولة البوليسية". قبل أن تبزغ شمس اليوم التالي، كان شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" يسود. سقط رئيس الدولة وأركان نظامه، ولكن موجات الغضب لم تتوقف حتى اقتحمت مقار مباحث أمن الدولة، وليس مخازن الدقيق! في ليبيا واليمن والبحرين لا يختلف المسار -رغم اختلاف السياق السياسي- ولكنه يتفق في أن هذه المقولة ولدت ميتة، ولكنها انتظرت لتدفن تحت أقدام الشعوب الثائرة المطالبة بالحرية والمساواة والكرامة. هذا لا يعني أن هذه الشعوب لا تهتم بحقها في العمل والصحة والتعليم والسكن وغيرها، بل إنها تدرك أنه لن يمكنها التمتع بهذه الحقوق، بدون أن تدار شئون الدولة بطريقة ديمقراطية، وأن تتمتع بالحق في التنظيم السياسي والنقابي والأهلي، وأن تنتخب ممثليها في انتخابات حرة نزيهة، بما يمكنها من الدفاع عن الحق في الخبز والعمل. النظرية الرابعة، تقول إن شعوب المنطقة غير مؤهلة لحكم ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان، لأن دين الأغلبية –أي الإسلام- يتعارض مع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهى أيضا نظرية تنطوي على نظرة عنصرية لشعوب المنطقة، باعتبارها من "طينة" مختلفة. وبناء على ذلك فإن دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان في هذه المنطقة كانوا مدعوين لتكييف أنفسهم مع هذه "الحقيقة الموضوعية"، وأن يتواضعوا في أهدافهم ومطالبهم، وأن يقبلوا بمبدأ "النسبية الثقافية"، الذي يناقض مبدأ أن "حقوق الإنسان عالمية"، وبالتالي أن يقبلوا التضحية ببعض حقوق المرأة، والحق في الحرية الدينية، وفي الفكر والاعتقاد، وبضعة حقوق وحريات أخرى. قبل ثورتي تونس ومصر بنحو شهر، كان مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ينظم في ديسمبر 2010 ندوة في كوبنهاجن بالتعاون مع المعهد الدانماركي لحقوق الإنسان، ومركز الحوار المصري الدانماركي، حول مشكلة حقوق الإنسان في مصر. كانت ورقة الخلفية التي قدمتها إلى الندوة بعنوان "مشكلة حقوق الإنسان في مصر:الإسلام أم الإرادة السياسية"؟، وهى عبارة عن فصل من كتاب منشور بالإنجليزية، صدر في بداية العام الماضي. قدمت الندوة إجابات ملتبسة على السؤال، ولكن في 25 يناير، رجح المصريون بدمائهم إجابة بعينها، هى ذاتها التي قالها مواطن مصري بسيط على شاشة CNN في الأيام الأولى للثورة، "إننا فقط نريد الحقوق ذاتها التي تتمتعون بها". ونظرا للمغزى الكبير لهذه العبارة البسيطة، ظلت القناة التلفزيونية الأمريكية تعيد بثها بين فقرات برامجها ونشراتها الإخبارية لعدة أيام. في ميدان التحرير بالقاهرة، وبعد الإطاحة بمبارك والسيطرة على مقار مباحث أمن الدولة، التقيت بباحث دانماركي -كان قد شارك في ندوة كوبنهاجن- قال لي "إنكم لا تدركون كم تساعدنا الثورة المصرية في الدانمارك، لقد أدت إلى تواري اليمين العنصري في الدانمارك خجلا، والحد من دعايته العنصرية المتطرفة بحق المسلمين هناك! النظرية الخامسة، كانت تقول إن حقوق الإنسان هى قضية نخبوية في هذه المنطقة، ولا يهتم بها سوى قلة محدودة من الليبراليين والعلمانيين المعزولين المنتمين لمنظمات حقوق الإنسان، التي تحيا على تمويل من خارج مجتمعاتها. كانت الحكومات العربية تروج لهذه النظرية لدى الدبلوماسيين والصحافة الأجنبية. عندما كان يكرر لي زائر أجنبي ذلك، كنت أدعوه لأن يفسر لماذا تصل إلى منظمات حقوق الإنسان آلاف الشكاوى، من أفقر فقراء الناس وأقلهم تعلما، حتى أن أغلب هذه الشكاوى مكتوب بلغة ركيكة وغير سليمة، وفي أحيان كثيرة ممزوجة بأخطاء في اسم المنظمة وعنوانها على مظروف الشكوى، حتى يبدو أحيانا، وكأن كاتب الاستغاثة قد وضعها في زجاجة وألقاها في البحر! ولكن الإجابة الحاسمة عن هذا السؤال أو تلك المقولة، جاءت على أيدي الملايين التي خرجت في عدة بلدان في المنطقة، بمختلف انتماءاتها الطبقية، والتي اتفقت في المطالبة بحقوقها السياسية والمدنية، مبرهنة بذلك على مدى انتشار أفكار ومبادئ حقوق الإنسان لدى شعوب المنطقة. بالطبع لم يكن هذا نتيجة دور المنظمات المحلية وحدها، بل الدولية أيضا ووسائل الإعلام المحلية والدولية، وفاعلين سياسيين ونقابيين ومدونين، فضلا عن الضغوط والمبادرات الدولية خاصة في عامي 2004/2005. في ميدان التحرير بالقاهرة وفي الشوارع المؤدية إليه، كنت ألتقي بعد 25 يناير بأشخاص لا أعرفهم، يتقدموا للترحيب بي بالاسم، موضحين أنهم قد عرفوني من خلال مقالات أو أحاديث منشورة بالصورة في الصحف، أو برامج تلفزيونية. وبعد العبارة المتكررة في أغلب الأحيان: "لقد جاء اليوم الذي نجني فيه ثمار ما زرعتم"، تبدأ المناقشة حول توقعات اليوم التالي. مثل ذلك تكرر مع زملاء حقوقيين آخرين. أحدهم قال لي "كنت أسير في أحد الشوارع الضيقة المؤدية لميدان التحرير، حينما استوقفني رجل في الأربعينيات من عمره. سألني الرجل ليتأكد من أنني بالفعل الشخص الذي في ذاكرته، وحينما أجبت بنعم، مد يديه إليّ بالسلام، فما إن وضعت يدي في يده، حتى خطفها إلى فمه ليقبلها، سحبت يدي بسرعة، بينما هو يوضح المناسبات التي عرفني فيها. تواريت خجلا، بينما كنت أحبس دمعة تسللت إلى عيني". بعد ثورتي تونس ومصر، قد يبدو أن قراءة تقرير عن حقوق الإنسان خلال عام 2010، هى مهمة تجاوزها الزمن، ولكن مطالعة هذا التقرير –وبشكل خاص عن هاتين الدولتين- يكشف جذور الثورتين، وكذلك الانتفاضات الجارية في عدد آخر من الدول التي يتناولها التقرير. إنه يوضح بشكل مفصل التراكم اليومي لآلام ومعاناة الشعوب، التي أوصلتها إلى نقطة اللا عودة مع النظم التي أطيح بها بالفعل، أو التي تنتظر دورها. نأمل أن يكون ذلك قبل صدور تقرير العام القادم.